لدينا طبقةٌ وسطى تمتصُّ «دماء» الطبقة الوسطى

الكاتب جهاد الزين

تنمو في لبنان ظاهرة باتت ترتبط بالتكوين الاقتصادي الذي يديره ويغيِّرهُ نحو الأسوأ النظامُ الطائفي الزبائني في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف وهي ظاهرةُ تَحوُّلِ الجزء الاجتماعي المرتبط بالقطاع العام داخل الطبقة الوسطى في لبنان إلى مُسْتَنْزِِف للجزء الأوسع من هذه الطبقة المرتبط بالقطاع الخاص. باختصار: “أقلية” من الطبقة الوسطى هي القطاع العام يوجِّهها النظام السياسي نحو استنزاف موارد الأكثرية من الطبقة الوسطى المرتبطة بالقطاع الخاص.
مقال الدكتور توفيق كاسبار، الخبير المالي والاقتصادي المحترم، أمس الأول في “قضايا النهار” :”الوجه الخفي لمشروع موازنة 2017″ هو الذي جعلني أصل إلى هذا الاستنتاج السياسي وإن كان لم يقله مباشرة بل فتح الطريق إليه عندما أظهر كيف أن مشروع الموازنة الجديدة هو مشروع فرض ضرائب جديدة كثيرة على الطبقة الوسطى لا على الأغنياء بهدف تمويل المزيد من سياسات التوظيف في القطاع العام، وهي الطريقة السهلة والمنحرفة لتوسيع قاعدة المحاسيب وتعزيز سيطرة السياسيين على الإدارة والمجتمع والسلطة.
يقول توفيق كاسبار أن تقدير الحد الأدنى لحجم القطاع العام من العمالة هو 16 بالماية والحد الأقصى هو 20 بالماية. إذن حجم القطاع الخاص من العمالة هو بين 84 و80 بالماية.
في قطاع عام من المسلّم به أنه يضم مؤسسات معظمها متخلف وغير منتج، يصبح توسيعُهُ وفرضُ الضرائب على ذوي الدخل المحدود تحويلا لهذا القطاع العام إلى نوعٍ من استنزاف موارد تقوم به تحت إشراف الطبقة السياسية أقليةُ خُمْسٍ أو سُدْسٍ لأربعة أخماس أو خمسة أسداس اجتماعية اقتصادية تتكوّن منها الأكثرية.
في السابق عندما كان القطاع العام أكثر فعالية وانتاجية، أي في سبعينات القرن المنصرم يقول كاسبار أن حجم القطاع العام كان 8 بالماية من العمالة. هذا يسمح أيضا بالاستنتاج أنه لو كان لدينا قطاع عام أفضل إنتاجية أو أقل هدرا لكانت زيادة حجمه إلى النسب المقدّرة الحالية (16-20) مقبولة أكثر وقادرة على زيادة الثروة الوطنية والتوازن الاجتماعي. فكيف اليوم وهذا القطاع العام يبدد الكثير من الثروة الوطنية القائمة أو المنشودة في الطرقات في الكهرباء في التعليم في الطبابة وفي الخدمات عموما الحياتية أو النوعية. ومع ذلك يلجأ السياسيون إلى زيادة كلفة القطاع العام على المجتمع الممَثَّل بأكثريته في القطاع الخاص.
لا بد هنا من الإشارة أن الوظيفة الأمنية للقطاع العام تكاد تكون حاليا الوظيفة الوحيدة المنتجة والفعّالة بل التي لا غنى عنها. ففي ظروف لبنان وتزايد أعباء المؤسسة الأمنية وخصوصا بل لاسيما الجيش، يمكن القول أن الإطار الأمني يشكّل الاستثناء الإيجابي على هذه الصورة السلبية الكئيبة للقطاع العام. وأعني بالوظيفة الأمنية مهمة حماية الأمن الوطني والداخلي وليس جيوش الحراسات الشخصية الضخمة التي هي جزء من مشكلة أكلاف القطاع العام على المجتمع.
هذا هو نظامنا السياسي في مسار تحولاته: وضع أقلية في المجتمع في حالة “مص دماء” الأكثرية. على المستوى الاجتماعي لا تريد طبعا هذه الأقلية “العامة” أن تلعب هذا الدور إلا الفئة المحدودة الداخلة في شبكة الفساد. ولا تعي أصلا الوضع الذي باتت هي فيه. وهي، هذه الأقلية كالأكثرية من الناحية الأخلاقية والسياسية ضحية النظام السياسي. ما تعيه هذه الأقلية فقط هو مصالحها المباشرة والمشرعنة في القانون. لكن المسؤول الفعلي عن بنية الاستنزاف التي تُفلِّت اقتصادياً أقليةً في المجتمع على أكثريته هي الطبقة السياسية المتمادية في سياسة فرض الضرائب الخبيثة دون أي إصلاح ضرائبي حقيقي يطال الأغنياء وفي سياسة توسيع التوظيف في القطاع العام دون أي إصلاح إداري وهيكلي باتت أصلا عاجزة عنه بنيوياً.

اقرأ ايضًا: صفقة «الحريري – عون» فرضت عدم إثارة موضوع سلاح المقاومة؟
يجب أن يستتبع هذا الوضعُ على مستوى المقاومة الإصلاحية بين فئات النخبة اللبنانية الشابة، وهي نخبة يتيمة سياسيا ومحدودة الإمكانات، موقفاً تعبويّاً لا تستطيع أن تقوم بغيره كما أثبتت تجربة الحراك المدني. إنه موقف شن حملة إنهاء شرعية خطاب سائد يقوم على اعتبار زيادة مداخيل الدولة مهمةً لا اختلاف عليها. الحملة الشبابية المضادة يجب أن تعمل على ضرب شرعية شعار زيادة مداخيل الدولة لصالح شعار أكثر عدالة في الظرف السياسي الراهن وهو شعار تخفيض كلفة الخدمات على المواطن.
فحيث يتوفّر تخفيض جدي لنفقة هذه الخدمة أوتلك على المواطن يمكن أن تليها أي تأتي بعدها مهمة زيادة مداخيل الدولة. هذا يعني أن أي مشروع خدماتي للدولة أو عبر الدولة ينبغي أن تكون أولويته خفض النفقات على المواطن وليس زيادة مداخيل الدولة. الفارق كبير. فخفض النفقات يستفيد منه المواطن فورا بينما زيادة مداخيل خزينة الدولة تعني تعزيز الوضع القائم من هدر وفساد وزبائنية حين لا يترافق مع خطة إصلاحية جادة. لم تعْنِ زيادة مداخيل الدولة سوى دفع الوضع إلى أسوأ. وأحد الأمثلة على ذلك هو قطاع الاتصالات. ماذا تهمني في غياب إدارة فعالة من القطاع العام زيادةُ حصة الدولة فيما تستمر الكلفةُ على المواطن مرتفعةً وتجعل لبنان بين أغلى دول العالم؟ هذا مثال من عشرات الأمثلة. طبعا المقصود هنا الخدمات الحياتية كالماء والكهرباء والاتصالات والنفايات وغيرها.
عندما أسمع بعض السياسيين والاقتصاديين يتحدّثون بتبجيل عن زيادة مداخيل الدولة أشعر أني أمام حيلة أو دعوة مأخوذة عن نبي مزيّف وتنطلي على الكثيرين فيما يختبئ وراءها يمين طائفي طفيلي وبلا أخلاق وتقاليد يتمتّع بها اليمين الأوروبي الموصول، كاليسار الأوروبي، بدولة الرعاية الاجتماعية التي تضمن مكاسب الطبقة الوسطى المنتِجة ليس فقط في القطاع العام بل أيضا في القطاع الخاص.
مضى زمن على بدء استفحال هذه الظاهرة. الحرب الأهلية 1975-1989 مقدمتها. مقدمة الاستفحال، فولادتها سابقة نسبيا للحرب. لكن اليوم تذهب العلاقة بين عمالة القطاع العام وعمالة القطاع الخاص إلى وضع جديد خطير. يمكننا تسميته نجاح النظام السياسي في تكريس حرب أهلية ضرائبية بين الفئتين ولو من دون إرادة الفئتين إنما بإرادة واعية من الطبقة السياسية. والقليل جدا من السياسيين ليس متواطِئاً فيها.
المشكلة العميقة اليوم أن الدولة لم تعد واحدة بل دويلات، معلنة وشبه معلنة، متعيِّشة على دولة تافهة. هذه الدويلات لا تهتك القطاع العام فقط بل تحوِّلُهُ إلى “مصّاص دماء” لأغلبية اللبنانيين أيضا. وهذا يفاقم بل يُنشِئ صراعَ مصالح مفتَعلاً بين اللبنانيين وكلا الفئتين، للتكرار، هي ضحية النظام الزبائني. بل، للمفارقة، فإن دورة “مزيد من التوظيف، مزيد من الإنفاق، مزيد من الضرائب” ترتد مباشرة على موظفي القطاع العام أيضا لأنها تؤدي إلى تآكُلِ رواتبهم. بهذا المعنى فإن القطاع العام يشبه حالةَ شخصٍ يجبره حاملُ مسدّس (النظام الزبائني) على قتل آخرين ثم يجبره على قتل نفسه.
لا يمكن تجاهل دور القطاع العام التقليدي في حماية جزء مهم من التوازن الاجتماعي للبلد المعني. بل بمفهوم مسؤولية الدولة عن كل المجتمع، حماية التوازن الاجتماعي بكامله. لكن عندما يتخطى الوضع الاستنزافي المتضخِّم نقطة معينة ويتحول القطاع العام إلى عبء على الاقتصاد وعلى أكثرية اجتماعية تصبح احتمالات النتائج خطرة جدا… أيضا على الجميع.
أخيرا أعتذر عن إكثاري من التشبيهات “الدموية” في هذه المقالة! وأرجو أن تكون وجهة نظري مخطئة؟

السابق
فضيحة جنسية أخرى.. أطفالنا ضحية راهب لبناني متحرش
التالي
ما الذي يريد الغربيّون معرفته عن «حزب الله»؟