كاسترو واليسار المؤمن

المعارضون الكوبيون الذين لم تتعرّف عليهم أجهزة الأمن، والذين لم يتسنّ لهم الفرار من جزيرتهم، اعتادوا الردّ على ذاك الشعار الأبدي لكاسترو “الإشتراكية أو الموت”، فيكتبون ردّهم على حيطان العاصمة هافانا بسؤال “وما الفرق؟”: ما الفرق بين الإشتراكية والموت؟ تلك هي خلاصة الواقع الكوبي البائس في ظل حكم كاسترو الذي بدأ عام 1959، أي أكثر من نصف قرن. فالذي يفخر به يساريو الإيمان الديني، لأنه “واجه أميركا”، يترك برحيله بلاداً تنزف فقراً وبطالة، تدير إقتصاده الحيوي السوق السوداء. تلك “اللؤلؤة” الكارايبية، التي كانت في وقت من الأوقات محجّة الثوار والمثقفين الثوريين، هي بئر من الحرمان والتقشف وزهد العيش، قُتل اقتصادها بالعنْتريات. حاكمها المفدّى، الأبدي، الخالد، المطلق، القائل “أنا الثورة”، ولا أقل من ذلك… والتي كان مواطنوها يحاولون، في عزّ الحرب ضد الإمبريالية الأميركية، الهروب منها إلى عرين تلك الامبريالية، بمئات الآلاف، وبزوارق شبيهة بتلك التي يستخدمها اليوم السوريون الهاربون إلى شواطىء اليونان..تلك الجزيرة التي لم تداوي عجزها الإقتصادي إلا بـ”الإنفتاح” على السياحة الجنسية، الزهيدة، أي التي تدخل الدولارات المرغوبة إلى خزينتها عن طريق تأجير أجساد نسائها للذة سائح متحسّر على أيام العبودية الجنسية. تلك الجزيرة التي ورَّث زعيمها “الكاريزماتي” سلطته إلى أخيه، ومنه الى أبنائهما واحفادهما، كما يورِّث زعماؤنا، أو كما تورَّث عمارة أو قطعة أرض. وقبل ذلك، ذاك البطل المغوار، الذي قتل من الكوبيين ما قتل، وسجن ما سجن، يعيش في رغد من الهناء، في ترف يجاري كبار الفاسدين من قادة أنظمة “اشتراكية” بائدة، أو رأسمالية متخلفة؛ يتمتع بما يحلو له من مال ونساء وإمكانيات تضاهي ما يتمتع به أمراؤنا المنبوذون…

تلك هي كوبا، التي أصابت الفكرة الإشتراكية من الصميم، كما فعل الإتحاد السوفياتي قبلها، فحوّلتها واقعياً إلى خيار بين الموت والموت. وسؤال واحد يكفي للإحاطة بمجمل مشهدها: فيما تفكر الغالبية العظمى من الكوبيين بمغادرة جزيرتهم نحو الهدف الأقرب، أي ميامي الأميركية، وميامي نفسها تقيم فيها جالية كوبية هي الأكبر من بين الجاليات اللاتينية… هل يفكر تائه في هذه الدنيا، أو باحث عن مرْقد عنْزة، أن يهاجر إلى كوبا؟ هل تغريه كوبا كما تغريه أميركا أو كندا أو ألمانيا؟

أما الإعتداد بمستوى الصحة والتعليم الكوبي، وهي واحدة من “إنجازات” كاسترو المرفوعة عالياً، فلا ضير من التذكير بأن هذا “المستوى”، خصوصاً في التعليم، كان قوياً أيام باتيستا، عدو كاسترو وسلَفه في الحكم، وان التعليم أيضاً هو في أعلى مستوياته في جمهورية الأوروغوي المتواضعة، الديموقراطية العلمانية.

الآن، ليس لأن دونالد ترامب، المكروه، صرّح بكراهيته لكاسترو، حتى يتشنَّج اليسار المؤمن ويعلن حبه له، وتمسّكه بنضاله الأبدي ضد “الإمبريالية الأميركية”، واحتقاره، لتلك “الحجة الثانوية”، القائلة بأن كاسترو كان ضد الانسان وحقوقه؛ وكأن هذه الحقوق هي فروقات عملة لا قيمة لها إلا لدى عملاء الإمبريالية وجواسيسها. أولاً، باراك أوباما، الأميركي أيضاً، “مدّ يده” للشعب الكوبي قبل رحيل كاسترو، وبعده. ثم ان أميركا لم تعد كما كانت، إمبريالية منْفلشة طليقة اليدين، تفتك بالشعوب والحكومات الأخرى بما تيسر لها من إمكانيات عسكرية. ففي منطقتنا، وربما بقية العالم، تصعد إمبرياليات أخرى، أكثر خطورة منها، لأنها أكثر خبثاً، لأنها تلبس لبوساً آخر، غير ذاك الذي تضمره. فالأميركيون ينسحبون من منطقتا، ويتركونها لشهوات روسية إيرانية، يمكنها تحويلها إلى بؤر من صراع أبدي، دامٍ، طائفي، لا يُعرف لفوضاه حدوداً. الخطر الروسي، الخطر الميليشياوي المذهبي، تعضدهما جيوش مؤهلة بالسلاح وبالأيديولوجيا لتقتل الأخضر واليابس في منطقتنا، وتحولها الى رماد عميم. ما من جيش اميركي محتل في منطقتنا، إنما جيوش روسية، تنافسها “ودياً” جيوش إسرائيلية وتركية، وميليشات إيرانية.

إقرأ أيضاً: هذا هو فيدل كاسترو الشيوعي الذي تحدّى أميركا

اليساريون الذين يبجّلون كاسترو بعد رحيله، على أساس ان قمع الحريات وحبس الشعوب من التضحيات الواجبة لمواجهة الإمبريالية، هم مثل المؤمنين بدوغما دينية لا فكاك منها، ولو تناقضت مع “قناعاتهم” الأخرى. ففيما هم يدبّجون آيات المديح للقائد “الماكسيمو”، ينسون انهم هم أنفسهم، وفي لحظات معينة من “تحليلهم”، يحيلون مشكلاتنا كلها إلى الإستبداد العربي المقيم. ليس هذا تناقضاً رخيصاً فحسب؛ انه استهانة بعقولهم نفسها، نوع من المسايرة الفارغة والكلام المرسل الذي لا معنى له، سوى توثيق لإيمان ميت، قوامه عصبية يسارية فاشلة، تنقذها من الإنهيار دول المحور الروسي الجديد، مثل سوريا الأسد، إيران، والجزائر، وفنزويلا…

إقرأ أيضاً: كاسترو: اللغزُ الثقافي للوعي اليساري

مشكلة أخيرة هي “الكاريزما” التي “يتمتع” بها كاسترو. ما من فضيلة ذهنية وجسدية و”جمالية”، إلا وتُلصق بكاسترو، فتؤبّد بذلك حكمه المطلق، حتى بعد وفاته. فإذا كان كاسترو، “بهيّ الطلّة”، وصاحب “إرادة حديدية”، و”ذاكرة خارقة”، و”ذكاء لا محدود”، و”موهبة خطابية فذة”، و”شجاعة مذهلة”، و”حظ إستثنائي”… وكلها صفات خلّابة… فهل تجيز تحويل صاحبها إلى معبود، إلى إله يمشي على هذه الارض، فيفْتك ما يشاء بجزيرة جميلة، ويكبّد أهلها جميع أنواع العذابات التي يسخّفها اليساريون المؤمنون، إذ يقارنونها بـ”الإنجازات العظيمة” لمحاربة “الإمبريالية”؟ فيما عليك البحث عن هذه “الإنجازات” في رمال الشواطىء الكوبية الناعمة…؟

السابق
إصلاحاً للخلل القانوني في المجلس الشيعي(٢): نظرة على الإفتاء الجعفري
التالي
سمير فرنجية… ويكفي