الاشتراكية العصرية الجديدة أو مستقبل الحرية

في هذه الحلقة يدق جينيرو ناقوس الخطر حول مستقبل الحياة البشرية على سطح الأرض ويطرح مفهوماً جديداً اشتراكياً للتقدم الإنساني وآخر للبيئة مشيراً إلى أن تعميم نمط الحياة الأمريكي القائم حالياً على القسم المتبقي من الكرة الأرضية سوف يتطلّب أربعة أضعاف ونصف الضعف من مساحة الكرة الأرضية للمحافظة على نظام بيئي قادر على بقاء النوع البشري، وحتى لو تم الاكتفاء بنمط الحياة الأوربي سيتطلب الأمر ثلاثة أضعاف مساحة الكرة الأرضية. ويستبعد جينيرو إمكانية نجاح علم البيئة في وظيفته لحماية الحياة على الأرض إذا لم يقترن بالتقدم الإنساني. ويضيف قائلاً إن الطموح في بناء مجتمع تقدم إنساني سيكون كفيلاً لتحريض خيارات تجعل من الضروري التراجع في نمو الاستهلاك المادي حتى لا يفنى الجنس البشري عن وجه الأرض، فمن دون تحقيق التقدم الإنساني ستكون البشرية مهددةً حكماً بزوالها.لهذا يجب أن يكون الهدف تحقيق حياة بشرية مستدامة على الأرض وليس تنمية رأسمالية مستدامة تقوم على استنفاذ الموارد لرفع مستوى الاستهلاك. ويرفض جينيرو مقولة الرأسمالية الخضراء وينفي وجود تنمية مستدامة لمزيد من الاستهلاك أو وجود رأسمالية خضراء،لأن هدف الرأسمالية الخضراء هو في الحقيقة استدامة الرأسمالية بتلويث أقل للبيئة ولكنه غير كافٍ لحماية البيئة بل سيقود إلى استنفاذ النظام البيئي بشكل عقلاني وبطيء، قد يطيل الحياة على الأرض ولكنه لن يديمها إلى الأبد! ( المترجم)

4-5. المفهـوم البيئـي للتقــدم
والمفهوم الاشتراكي للبيئة
لن أتوسّع هنا في الإلحاحية البيئية التي تحظى تقريباً باعتراف عالمي. بمقياس" البصمة البيئية (1)  ، فإن انتشار نمط الحياة الأمريكي إلى القسم المتبقي من العالم سوف يتطلّب من الأراضي ما يعادل 5،4 اربعة أضعاف ونصف مساحة الكرة الأرضية؛ وتعميم نمط حياة أكثر اقتصاديةً لفرنسي سيحتاج مع هذا 3 كرات أرضية. والمشكلة أننا لا نمتلك سوى كرة أرضية واحدة لتأمين بقاء النوع البشري. وضرورة تحقيق تخفيض جذري في الإنتاج والاستهلاك، اللذين يستنفذان مخزون الموارد غير المتجددة، التي تسهم في التغيير المناخي وتؤدي إلى تردي المحيط الطبيعي، تشكّل منذ الآن حاجة حيوية ملحة للإنسانية.
وبعد طرح مسألة إلحاحية التغيير المناخي والبيئة سأتناول منها ما يتعلّق بموضوعي، الذي هو المفهوم الصحيح للأهداف الاجتماعية ولترابطها في إطار مشروع المجتمع.إذا كانت طريقة التفكير العصري العادي، تقوم على تفكيك هذه الأهداف وعزلها عن المفهوم الشامل للتقدم الإنساني، ستكون هناك خشية كبيرة من تأرجح البيئة بين خطرين يشكلان، كل منهما طريقاً مسدوداً: المذهب الطبيعي الجذري وغير الفاعل أو عكسه مذهب بيئي سطحي مكرّس لتأمين البقاء المؤقت للرأسمالية .

1- خرافة علم البيئة دون تقدم
إنساني
تتمثّل العقبة الأولى في علم بيئة غير مرتبط بالأهداف الأخرى للمجتمع الإنساني والذي يريد إخضاع هذا المجتمع إلى متطلّب وحيد لا يمكن دعمه والدفاع عنه: حماية "الطبيعة" أو الحفاظ على بقاء الكرة الأرضية.العنصر البشري يشكّل جزءاً من "الطبيعة" وهو بالتالي في طبيعة تاريخ كرتنا الأرضية وفي تغيّرها على مدى وجودها بفعل الكائنات الحية. فليس هناك أبداً "طبيعة" مستقلة عن الإنسانية بمقدار ما لا توجد حياة بشرية مستقلة عن وسطها المادي. حماية "الطبيعة" بذاتها لا يمكن أن تكون هدفاً للكائنات البشرية، لأن الوسيلة الوحيدة لتأمين مثل هذه الحماية ستكون بإنهاء النوع البشري. فإذا تعلّق الأمر بسؤال حول الغايات التي يجب على الفعل الإنساني تعبئتها، يجب عندئذٍ البدء بتصور الأهداف القادرة على تعبئة الكائنات البشرية. هذه الكائنات في الغالبية لا يغيرون جذرياً أسلوب حياتهم وطريقة إنتاجهم من "أجل إنقاذ الطبيعة" فقط أو من "أجل الحفاظ على الكرة الأرضية"، لأن هذا ليس مبرَّراً بذاته أكثر من استغلال العالم بالقدر الممكن لتحسين مستوى رفاهيتهم.وإنما يجب بوضوح إقناع الإنسانية في أن الأسلوب العصري في استغلال الوسط المادي لا يتوافق مع رفاهيتهم الخاصة.

ما دام علم البيئة يركّز على رفض تخريب الوسط الطبيعي وعلى توصيف الكوارث المستقبلية التي ستلحق بالإنسانية، لن يكون له أي تأثير ملموس على السياسات العامة أو على أنماط الحياة. تنتظر المجتمعات البشرية أن تكون معنيةً مباشرةً بالموضوع كي تتصرّف بما يجب. يمكن الأسف لهذا ولكن لا يمكن تجاهله. فوعي الآثار المباشرة للتلوّث على الصحة وآثاره في المستقبل على أطفال الجيل الحالي هو الذي بدأ بالتعبئة الفعلية للرأي العام، وبالتالي تعبئة رأي المسؤولين السياسيين! حتى في هذه المرحلة من الوعي الجماعي نلمس هناك وجود صعوبة كبيرة في تحريك عملية إعادة توجّه سريعة وجذرية في أساليب الإنتاج والاستهلاك بتحريض الخوف فقط من الكوارث المقبلة.إذا اقتصر الأمر فقط على الحد من الأضرار( المعلن عنها جزئياً أنها غير قابلة للإصلاح) بالموافقة منذ الوقت الحاضر على تخفيض ملموس لنوعية المعيشة، حيث تتوافر المصلحة لأكبر عدد من الذين يواجهون حالياً صعوبة العيش؟

هذا ما أحاول هنا لفت الاهتمام إليه، أي أن الهدف البيئي لا يمكن تحقيقه وحمايته بمفرده معزولاً عن باقي الأهداف الاجتماعية. لا يمكن المحافظة عليه إلاّ بوجود شعور حقيقي من التضامن مع الأجيال المستقبلية- بمعنى توافر متطلّب عالي من العدالة-، يكون هو ذاته مدعوماً بشروط الحياة الحاضرة في مجتمع عادل تغمره ثقافة المساواة. لا تمكن المحافظة على الهدف البيئي إلاّ إذا أمكن إظهار فوائد نمط جديد من المعيشة والإنتاج يقوم على نوعية من الصلات والعلاقات الاجتماعية، من الخدمات الجماعية أكثر مما يقوم على التراكم الخاص للخيرات المادية. يمكن للأغلبية أن تحتشد من أجل مجتمع أكثر عدالةً، أكثر أمناً، مسالماً بعدالة التربية، حيث يستهلك الأفراد أقل ليعيشوا أفضل، حيث يتوافر الوقت للعيش ببساطة تامة إذ تحل المنافسة الودية للفوز بالتقدير الاجتماعي محل التنافس التفاخري لزيادة الاستهلاك. وهكذا يقود الطموح في مجتمع إنساني ببساطة إلى تحريض خيارات تجعل التراجع الضروري في نمو الاستهلاك المادي أمراً ممكناً.

يقوم تعريفي للتقدم الإنساني على تفعيل تكامل النظرة البيئية في تآذر مع مجموع الأهداف الاجتماعية. يسعى مجتمع التقدم الإنساني إلى توفير نوعية حياة للأفراد، وتفتحهم وانشراحهم في مجتمع تضامني مسالم، بالمساواة وبتكثيف الصلات الاجتماعية وتنويعها. مثل هذا المجتمع يعطي الأولوية للتربية، للصحة، للخدمات الجماعية، للتوزيع العادل للثروات أكثر من تعظيمها؛ هذا المجتمع يغذّي متطلّب الثقافة والمساواة الضروري للاهتمام بالأجيال المستقبلية؛ إنه ( المجتمع) يستوجب تحديداً متشدّداً للتنافس الإنتاجي الذي يكون مؤذياً بالتوازن الجسمي للأفراد كما للتماسك الاجتماعي. ليس لهذا المجتمع حاجة في " التنمية " إلى أبعد من الحد الذي يكفي لإشباع الحاجات الحيوية لجميع الأفراد. . إنه لا يسعى إلى تنمية مستدامة بل لحياة بشرية مستدامة: انطلاق حرية الأفراد المتساوية في السلام والحياة الاجتماعية هو في الأساس من عمل العلاقات الاجتماعية؛ لا يستوجب بالتأكيد استعمال المزيد من الموارد الذي يسمح به النظام البيئي ؛ بل على العكس إنه يستدعي وقف كل تنمية تتجاوز الطاقة الحيوية للكرة الأرضية ، لأن مثل هذا التجاوز يشكّل تعدياً على الحق المتساوي لكل الناس في الوجود.

بالمختصر، في مجتمع يسوده التوجّه نحو التقدم الإنساني، ليس الهدف البيئي بحاجة للدفاع عنه لذاته فقط، فأسلوب الحياة في هذا المجتمع بطبيعته بيئي وأسلوب الحياة البيئي بدوره يسهم في تحقيق التقدم الإنساني. في مجتمع التقدم الإنساني كل من الأهداف الأربعة ليس في الحقيقة هدفاً بذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق الأهداف الثلاثة الأخرى ومجموع هذه الأهداف كلها هو الذي يشكّل الهدف.

2 – أوهام التنمية المستدامة
والرأسمالية الخضراء
تتبدّى ضرورة تعايش الأهداف الأربعة ( تواجدها معاً) بوضوح أكثر عندما نأخذ بالحسبان العقبة الثانية لمفهوم البيئة المستقل بذاته. الدفاع عن الطبيعة( أو حماية الوسط البيئي) يمكن أن يبدو قيداً عاماً ، مستقلاً عن الخيارات الليبرالية والاشتراكية، بين اقتصاد رأسمالي واقتصاد إنساني، بين سياسة يسارية وسياسة يمينية ، الخ. من ناحية تاريخية ومن ناحية أخرى فإن مسألة البيئة قد ظهرت فعلاً على هذا النحو،لأنها وجدت نفسها مُهملةً من قبل مجموع التيارات السياسية التي تحولت جميعها إلى عبادة المذهب الإنتاجي في النمو. وبعد هذا التحوّل قاد وعي مسألة البيئة بدايةً، اليسار واليمين للبحث عن طرق لتحقيق نمو أو تنمية "مستدامين"، قبل أن يركّز منظرو تراجع النمو (2) على ضبابية ومخاطر مثل هذا المسار. وفضلاً عن ذلك، وكما تحوّل معظم المسؤولين السياسيين من مختلف الاتجاهات نحو الرأسمالية واقتصاد السوق، ساد التفكير أيضاً في أن التنمية المستدامة هي تكييف الرأسمالية واقتصاد السوق مع المحدّدات البيئية.

إن مقولة التنمية المستدامة (3) هي جزءٌ من اهتمام جيد: تصوّر تنمية تستجيب لحاجات السكان الحاليين دون إضرار بقدرة الأجيال المستقبلية في الاستجابة لتلبية حاجاتهم. ولكن هذا الاهتمام بمجمله اهتمام مضطرب. بعض الباحثين يعتقدون أن هذا الاهتمام يُقرّ مبدأ المسؤولية الذي أعلنه هانس جوناس : " تصرّف بطريقة بحيث تكون آثار فعلك منسجمة ، على نحو جوهري، مع ديمومة الحياة الإنسانية على الأرض." ومع هذا ليس هناك شيء من هذا في تعريف التنمية المستدامة. فهذه التنمية لا تهتم بديمومة " حياة إنسانية على نحو جوهري" بل إنها تفترض فقط أن التنمية المستمرة عملية ضرورية لإشباع الحاجات الإنسانية وبالتالي يجب الحفاظ على قدرة التنمية للأجيال المستقبلية. الأمر إذاً مرتبط بفعل استدامة التنمية .
وبعد ذلك، ليس مستغرباً أبداً أن تتلقّف الرأسمالية، التي لا يمكن المحافظة على أرباحها دون تحقيق النمو، بسرعة كبيرة ديانة التنمية المستدامة ( أي إن الرأسمالية تتبنى زيادة النمو أمراً مقدّساً كديانة جديدة-المترجم). هذا التحوّل العام في السياسات وعند المشروعات ، إذا كان يمكن له أن يُظهر وعياً للرهان البيئي بصورة تبعية لهدفه الأساسي، فإن هذا الوعي سيكون محدوداً في أحسن الحالات بإدماجه كمحدّد خارجي للنموذج الرأسمالي ، محدّد يجب دمجه بطريقة أو بأخرى لتأمين خلود هذا النموذج والحصول على مزيد من الربح من خلال تطوير الأفضليات الجماعية. في الواقع، تحوّل طلب المستهلكين في الدول الغنية نحو الزراعة " الحيوية"، نحو التغليف بمواد غير ضارة بالبيئة، نحو المنتجات القابلة للتدوير ، نحو التوفير بالطاقة، الخ.وهذا يفتح الطريق أمام أسواق جديدة " للرأسمالية الخضراء"، أمام بيئة أعمال تستخدم ذات أساليب "الرأسمالية السوداء" وطرق إدارتها بهدف تعظيم ربحية رأس المال. بعض هذه الأنشطة المتطورة تشكّل جزءاً من حلّ التحدي البيئي؛ ولكن ليس لتطور هذه الأنشطة، في المنطق الرأسمالي، أي فرصة ليكون اتجاهاً في المصلحة العامة. فالرأسمالية لا يمكنها ، بالتعريف، أن تتبنى رؤية بيئية سوى بمقدار ما تكون متوافقة مع تعظيم الأرباح. وستبقى الرأسمالية محكومة بمنطق إنتاجي استهلاكي يقود إلى تعظيم " الآثار الارتدادية"أي إلى زيادة استهلاك الطاقة والموارد غير المتجددة الضرورية لتنمية منتجات خضراء جديدة.مثال رمزي للضلال الذي يمكن أن تقود الرأسمالية نحوه يتجسّد في الوقود الحيوي:  تتخلى البلدان الفقيرة عن أراضيها، الحيوية لاستقلالها الغذائي، إلى الشركات المتعددة الجنسيات التي تطوّر إنتاج الوقود الحيوي؛ من أجل أن يستمر أصحاب السيارات الفارهة في دول الشمال من التحرك بسياراتهم من دون نفط وبذلك يتم تجويع فقراء الجنوب!
الرأسمالية الخضراء هي في الحقيقة رأسمالية مستدامة تعتزم اعتماد تلويث أقل لتستطيع أن تلوّث أطول مدة زمنية ممكنة! الأمر لا يتعلّق بحماية النظام البيئي في مصلحة الإنسانية، بل يتعلّق باستنفاذ هذا النظام بشكل عقلاني، بمعنى استنفاذه بطريقة تعظّم الربح الإجمالي قبل انقراض الجنس البشري.

مع التسليم بأن الرأسمالية الخضراء تقدّم للإنسانية إمكانية تأخير مهم بإبطاء تخريب النظام البيئي فإن ذلك لا يشكّل تقدما للإنسانية، لأن ذلك يتعلّق أيضاً بالمحافظة على منطق المنافسة الدائمة لأطول مدة ممكنة وعلى السباق الضاغط على الأداء الفردي، على التفكّك الاجتماعي والعنف المتولّد عنه؛ باختصار يتعلّق الأمر أيضاً بإلغاء الغايات الإنسانية الأخرى المتمثّلة في تحرّر كل الأفراد ، العدالة والانسجام الاجتماعي.لا تهمنا كثيراً المحافظة على الحياة البشرية مؤقتاً لمدة قصيرة بفضل رأسمالية مخضرّة، إذا كان ذلك يعني المحافظة على حياة غير إنسانية لمليارات من الناس وعلى مزايا لبعض الملايين الآخرين، إذا كان ذلك يعني تأمين " ضغط مستدام"، "عدم عدالة مستدام"، "عنف اجتماعي مستدام".
كذلك، البيئة التي تتجاوز النقاش الأيديولوجي ( كما لو كان ممكنا التوصل إلى سياسة بيئية حقيقية مهما اختلف النظام الاقتصادي والاجتماعي) هي خداع، مجرّد مشروع سياسي تسويقي لتشعيب الطرق" إلى اليمين، إلى اليسار" تحالف بالفعل مع الرأسمالية،لأن من شأن ذلك أن ينشر الوهم في أنه من الممكن إعادة توجيه الإنتاج دون تغيير أسلوب الإنتاج المعتمد.

3 – البيئة هي سياسة
والسياسة البيئية سياسة اشتراكية
ليس هناك رأسمالية بيئية لا يوجد سوى اشتراكية بيئية بالتعريف، منذ اللحظة التي يتم فيها إدراك أن التحرّر المتساوي لكل الناس يتم بفضل نوعية العلاقات الاجتماعية.بفهم الاشتراكية على هذا النحو باعتبارها بيئية تعريفاً فإنها كظاهرة يجب بناؤها في المستقبل. فليس لدى الإنسانية، على ما يبدو،متسع من الوقت لتنتظر حتى تتحقق كل خصائص مجتمع التقدم الإنساني لكي تنكب بصورة طارئة على إنجاز التحوّلات الجذرية التي يستوجبها حالياً تردي نظامنا البيئي. لكن في هذا سبب إضافي كي لا نثق بالرأسمالية وبالأسواق. لإيصال البصمة البيئية للبلدان الغنية إلى المستوى الذي ينسجم مع الطاقة الحيوية الإجمالية لا بد من تخفيض استهلاكاتهم من الموارد (4) إلى الثلث أو الخمس حسب كل حالة. ويجب تقليصها أكثر أيضاً ، لأن الدول الناشئة لن توافق أبداً على تخفيض إنتاجها واستهلاكها قبل أن تصل إلى مستوى اللحاق تقريباً بمستوى تنمية دول الشمال الصناعية، وأيضاً لأنه سيكون من باب العدالة تخصيص موارد إضافية، لمدة من الزمن، لدعم الدول الفقيرة حيث المواد الأساسية ليست متوافرة لها بالمستوى المقبول. فهل سيكون هذا ممكناً؟ قد يُشكّ في هذا الأمر. ولكن الموضوع الحقيقي الوحيد للتفكير يتمثّل في فهم في أية ظروف يصبح ممكناً ما هو ضروري

رفع هذا التحدي يستدعي إعادة توجيه البحث الصناعي من البحث الأبدي عن منتجات جديدة للاستهلاك باتجاه التوفير في الطاقة، باتجاه الطاقات الجديدة، تقنيات معالجة النفايات وتدوير الموارد، الخ. يجب أيضاً برمجة التخفيض المنتظم لاستهلاك الخيرات المادية وتأمين التشغيل الكامل للعمالة بنمو الخدمات الجماعية التي تحسّن نوعية الحياة( تنظيم الشباب، التربية والتعليم،التأهيل المستمر، الصحة، مساعدة الأشخاص التابعين ، الأنشطة الثقافية، الخ.) كما يجب التفكير بالإضافة لذلك بمسألة السكن،بقضية التحضّر، بتوطين الأنشطة،بوسائط النقل،الخ. سعة التغييرات الضرورية وطبيعتها تبدوان بوضوح غير منسجمة مع منطق الرأسمالية والتجارة. كما إن إعادة توجيه ضخمة في الطلب ، في الإنتاج،في الاستثمارات والبحث ( وبالتالي في التدفقات المالية وفي اقتسام الأموال العامة/ والأموال الخاصة) ليس لها فرصة في التفعيل عفوياً وبسرعة بفضل " اليد الخفية" للأسواق وبفضل شهية الرأسماليين لمزيد من الأرباح.على العكس فإن عولمة اقتصاد السوق والرأسمالية ساهمت في تفاقم تخريب مبرمج للبيئة بعقدين من النمو الصناعي في مجتمعات غير مهتمة بآثار تنميتها على النظام البيئي. منذ أعوام سبعينات القرن العشرين كان معروفاً أنه يتعذّر الدفاع عن نموذج النمو العصري، لأنه يرتكز على استغلال الموارد الطبيعية غير المتجددة وفق سلسلة هندسية

ولكن في الوقت الذي أدرك فيه العالم تبعيته الشديدة للنفط والأذية البيئية للنمو، في اللحظة التي كان يجب أن يفكّر في التخطيط لاقتصاد ولمجتمع يمكن الدفاع عنه بالنسبة للإنسانية، أخضعت الليبرالية الجديدة قيادة التنمية لمتطلبات الربحية المالية. لقد تأخرت الإنسانية بذلك ثلاثين عاماً عن إدراك ضرورة طريق آخر للتنمية. يُضاف إلى ذلك نشرت العولمة نموذجاً لا يمكن الدفاع عنه في كل أرجاء الكرة الأرضية؛ أدت العولمة إلى تراجع الاستقلالية الغذائية للبلدان النامية؛ كما شدّدت من البحث عن فائض الإنتاج للتصدير؛ باعدت المسافات بين أمكنة الإنتاج وأمكنة استهلاكها فأدت بذلك إلى انفجار استهلاك الطاقة لنقل البضائع لوحده؛ كما سرّعت في تخفيض مساحات الغابات وفي تراجع التنوع الحيوي، الخ.

وهكذا يكون واضحاً أن حركات رؤوس الأموال والأسواق العفوية لا تحفّز الأنشطة وإعادة الهيكلة التي تحتاجها الإنسانية بصورة ملحة؛ لأن تحرك رؤؤس الأموال تتجه لزيادة الأضرار الاجتماعية والنفسية والبيئية أكثر من تلبية حاجة الإنسانية إلى إعادة الهيكلة. فقط وحده تفعيل التخطيط البيئي والديمقراطي للاستثمارات والتحوّلات الضرورية يمكنه أن يقود إلى إعادة توجيه سريع ومستمر لعمليات الإنتاج وأنماط الاستهلاك.يجب إحلال نوعية الحياة محل نوعية الأداء. يجب أن يحل تذوّق الوقت الحر محل قلق الأوقات الميتة. كما يجب أن يعود ضغط المنافسة إلى المستوى الأدنى الضروري للإنسانية أي إلى المنافسة الرياضية الودية وإلى الألعاب الاجتماعية الهادفة للمحافظة على الصلات أكثر من السعي لتعظيم المكاسب.

بكلمة واحدة، إعادة التوجيه البيئي لأنماط حياتنا يجب أن يمر بالضرورة عبر مؤسسة "اقتصاد إنساني" يحل محل الرأسمالية ومحل الاقتصاد الموصوف تجاوزاً بأنه "اقتصاد سوق". والاقتصاد الإنساني لا يوصف بكونه اقتصاداً بيئياً : إنه بيئي إلى حد ما بطبيعته، كما إنه في ذات الوقت مصدر للحرية، للمساواة والميل للاجتماعية.لأن كل ما يكون متوافقاً مع حركة الحياة الإنسانية لا يمكن إلاّ أن يكون في مصلحة التقدم الإنساني وبالتالي فإنه بهذه الطريقة يسهم في الفعل المشترك للأهداف الاجتماعية الأربعة غير القابلة للتجزئة والانفصال عن بعضها.

(1) – قياس الأثر البيئي للأنشطة البشرية المعبّر عنه بمساحة الأرض الضرورية لتأمين موارد تستهلكها هذه الأنشطة وتتحمل نفاياتها. في عام 2005 تم تقديرها بِـ 1،2 هكتار من الطاقة الحيوية الإجمالية ( المساحة المتاحة للساكن الواحد) البصمة البيئية للفرد الواحد كانت حينئذٍ 4،9 هكتار في الولايات المتحدة الأمريكية و 6،5 هكتار في فرنسة. المصدر: صندوق الحياة البرية (WWF) تقرير الكرة الأرضية حيةً, 2008.
– البصمة البيئية تُقاس بالمساحة الأرضية الحيوية اللازمة للفرد الواحد من السكان للحصول على الموارد المعيشية وللتخلص من النفايات الناجمة عن استهلاكه. تختلف هذه البصمة تبعاً لمستوى التطور في كل بلد من بلدان العالم وهي في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى منها في أي بلد في العالم إذ تصل إلى 4،9 هكتار للفرد الواحد (المترجم).
 – المذهب الطبيعي مذهب فلسفي يقول إن الطبيعة هي الأساس وبالتالي يجب عدم تخريبها بفعل التدخّل الإنساني بينما يرى أنصار الفكر الليبرالي العصري ممن سماهم جينيرو بالبيئيين السطحيين أولئك الذين يرون استغلال موارد الطبيعة بالطريقة التي تؤمن أعلى مردود ممكن على حساب مستقبل بقاء النوع البشري.
(2) – انظر على الخصوص بول آريس، تراجع النمو. مشروع سياسي جديد, دار غولياس، 2007؛ فنسان شينيه، صدمة تراجع النمو ، دار سوي، 2008؛ سيرج لاتوش، رهان تراجع النمو ، دار فايّار،2006. ومن أجل وجهة نظر نقدية ،كريستيان كاميليو، النمو أو التقدم، دار سوي،2007.
(3) – تعبير التنمية المستدامة تضمنه "تقرير برونتدلاند"،التقرير المقدّم للأمم المتحدة في 1986 من قبل غرو هارلم بروندلاند، وزير البيئة النروجي.
 – إني لا أرى فرقاً في ما يقوله هانس جوناس في فهمه للتنمية المستدامة وما يدعو إليه السيد جينيرو فكلاهما يؤكد على ألاّ يكون النمو الحالي عائقاً في طريق أن تكون الأجيال القادمة قادرة على الحياة على نحو جوهري، أي عدم المساس بحق الكينونة للأجيال المستقبلية كما للجيل الحالي . المشكلة في رأيي تتمثّل في أن الليبرالية الاقتصادية تركّز على الهدف الراهن في بلوغ أقصى درجات إشباع الحاجات، بل وفي السعي لخلق حاجات جديدة قد لا تكون ضرورية للحياة الإنسانية وإنما هي ضارة بها، من أجل تشجيع الاستهلاك ورفع مستوى الطلب لتحقيق تراكم أكبر في ثروات الأغنياء ليس فقط على حساب الأجيال المستقبلية بل على حساب غالبية سكان الأرض من المحرومين والمهمّشين أيضاً. ( المترجم) .
 – وهذا يؤكد أن نموذج النمو الرأسمالي القائم على السعي لتعظيم الأرباح لا يمكنه أن يهتم بالمسألة البيئية لجهة توفير موارد للأجيال القادمة أو للتخلّص من هدر الموارد أو العمل على إعادة تدوير النفايات لأن كل ذلك يؤدي إلى زيادة التكاليف وتخفيض الأرباح مما يشكّل نقيضاً واضحاً للهدف الرئيس لنموذج النمو الرأسمالي ( المترجم).
(4) – بما في ذلك تقليص إنتاج النفايات المترافقة بهذا الاستهلاك.
 – السلسلة الهندسية تتضاعف أرقامها بتربيع القيم بين فترتين 

  ترجمة مطانيوس حبيب – البعث

السابق
مجموعات من الولايات المتحدة ساعدت على تغذية الانتفاضات العربية
التالي
الإخوان والنهضة وامتحان ما بعد الثورة