بعد بئس السنين تكلّمت الفيحاء.. فماذا قالت؟

سئلت الفيحاءُ مرّةً، ما بكِ فيحاء ترى الدمع يملؤك حنيناً؟ ما بك الغصة في عنقك عنيناً؟ ما بكِ فيحاء؟... سئلت فيحاء مرّةً ، ما بها ثيابك مقطعةً، يداكِ متجرحةً، ما بكِ فيحاء؟

لم تدع السائلَ يُكملُ ما يجول بخاطره، استفاقت واستمهلته، مسحت ألم سنينها، خلعت ثوبها الممزق، ضمّدت جراحها، ووقفت عروساً تتحضر لزفافها… فتحت خزانتها تنتقي أبهى ما فيها، ارتدت ما يليق بها، علّقت خواتمها وحليّها، ولمّا انتهت استدارت وراحت ترمقني بنظرة يحتويها وجهها لأوّل مرة، فهالتني هاكِ الهامة. همّت بالكلام فانتظرت منصتاً ومستغرباً في آن، كيف تكلمي مدينتي وهي قليلة الكلام وكثيرة الصمت، لطالما بكت وما شكت يوماً. سألت لآخر مرّة: ما بكِ فيحاء؟ فأجابت بكلام فيه ما فيه من شجن وتعب ولوم، وقالت:
أَمَا عرفتني يا ابن رحمي، أَمَا عرفتني؟؟؟ أما عرفتني أيا من كان حضني لك مسكناً، وسمائي لك جداراً وسقفاً، وخيراتي قوتاً؟؟؟ أمَا عرقتني؟؟ لا عليك، فلا عجب في زمنٍ أنكر فيه الولد أمه، أو لم يعد يعرف وجهها، لا عجب في زمن ذبح فيه الأب ابنه، وطغت صلابته على ابوته، لا عجب.
تقترب مني الفيحاء قليلاً، تضع يدها على كتفي، تربّت عليه بثقل،تنظر إليّ وتقول: أمَا عرفتني با ابن بطني؟؟؟ لا عجب بعدما غيّروا ملامحي في الأمس، أنا يا بني طرابلس، طرابلس التي مزّق الرصاص جسدها ونسيجها… أنا طرابلس التي أبكوا بيوتها أياماً وسنوات… أنا طرابلس التي اغتصبوا حرمتها… أنا يا بني طرابلس التي لم يضمدوا جراحها في عزّ نزيفها… أنا التي أغرقوني في حساباتهم، البعض تقاسمني حِصةً وحِصصاً… أنا الفيحاء التي خذلها كثر، فوسموا أبنائي بعضهم بالإرهاب وبعضهم بالمطلوب الذي يتلطى هنا وهناك…

اقرأ أيضًا : برلمان شباب الفيحاء في ذكرى 13 نيسان: لا للحرب نعم للوحدة
أنا الفيحاء التي مزّقت قضبان السجون أيادي أبنائي.. أنا التي لم يسمع أحد منهم أنّي بريئة وبريّة.. أنا طرابلس التي قسّموها إلى حي وأحياء.. أنا الفقيرة بخوفهم عليّ لكنّي غنيّة بإيماني.
تقترب مني أكثر وتكمل بالقول: تسألني ما بكِ يا ابن بطني، أنا الجريحة التي قامت من بين الأموات، أنا الحية المبعوثة من تحت الرماد، أنا الجميلة الأنيقة رغم كلّ شيء.. رغم تعبي ودماري. تسألني يا ابن رحمي من أنا؟ نِعمَ السؤال تسأله الآن.. أنا التي استعيد اليوم حضارتي، تاريخي، بريقي، فرحتي، صوتي ومكانتي.. أنا التي أستعيد اليوم رجالاتي الذين ما خالفوا وعدهم، بل حفظوا عهدهم.. أنظر تراني أرقص وأغنّي، والجميع ينظر إليّ، حسداً وتحسّراً.. وأنا التي أستعيد بندقيتي، أمني، سلامي ورسالتي.. ولكلّ حاقد أقول حذارِ رصاصي..

اقرأ أيضًا : الفيحاء تستعيد نيسانها بـ «مهرجان الأفلام»: طرابلس ليست حربًا…

لكني ورغم كلّ شيء فلن أكيل بمكيالهم، فأنا أرقى وأشرف، والوقت وقت العمل لا وقت التلهي بلعبتهم.. اليوم دعني وشأني وكفّ عن سؤالي، ولا تعكّر صفو عرسي الجميل، إنّي بكلّ فخر الفيحاء طرابلس، وإنّهم بكلّ أسف يحصدون ما بذروا في الأرض.. كفّ عن سؤالي وتعالَ هيّا، فقلبي ومسرحي وأرضي للذين يعبدون أرضي أمناً، ويضيئون سمائي فرحاً.

السابق
رُعب القاتل: من الأسد إلى «الممانعة»
التالي
طرابلس من قفص الإرهاب إلى ساحة الفن: شكراً سليمة ريفي