أمنية لن تتحقق

لو عاد عمّي داود من آخرته التي انتقل إليها ليلة عيد الفطر من العام المنصرم، عاد إلى دنيانا ونفحني صباح هذا العيد نصف ليرة قضية اللون، كما كان يفعل من طفولتي إلى شبابي، وظلّ يسعفني بقرض أو هدية من مال من ربحه من بيع الشتول كلما عرف أني في ضيق.

اقرأ أيضاً: الفارق بين الاستقطاب الشيعي والسنّي

لو أن عمي هذا قد عاد، وأعطاني العيدية، لابتدأت بالشعور بأن العيد قد عاد! عاد بما مضى وعلى رضى، على عكس ما كان المتنبي يشكوه أو يرجوه من تجديد في العيد.
نحن يكفينا أن يكون عيدنا، كما كان بلا زيادة أو نقصان. علماً بأني أفترض أن عمّي سينفحني نصف ليرة، كما كان، حتى بعدما قاربتُ الستين. لأني كنت أشعر بأنه كلما كان عقلي أكبر أصبح الطفل في كياني أبهى وأجمل!
أفترضُ أن عمي قد ينفحني ربع ليرة أو ربع الليرة الوحيد الذي في جيبه. كان فقيراً لأنه قرأ في عينيّ شوقي إلى عيديته. وقد لا يجد أكثر من عشرة قروش يضعها في يدي، ويتمم قيمتها الشرائية بدمعة، أو يسلّم من بعيد ويمضي منكَّس الرأس. لأنه لا يجد لي شيئاً، فأذهب إلى أبي أشكو له حالي من حالي فيفهم وينفح أخاه، على ضيق ما يوفر دمعه، فيصلني منه خير. لو حصل ما افترضه لكان العيد عيداً.

العيد في طرابلس
ولو أن خالي جعفر تحامل على نفسه ونهض من فراش مرضه وجاء لمعايدة أمي مزهواً بقميصه الـ5500 السكري اللون والمكوي، وبنطاله الكحلي السيكا، معلناً أناقة الفلاح الذي تمدَّن في كركول الدروز، في عاصمتنا بيروت، ولكنه عاد من المدينة بفعل الحرب.
نسيها. فكّر أنه نسيها. إنتقم منها بالنسيان المستحيل. لأنه علَّق أحلامه بعدما أحب فيها الفتاة الجامعية الارستقراطية الأرثوذكسية، جارته وهو عامل بسيط. وأصرّت وأصرّ، لولا أن أمه القوية أقنعته الفتاة الجامعية الارستقراطية الأرثوذكسية، جارته وهو عامل بسيط. وأصرّت وأصرّ، لولا أن أمه القوية أقنعته بأنه سيتسبّب كارثة لها ولعائلتها، فصرف النظر كما صرفته هي.
علّق على بيروت أحلامه وسلوكه الوطني لا الطائفي بواسطة الحب. فهدمت الحرب التي هدمت المدينة كل ما رآه وسمعه. وعاشه وانتظره في القرية، بعدما أصبح مزارعاً مربياً لشتول الزيتون والليمون والورد، ويرطن بأسماء أشجار التين بالطلياني. تغيَّرت ألوان ثيابه ونوعية قماشها، ولكنها ظلت تستر جسده على نظافة، ولا يعتريها إلا شيء من طين أحمر يزيدها جمالاً وطهارة، وتذكّره وتذكّرنا بالكاكي الذي كان يرتديه سنوات شغله في فرن الحطب في حي اللجا المختلط، على مشهد عميق من العيش المشترك الذي لم يعد مشتركاً، أو أنه ذاهب إلى ألاّ يعود مشتركاً.
وكانوا في فرن الحطب، يخبزون، ويوزعون ويبيعون، بأسعار محددة وثابتة، أرغفة خبز طازج غير مغشوش. وكان يأكلها الياس جوزف الساعاتي الصديق الحميم لكل العائلة، وعبد عمران الدكنجي البيروتي، ومعروف من أهل بشامون، وعبد الحسين من ميفدون، والكوّى موفق حرب من سوريا. والأرغفة مقمرة تفوح منها رائحة القمح والحُب.
لو أن خالي هذا نهض الآن مستنداً إلى كتف حفيدته أو كنَّته، ومنحني نصف الليرة التي كان ينفحني إياها في العيد حتى نهاية دراستي الابتدائية، ثم رفعها إلى ليرة مع دخولي الصف السادس لمرّة واحدة.

اقرأ أيضاً: حذار الخراب الكوني الجديد

لو أنه نهض وفعل ما أحبّه وأرجوه الآن أكثر من الماضي، لكنت على يقين بأن العيد قد عاد.

(من كتاب على مسؤوليتي – منشورات صوت لبنان)

السابق
المدمرة الأميركية «منصور»… وفاء للبحار العربي
التالي
أشغال اسرائيلية عند موقع الحماري الحدودي قبالة الوزاني