مبادرة فرنسية لفلسطين… ماذا تعلّمنا من التجربة؟

مصطفى علوش

لا تزال ترنّ في ذاكرة طفولتي هتافات شبان باب التبانة في طرابلس وهم يتظاهرون احتجاجاً على مشروع الحبيب بورقيبه، رئيس جمهورية تونس، الذي طرحه عام ١٩٦٥ لحلٍّ مَرْحلي لقضية فلسطين مبني على ما يلي:أولاً: تعيد إسرائيل إلى العرب ثلث المساحة التي احتلّتها منذ إنشائها، لتقوم عليها دولة فلسطين.

ثانياً: يعود اللاجئون الفلسطينيون إلى دولتهم الجديدة.

ثالثاً: تتمّ المصالحة بين العرب وإسرائيل لتنتهي حال الحرب بينهما.
الكلمات التي نعَت بها شبان باب التبانة بورقيبة كانت «عميل، صهيوني، يهودي، ماسوني»، وأظنّ أنّ بعضهم أضاف صفة «لوطي»، ولم أكن أعلم حينها معنى بعض الصفات التي نُعت بها بورقيبة، ولكنني اعتبرتها صفات سيّئة على الأرجح لأنها قُرنت بيهودي.
بعد تلك المبادرة، وفي مقابلة مع التلفزيون الفرنسي، صرّح بورقيبة بما يلي: «إنني التزمتُ دائماً لغة الصراحة، ولكنّ القادة العرب كانوا قد أبدوا لي أثناء المحادثات معهم تفهّماً لما طرحته لا يشابه ما أبدوه أمام جماهيرهم.
لقد قبل القادة بمنطق التقدم خطوة خطوة، وأنّ هناك حلولاً وسطى مرحلية، لكنّ مشكلة الجماهير منعتهم من النطق بما هم مقتنعون به، فهناك الخطب الحماسية والإذاعة التي حدّت من قدرة الزعماء على المبادرة الحرة. فهؤلاء الزعماء، وفي سبيل استدراج الهتافات لهم، كانوا يعمدون إلى إبداء الكثير من الحماسة الوطنية سعياً لرضى الجمهور، ويعدون الناس الجائعة المعذّبة والمهانة بالأماني الكاذبة، ويؤكدون لهم تحقيق آمالهم بين ليلة وضحاها.
وما أن يحاول زعيم ابتداع حلول ذكية مرحليّة فيها بعض التواضع والواقعية، حتى تنعته الجماهير بكلّ الصفات المخيفة، فيتراجع فوراً».
بمراجعة تاريخية دقيقة، وعلى لسان مؤرخ جمال عبد الناصر، الكاتب الراحل محمد حسين هيكل، فقد كان «الزعيم الخالد» مدركاً حقائق الأمور، وهو العسكري المجرّب، وكان يعلم أنّ موازين القوى العسكرية لم تعد تعتمد لا على العدد ولا على الحماسة، بل على القدرات الإقتصادية واللوجستية والتكنولوجية، وبالتأكيد على موازين القوى الدولية التي أنتَجت أقطاباً جديدة بعد الحرب العالمية الثانية.
لذلك، وحسب هيكل أيضاً، فإنه كان يحاول كلّ جهده المحافظة على سكون الجبهة مع إسرائيل ريثما يتمكّن من ترتيب البيت الداخلي وتثبيت قواعد الحكم الجديد الذي كان مهدّداً منذ اليوم الأوّل بحلفاء الأمس المتمثل بالأخوان المسلمين. وكانت عقدته الأهم هي تأمين نموّ اقتصادي لمصر يرفع من المستوى المعيشي وبالتالي يبني احتياطياً كافياً لبلده قبل الدخول في أيّ صراع.
البقية معروفة فقد وقَعَ الرئيس جمال عبد الناصر أسير هتافات الجماهير، وأسير صورته كزعيم أقرب إلى مرتبة النبوّة، وأسير عواطفه الصادقة على الأرجح، وأسير المزايدات من قادة مراهقين مغامرين ومتآمرين، خصوصاً في سوريا، حتى أتت حرب ١٩٦٧ فحرَمت «إرادة الجماهير» عبد الناصر حتى من كرامة الإستقالة، مع العلم أنّ بعض الخبثاء يصرّون على أنّ الإستقالة كانت مجرد عمل مسرحي للتخلّص من المسؤولية.
وحتى عندما حاول عبد الناصر السير في مشروع روجرز كحلٍّ مَرْحلي سنة ١٩٦٩، لم يتورّع اليساريون والثوريون والمزايدون، وربما المتآمرون عن نعته بالمتخاذل والجبان… على الرغم من الجهود الكبرى في حرب ١٩٧٣ «التحريرية» فلا أحد مقتنع بأنّ ما حصل بعدها يمكن مقارنته بما طرحه بورقيبة سنة ١٩٦٥.

اقرا ايضًا: فضائيتا «القدس» و «فلسطين اليوم»
لماذا هذا الكلام الآن؟
في الواقع لم يعد خافياً أنّ كلّ يوم يمرّ على قضية شعب فلسطين، يأتي اليوم الآخر أسوأ ممّا سبقه، ومع ذلك فما زلنا أسرى شعارات أثبتت، مع صدقها، عدم فعاليّتها، وما زلنا نبحث عن ومضات عزة وكرامة لا تعدو كونها «فشة خلق».

ماذا بعد إذاً؟
علينا أن نستنتج بالمنطق ما يلي:
١- لم تربح قضية فلسطين شيئاً عملياً في كونها قضية العرب الكبرى، لا بل على العكس فقد خسرت تقريباً كلّ الحروب، وخسرت معركة الرأي العام بعدما أثبت معظم قادة الدول العربية بأنهم ليسوا قدوة لا في الشفافية ولا في الإنسانية ولا في الإنماء ولا في الحفاظ على حقوق الإنسان، هذا إن لم نرغب في شرح صفاتهم الحقيقية حفاظاً على التهذيب والموضوعية.
٢- أثبتت كلّ المتغيّرات الهائلة في الخرائط السياسية للدول العربية، مضافاً إليها التبدّل السلبي الكبير في مدى وعي الأجيال العربية الجديدة بقضية فلسطين، عدم إمكان التعويل على تضامن عربي ما في المستقبل حول فلسطين.
٣- لم تربَح قضية فلسطين شيئاً من كونها قضية المسلمين، وتحوّلت من قضية حق إنساني إلى مشروع صدام حضارات ضيّع معالم الحق الفردي للإنسان الفلسطيني.
٤- مع أنّ الكفاح المسلّح تمكّن من إحراز بعض المكتسبات لفترة من الزمن من خلال وضع القضية الفلسطينية في واجهة الإهتمامات الدولية، وبالتالي السعي إلى حلّها، لكنّ ذلك كان في ظلّ الحرب الباردة وصراع المعسكرين الدوليّين التي كانت قضية فلسطين طرفاً فيه. لكن علينا الإعتراف الآن أنّ إسرائيل والدول العربية تمكنا سوياً من إقفال باب الكفاح المسلّح بشكل شبه كامل أمام الفلسطينيين، مع عدم وجود أيّ أمل في المدى المنظور لفتحه.

٥- بارقة الأمل الوحيدة الكبرى كانت ربما من انتفاضة الحجارة التي كانت الاساس للذهاب إلى أوسلو والإعتراف الإسرائيلي بوجود الشعب الفلسطيني.

٦- فكرة الدولتين بدَت للوهلة الأولى مدخلاً مرحلياً مقبولاً (مع أنه اقلّ بكثير ممّا طرحه بورقيبة سنة ١٩٦٥) قبلت به القيادة الفلسطينية الأساسية المتمثلة بياسر عرفات، لكنّ الحلّ الشائك يومها أصبح الآن شبه مستحيل بعد أن تمّ اغتياله بشكل مزدوج من التطرّف الإسرائيلي الذي أصبح يشمل أكثرية ساحقة من المجتمع الصهيوني، ومن المزايدة الفلسطينية المدعومة إقليمياً، مصحوبة بفشل السلطة الناشئة في تقديم نموذج يمكن البناء عليه لأسباب متعدّدة لا مجال لبحثها الآن.

٧- البعض يقترح استمرار الإنتفاضة باشكال متعددة أساسها أعمال عنف متفرّقة، ظناً بأنّ ذلك سيؤدّي إلى إنهاك المجتمع الإسرائيلي ودفعه إلى الإستسلام! ولكن من دون رؤيا سياسية ولا حتى عسكرية.
تأتي المبادرة الفرنسية ضمن أوضاع صعبة ولا شك، وأصعب ما فيها هو أنّ معظم العرب ومعظم العالم فقدوا دوافع الإهتمام بها، وبقيت القضية برمّتها على عاتق الفلسطينيين وحدهم، وربما بمستوى أقل على لبنان بالذات وذلك نظراً للتعقيدات المحلية التي يشكلها بعض اللجوء الفلسطيني فيه.

ما الحلّ إذاً؟
يقول «اينشتاين» إنّه من علائم الجنون أن تكرّر الخطوات ذاتها وننتظر نتائج مختلفة. «باختصار، فإنّ مسار قضية فلسطين عليه أن يعود حصراً إلى يد الفلسطينيين، ومن هنا عليهم أن يعودوا كنخب وقيادات لمراجعة موضوعية لمسار القضية والتخلّي عن المسلّمات الوهمية والشعارات الفضفاضة ومنطق الإنتصار الزائف، وبدل ذلك البحث عن حلول ترتكز على حقوق الفلسطينيين كأفراد. من هنا يمكن أن ينطلق مسار الطريق وليس من ردات فعل موقتة يُستدرج إليها الفلسطينيون، فتخدم إسرائيل لا بل تعزّز تطرّفها وتسوغه.

(الجمهورية)

السابق
دفاعًا عن القاتل معروف حمية؟!
التالي
انتخابات طرابلس البلدية تعقد لواءها لميقاتي