الحاجة رباب تعيش في جنوب لبنان مع الماضي و20 قطا

إنها حالة فريدة بخصوصيتها، تعود بنا تفاصيلها إلى الزمن الجميل. سيدة لبنانية في الثمانينات من العمر تفخر بأنها الوحيدة التي ما زالت تقتني «كل شيء قديم»، وترفض التفكير بالحاضر والعيش بالمستقبل كي لا تخسر ماضيها. وهي تعيش في غرفة تعبق دائما برائحة القهوة وعلى أنغام العتابا والميجانا، حتى باتت مقصدا لمعظم شابات بلدتها اللواتي يأتينها لتذوق القهوة العربية الفاخرة.. التي – حسب كلامها – لا ينافسها فيها أحد.

اقرأ أيضاً: معرض منير كسرواني التراثي في العيشية

في منزل صغير أطفأ أكثر من 100 شمعة من عمره تعيش الحاجة رباب بدر الدين، التي تُعرف بـ«امرأة المهباج» (المهباج: هو الوعاء الخشبي التقليدي لطحن القهوة) مع ذكرياتها الحميمة المفعمة بالوفاء والحنين للماضي. إنها وحيدة نظريا، لكنها محاطة عمليا بـ20 قط وقطة يشكلون «حرسها» الشخصي، يمرحون حينا ويموؤن حينا في حديقة الدار.

زارت «الشرق الأوسط» الحاجة رباب في بيتها ببلدة دير كيفا، التابعة لقضاء صور في أقصى جنوب غربي لبنان. ومع فنجاة قهوة أصيل وترحيب حار بلا تكلف، بدأت حديثها بالقول: «أعيش هنا منذ ولادتي. إنها مملكة الذكريات الجميلة التي لا أفرط بأي في محتوياتها أبدا. هنا أشعر بالدفء على مقربة من مقتنياتي. لا أشرب القهوة عند أحد، لأنهم (يسلقونها سلقا) – أي إنهم يجهِّزونها بسرعة مفرطة – بينما أنا أدق بنفسي حبات البن بالمهباج جيدا ثم أغليها عدة مرات، وبعدها أصفيها من دلالة إلى دلالة».

والدلالة، هي الدلة أي الركوة المعدنية مصنوعة من النحاس أو الكروم، ذات المقبض المنحني على شكل أذن، والمصب المعقوف كمنقار طائر جارح. وصب القهوة من دلالة إلى دلالة بهدوء يساعد على ترسب ما بقي من بن خشن، لأن الدق بالمهباج لا يمكن أن ينعم القهوة كما تفعل آلات الطحن الكهربائية، ومن أجل الحصول على طعم القهوة المرة العربية لا بد من دق حبات البن المحمص جيدا».

وحقا، ما من زائر لبيت الحاجة رباب بدر الدين، يستطيع أن يتجنب الاستقبال الحار من القطط العشرين، التي تلاحق سيدة البيت تماما كما لو كانت من أفراد حرسها الخاص، وتواكب تحركات صاحبتها التي لا تشعر بالوحدة لكثرة الزوار والجيران والذكريات، داخل غرفتها التي تعيد كل قطعة أثاث أو زينة فيها الزائر إلى زمن غابر.

في ذلك «القصر الصغير» – حسب وصف الحاجة رباب – الذي يصفه بأنه «أجمل بيت في البلدة»، أوضحت سر تعلقها بالقطط قائلة: «لكل منها قصة معي. أنا أخاف عليها لأنها جزء من حياتي ولأنها تحميني من أي سوء محتمل.. ربما لئلا تفقد من يعيلها. إنني أخاطبها بلغتها فتفهم ما أقول (على الطاير) – أي بسرعة خاطفة – إذ لكل نمط من المواء دلالة، غضبا أو خوفا أو جوعا أو سعادة، وأحيانا عن طريق (الخربشة) بكيس من النايلون أستنبط منها تفسيرا لما تريده».

بالقرب من باب الاستقبال، تضع الحاجة التي لم تتزوج، صندوق العروس الذي ورثته عن والدتها؟ وفوقه نملية قديمة – خزانة مخصصة للمونة والطعام – وقد رصّ عليها سماور الشاي والدلال وهي من تركات جدها. ومن المقتنيات النفيسة للحاجة رباب أيضا، كتب يعود بعضها إلى 200 سنة، وفي جوارها سرير مصنوع من إسمنت غطي بفرشة – حشية – وفوقه سدتان لوضع الحِرامات واللحف (البطانيات)، في حين تنتشر الصور القديمة في كل زاوية من زوايا الغرفة، ولكل منها حكاية طويلة تسردها الحاجة بحميمية.. وكأنها تعيشها الآن.

إحدى تلك الصور المعلقة، تظهر فيها وهي شابة ترتدي زيا تقليديا قديما، أخبرتنا أنها كانت ترتديه في أحد أعراس الضيعة. ولدى تذكرها هذا العرس تنهدت تنهيدة طويلة وتمتمت «رزق الله على أيام زمان كم كانت جميلة، كانت حفلات الزفاف تستمر لمدة 7 أيام». ثم أضافت بابتسامة متحسرة: «آنذاك كان العريس يخرج العروس على صهوة فرس من منزل والدها، ثم تطل على المدعوين، يتقدمها العازفون وحملة البيارق بينما ينتظر العريس في الساحة مع أهل البلدة ويقيمون حلقات الدبكة».

ديركيفا

وتتباهى الحاجة رباب بالأريكة التي تنام عليها، وبالصورة العملاقة المعلقة على جدار غرفتها منذ أكثر من 100 سنة، التي تعود لسلطان عثماني عشق العرب، وكان والدها قد اشتراها بعشر ليرات عثمانية (ذهبية). وعنها قالت: «إنها عزيزة جدا على قلبي، وطلبت ثمنا لها 5 آلاف دولار من أحد سكان البلدة عندما عرض علي شراءها بمبلغ 1000 دولار». وعلى مقربة من تلك الصورة صورة أخرى هي للزعيم الجنوبي ورئيس مجلس النواب اللبناني الأسبق الراحل أحمد بك الأسعد «أبو كامل»، وبجانبها صورة والدها الذي كان وجيها من وجهاء البلدة وأخرى لجدها.

ولكن، لعل أروع ما في منزل الحاجة رباب هي تلك «الكبكة» (كانت تقوم بدور البراد أو الثلاجة) المتدلية من سقف «مملكتها»، تزينها طرحة بيضاء تعبر عن بساطة المنزل الجنوبي القديم بكل تلاوينه، رغم زحف البيوت الإسمنتية التي حولت القرى إلى أحياء متباعدة في مدينة كبيرة.

الحاجة رباب مميزة في كل شيء حتى بما ترتديه، وعلمنا أن العباءة التي تلبسها ذات الطراز القديم، ربما يزيد عمرها عن الخمسين سنة، خاطتها بنفسها، وعنها قالت: «لا أحد غيري يرتدي مثلها، كل أهل البلدة يعرفونني من بعيد حين أكون مرتدية إياها».

شهرة رباب بدر الدين تسهل الوصول إليها، إذ تتردد الحكايات التي تحوم حولها في أماكن كثيرة من بلدتها.

«وهل يخفى القمر؟.. أنها امرأة المهباج والقهوة العربية وحراسها القطط». جواب تسمعه من أحد أبناء البلدة الكبار عند سؤالك عن عنوانها.

وفي الختام لا يسعك القول وأنت تغادر المكان سوى أن دار هذه المرأة الاستثنائية تحول بمرور السنين إلى متحف تراثي صغير عفوي.. من دون تصميم أو رخصة من وزارة الثقافة وإدارة المتاحف اللبنانية.

(الشرق الاوسط)

السابق
ما هي الاضافات الجديدة لـ«فيسبوك» التي تنتهك الخصوصية؟
التالي
4 من «جونيه التجدّد» يخرقون «كرامة جونيه»…