منتدى الأربعاء: إعادة بناء الدولة في العالم العربي على ضوء التطورات الجارية

استضاف منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية معالي الدكتور طارق متري في لقاء حواري تحت عنوان: “إعادة بناء الدولة في العالم العربي على ضوء التطورات الجارية” بحضور حشد من الشخصيات الدينية والسياسية والدبلوماسية والأكاديمية والإعلامية..

قدّم اللقاء وأداره المحامي الأستاذ بلال الحسيني..

ثم بدأ معالي الدكتور طارق متري حديثه بالفصل بين مصطلح الدولة والذي يعني الدولة الوطنية الحديثة وبين الأمة، موضحاً بأنه ما من دولة عربية حديثة، بل كثير غيرها يمكن وصفه بالأُمة.. وهناك فرق بين بين بناء الدولة وبناء الأمة، ففي دول أوروبا الحديثة ثمة دول هي ليست أمة، لكنها تكاد تكون من أنجح الدول..

وأضاف: نحن اللبنانيين عموماً مأخوذون بالنموذج الفرنسي اليعقوبي المركزي الانصهاري، ونحسب أن هذا النموذج هو نموذج كوني، والحقيقية إن النموذج الفرنسي هو نموذج استثناء وليس نموذجاً احتُذي به، لأن الظروف التاريخية في المجتمعات الأخرى اختلفت عن الظرف الفرنسي..

ثم عرّف الدكتور متري الدولة الوطنية الحديثة وفق التعريف الأبسط لها؛ بوصفها مجموعة مؤسسات منسجمة ترعى الخير العام والخدمات العامة، تساوي بين المواطنين أمام القانون وتحميهم في الخارج ـ وذلك بحماية الحدود ـ وفي الداخل ـ بحفظ الأمن ـ عن طريق احتكارها للعرف الشرعي.. والسيطرة على أراضيها ضمن مفهوم السيادة الوطنية.. وهذه الدولة الوطنية الحديثة تفترض ولاء المواطنين الأفراد لها، وهي تتمتع بالديمومة، فالدول ليست مرشحة للانهيار ثم إعادة البناء، كما هو حال بعض دولنا.. والدولة الجديرة بهذا الاسم هي التي تتمتع بالديمومة..

وفي حديثه عن نشأة الدولة الحديثة في الغرب..أوضح متري، أنها نشأت كإطار قانوني متميز في الغرب بعد معاهدة “ويستفاليا” عام 1648 والتي أنهت حروباً طاحنة في أوروبا بعد أن اعترف كلٌ منهم بسيادة الآخر على الأراضي، ورسموا فيما بينهم الحدود وتعاقدوا على احترام هذه الحدود..

وتابع: لم تنتضم المجتمعات الأوروبية في الولاء لدولها الناشئة بعد معاهدة “وستفاليا” بسرعة، ولم تتبلور فكرة المواطنة ـ وهي صنو فكرة الدولة، لأن فكرة المواطنة هي الفكرة التي تحدد الحقوق والواجبات ـ إلا بعد صراعات عنيفة داخل المجتمعات وفيما بينها.. أي أن الدولة لم تأتي بعد وستفاليا إلا بعد مخاض عسير..

وفي مقارنة لنشأة الدولة في الغرب وأوروبا وبين نشأة الدولة في المنطقة العربية؛ أوضح متري بأنه في الدول الأوربية ثمة ولاءات فرعية نطلق عليها ولاءات ما دون الوطنية وهو ما موجود في معظم الدول الأوربية، والذي بات يشكل اليوم استثناءً وليس القاعدة.. وهذه الولاءات ما دون الوطنية لا تقوى على تخريب الدولة الوطنية.. بينما في الدول العربية فثمة عصبيات ما دون الوطنية، والذي يكاد يشكل القاعدة في دولنا هذه، وأن هذه العصبيات ما دون الوطنية تمعن في الفتك بالدولة الوطنية الحديثة حسب ما شهدناه في العقود الأخيرة..

وتابع: إن ظهور الدولة الحديثة في أوروبا كان نتيجة عملية تاريخية معقدة وطويلة استمرت صيرورتها لقرون، أما عندنا فلم يتعد تاريخ ظهورها بضعة عقود، حيث إننا لم ننتظر قروناً حتى نصل إلى دول حديثة على قدرٍ من الاستقرار والديمومة على غرار الدول الأوربية، ذلك أن الزمن تسارع في عصرنا هذا، وخير شاهد على ذلك، الثورات العربية التي تسارع فيها الزمن بشكل مذهل.. فما حصل في عام أو عامين لم يتكن متوقعاً حصوله في عقد أو عقدين.. ونحن اللبنانين قد عرفناً هذا التسارع الزمني أيضاً، ففي عام 2005 وفي أشهر معدودة، تحقق ما لم يتحقق في أكثر من عقد..

وأكمل الدكتور متري حديثه عن نشأة الدولة الحديثة في المنطقة العربية فقال:

قامت الدول لدينا واستقلت لكنها لم تصل إلى مستوى الدولة الوطنية لا من حيث الولاء الوطني لها ولا من حيث سيادة دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية.. معتبراً أن المشكلة في دولنا الوطنية الحديثة تكمن في أنها نشأت بفعل إرادة خارجية ولم تنشأ بفعل مخاضٍ داخلي، ولم ننشأها نحن.. فبعد انهيار أو تفكك أو انهزام أو سقوط الدولة العثمانية؛ أنشأت الدول المستعمرة أو المنتدبة دولنا العربية ضمن اتفاقية سايكس بيكو.. وفضلاً عن الطبيعة الاستعمارية للفعل المؤسس لدولنا لجهة المصالح والأهداف؛ لم تكن دولنا نتاجاً لتطور اجتماعي واقتصادي وسياسي لشعوبنا، ولم تأتِ حصيلة صراعات داخلية انتهت إلى صياغة عقد اجتماعي جديد.. لكن الاستقلال الذي لحق قيام الدولة بعقود ـ حسب البلدان ـ، هو الذي اقترح ـ إن صح التعبير ـ علينا عقداً اجتماعياً جديداً، وهو الذي أسس لتشارك بين المواطنين وأعطى للدولة الوطنية المستقلة الشرعية، وسمح لفئات من المواطنين أن يدينوا بالولاء لها.. وقد جعل الاستقلال من مؤسسات نشأت بقوة الخارج، مؤسسات تستمر برغبة الداخل.. وإذا ما درسنا كل مؤسسة على حدة، نعرف أن كل من مؤسسة الجيش والقضاء أنشأها المستعمرون، لكنها وبعد الاستقلال جرى توطينهما وصارت مؤسسات منتظمة في إطار العقد الاجتماعي الجديد الذي قام بفعل الاستقلال عن الاستعمار..

إجمالاً، كانت لدينا دول ضعيفة مطعون بشرعيتها باستمرار، فيها عطب تكويني جنيني، لكنها على الرغم من هذا الضعف المتأتي من الطعن بشرعيتها؛ كانت تتمتع بقوة التسلط.. فالكثير منها كانت دولاً استبداددية، استطاعت أجهزتها الأمنية أن تحكم سيطرتها على المجتمعات، وكان البعض من هذه الأجهزة الأمنية يستند إلى عصبيات ما دون الوطنية كأن تكون طائفية، جهوية وفئوية ـ أسموها ما شئتم ـ..

تأسست دولنا الحديثة بقرار خارجي كما رُسمت حدودها بقرار خارجي، فيه قدر من الهندسة الاستنسابية.. ولم تأخذ هذه الهندسات بالحسبان التشكيلات الاجتماعية والديموغرافية والثقافية في كل هذه البلدان.. فظل إنشاؤها وتطورها مصحوبين بمعضلات بنيوية، وهذا ما يمكن تسميته بالعطب الأول..

انتقصت الحركة القومية ومن بعدها الحركات القومية ومن بعدها الحركات الإسلامية في أواخر السبعينات من القرن الماضي من شرعية هذه الدول الوطنية، وأخفقت النخب التي أدرات تلك الدول الوطنية الحديثة عن بناء مؤسساتها..

وأردف قائلاً: إن ما زاد الدول الوطنية الحديثة هشاشة هو قيام دولة إسرائيل واحتدام الصراع العربي الصهيوني، فشكل ذلك الصراع عائقاً أمام استقرار دولنا هذه ونموها.. وبات العدوان الإسرائيلي بأشكاله كافة ـ العسكري وغير العسكري ـ والعجز عن مواجهته ـ ما خلا استثناءات قليلة ـ؛ سبباً في إخفاق الدول نتيجة لضعفها.. أي أنه سبب ونتيجة في آن واحد..

وجاءت الثورات العربية لسنوات خمس ضد أنظمة الاستبداد لتسرّع في الواقع من تهديد عدد من الدول بالانهيار أو التفكك.. وسمحت/ أدت/ أتاحت إمكانية تفجر تناقضات مجتمعية.. إلا أن هذه الثورات العربية لم تحدث تناقضات مجتمعية جديدة، بل هي فجرت التناقضات المجتمعية الكامنة والمكبوتة في مجتمعاتنا بفعل قمع الأنظمة.. ولذلك فإن المسؤول عن تفجر هذه التناقضات هو ليس بالضرورة الثورات العربية، بل أن الثورات العربية أسقطت أنظمة الاستبداد وما فجر هذه التناقضات هو الاستبداد عينه وإرثه..

إلى ذلك، تحدث الدكتور متري عن ليبيا كنموذج لنشأة الدولة في المنطقة العربية، وذلك في ظل متابعته للوضع هناك وكتاباته الكثيرة عنها أولاً، كما رأى إن الحديث عن ليبيا يبعده بعض الشيء عن الحديث في القضايا السياسية الخلافية في المشرق العربي، كالخلاف عن الموقف من القضية السورية.. ثانياً..

أما السبب الثالث، فهو أن ليبيا تكشف أمامنا وإنْ بصورة مضخمة أو مشوهة مشاكلنا نحن في المشرق بصورة مضخمة، وهذا ما لا يحبه المشرقيون.. وأن المشاكل فيه تشبه إلى حدٍ ما المشاكل اللبنانية.. فقال:

الليبيون في أكثريتهم الساحقة عرب من أهل السُنة والجماعة، مالكيون في الأصول، أشاعرة في الفروع، وهم إما سنوسيون وإما شاذليون في الطريقة الصوفية.. أما المجتمع الليبي فهو مجتمع منسجم إلى حد كبير من حيث الطائفة على خلاف لبنان المتنوع طائفياً..

ورأى الدكتور متري بأن هذا التجانس هو تجانس كاذب، ذلك أن المجتمع الليبي فيه قدر من التنوع لا يقل عن التنوع اللبناني، بل يفوقه.. والناس فيه ـ كاللبنانين ـ يسيرون في طريق ضيّق بين منزلقين؛ بين منزلق انقلاب التنوع تنابذاً وصامتاً.. وبين منزلقٍ آخر وهو انقلابه لحربٍ أهلية مفتوحة، والقبول بالتنوع بوصفه غنىً للمجتمع المتنوع.. لذا، هو طريقٌ ضيّق بين هذين المنزلقين، ولسوء الحظ أن الذين يختارون سلوك الطريق الضيّقة هم قلّة دائماً..

وأكمل: أقام معمّر القذافي دولةً مستبدة تعتمد القوة والوشاية والحيلة.. حيث يستوي الاستبداديون في هذا الاستخدام.. كما اعتمد الرشوة في توزيع عائدات الثروة الوطنية التي تتميز به ليبيا عن بقية البلدان من حيث حجم الثروة الوطنية فيها.. ثم إن القذافي قد أحجم عن بناء مؤسسات تتسم بصفة الديمومة، حيث كان يُنشأ مؤسسة ويدمرها ثم يُنشأ على أنقاضها مؤسسةٍ أخرى.. لكنه سمح باستمرار مؤسستين حديثتين تداران بعقلانية هما؛ المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي، وكان ذلك لأسبابٍ واضحة، فالمؤسسة الوطنية للنفط هي شريك للشركات النفطية التي تنقب في ليبيا وتعمل على تصدير البترول، فمن المفترض عليها نوعٌ من الحداثة ومن الديمومة على الطريقة الغربية ولا يستطيع الليبي أن يتحرر منها أياً كان اسمه، إذا كان يريد أن يبيع نفطه في السوق الدولي.. أما المصرف المركزي فذلك لأنه يحتاج إلى سياسةٍ نقدية تسمح له أيضاً بأن يكون جزءاً من السوق النقدي العالمي..

أما مؤسسات الدولة، فلم تتمتع بأيّ قدرٍ من الإستقلال عن السلطة السياسية التي كانت محصورةً بيد القذافي.. بعبارةٍ أخرى؛ دمج القذافي كليّاً بين السلطة والدولة.. وبالأحرى، استولت سلطته على الدولة أو استتبعتها.. وهذه من خصائص الأنظمة الاستبدادية حيث لا يتفرّد فيها معمّر القذافي..

وفي وصفه لإدارة القذافي لليبيا، استخدم الدكتور متري مصطلح “البَدْوَنة” تعبيراً لذلك، في إشارة منه إلى أنه المصطلح المرادف للفوضى والارتجال والتقلّب كما البحث عن الغَلَبة..

وأشار الدكتور متري إلى أن البحث عن التسوية بين الفرقاء السياسيين هو من أكثر الأمور التي نعاني منها في المجتمع الليبي، ذلك لأن فكرة التسوية غريبة عنهم.. حيث يرى الطرف الفائز في الانتخابات الليبية أن من حقه الحصول على كل شيء، ولا يوجد هناك من داعٍ للتسوية، حيث أن الفوز في الانتخابات يعني الغَلَبة.. وهذه الغلبة تؤدي في بلدٍ كليبيا إلى الاستحواذ على الغنيمة، أو تعاقبها.. وقد تكون الغَلَبة باتجاهٍ آخر، كأن يقوم طرف بانتزاع الغنيمة من خصمه فيحقق الغلبة بذلك، وليس فقط من يحقق الغلبة يتفرّد بالغنيمة.. وهي مصاحبة أيضاً لأولوية الانتقام والعقاب الانتقائي لأغراض الغَلَبة على تحقيق العدالة.. والأمثلة في ليبيا وفي المشرق على ذلك، هو أن الكثير من حياتنا السياسية في زمن السلم وصراعاتنا في زمن العنف محكوم بمنطق الانتقام والعقوبات الجماعية والانتقائية، بأن نعاقب هذه الجماعة ونستثني تلك، ولا يحكمه منطق العدالة حتى في المجتمعات المستقرة..

إذاً رفضت البدونة التي عززها القذافي قيود الدولة من حيث إلزام القانون وغيره، فأسقطت الثورة هذه الدولة الليبية مدعومةً بالتدخل العسكري الدولي بحسب قرار 1973 والذي ينص على

أن الدافع الوحيد من قرار مجلس الأمن هو حماية المدنيين.. وطبعاً لا أحد ذو سذاجة بمكان ما لكي يعتقد أن طائرات حلف الناتو تدخلت في ليبيا مدفوعةً بحرصها على المدنيين، فقد أصيب المدنيون في بلدانٍ كثيرة من فلسطين، العراق، سوريا وغيرها من الدول؛ ولم يتدخل المجتمع الدولي لحماية المدنيين.. لكن ولحظ الليبيين بحسنه وسوئه أنه كان للمجتمع الدولي وبعض الدول الأوروبية ومن وراءها الأمريكيون ـ بتردد أو تخبّط ـ مصالح دفعتها للتدخل.. لأنها مجتمعات ديمقراطية ولأن الناس كانوا يخشىون وقوع مجزرة وشيكة في بنغازي وكانوا يطالبون بحماية المدنيين، فكانت لحظة التقت فيها القيم والمصالح السياسية وهي لحظات لا تتكرر كثيراً، فأتاحا للمجتمع الدولي بالتدخل وفق قرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع.. وأُسقط نظام القذافي، لكن العمليات العسكرية قد ذهبت إلى أبعد من حماية المدنيين إلى إسقاط النظام.. ومع انهيار النظام انهار كل من الجيش والشرطة والقضاء وأجزاء كبيرة من الإدارة الليبية، أي أن انهيار نظام القذافي قد أدى إلى انهيار الدولة الليبية لأن السلطة والدولة عند الاستبداديين هما وجهان لكيانٍ واحد..

عند ذلك قرر المجتمع الدولي أن يشرع ببناء الدولة الليبية كشرط للانتقال من النظام الاستبدادي إلى النظام الديمقراطي، وشرط الديمقراطية هو وجود دولة القانون، فإن لم يكن هناك دولة قانون فما من ديمقراطية..

إقرأ أيضًا: محمد شمس الدين: سرقة البلديات يسمّونها «تنمية»!

وعن الأخطاء التي مورست في ليبيبا عن بناء الدولة بعد سقوط نظام القذافي، هي:

أولاً، عهد المجتمع الدولي بناء الدولة للأمم المتحدة، وهو أمر خاطئ، ذلك لأنه لا يمكن بناء الدولة من الخارج، ولا يمكن أن نأتي بأشخاص مهما صفتْ نياتهم، لبناء الدولة في ليبيا، فبناء الدولة في ليبيا هو شأن الليبيين أنفسهم.. وعلى الليبيين أن يتوحدوا ضمن إرادةٍ سياسية واحدة محورها بناء الدولة..

ثانياً، الاستعجال في إجراء الانتخابات، مرةً واثنين وثلاثة.. ذلك لأن الديمقراطية هي إجراء الانتخابات في ظن البعض.. لأن الليبيين كانوا محرومين من حق اختيار زعمائهم، فأرادوا ممارسة هذا الحق قبل أن يتفقوا على أولوية بناء الدولة.. فجرت انتخابات في ظل بلد لا توجد فيه دولة ولا شرطة ولا جيش ولا حتى قضاء، تحت إشراف جيشٌ من المراقبين والذي لعب دور الشرطة والقضاء، ولا شك بأنها كانت انتخابات حرة ونزيهة، ولكن في بلد لا دولة فيه تنطق بالديمقراطية، فإن الانتخابات التي تجري قد تأتي ربما بنخب جديدة وقد تعيد بعض النخب القديمة وليس أكثر من ذلك.. والأسوء من ذلك، أنه في بلدٍ فيه قدر من الانقسام، فإن الانتخابات تعمّق هذا الانقسام..

لم تكن ليبيا بحاجة إلى الانتخابات، وإنما كانت بحاجة إلى توافق وطني، وإلى أولوية بناء دولة ومن ثم تليه الانتخابات.. فالمطلوب هو أن يكون هناك توافق بين الأفرقاء السياسيين على بناء الدولة والشروع في بناء بعض مؤسسات الدولة بهذه الانتخابات، بالاستعانة بالأمم المتحدة.. وقد بذلتُ جهودَاً كثيرة لإقناع النخب الليبية أن تستعين بالأمم المتحدة وفق أولوياتها.. لكن النخب السياسية كانت مستعجلة في صراعها على السلطة فيما بينها، وإن لبس هذا الصراع لبوس المنافسة الانتخابية.. بعبارةٍ أخرى، انشغلت النخب الليبية بانتزاع الغنيمة كلها، وإن عجز أحدهم عن انتزاعها كلها، عمد إلى تقاسمها..

في حقيقة الأمر، أقامت هذه النخب الجديدة ـ على غرار اقتداء الضحية بجلادها ـ تطابقاً بين السلطة والدولة، وكان القذافي قد سبقها ومعه كل الاستبداديين العرب بإقامة هذا التطابق بين السلطة والدولة.. فعوضاً عن أن تكون الدولة نصاباً مستقلاً يساوي بين الناس، باتت أداةً بيد من هم في السلطة والذين هم مرشحون للتناوب في تبوأها.. بعبارة أخرى، أمسك المؤقت ـ أي السلطة حيث كونها متداولة ـ برقبة الدائم ـ أي الدولة ـ، وأمسك الفئوي برقبة الوطني..

لا يتطلب بناء الدولة في ليبيا ـ أو غيرها ـ بناء مؤسسات فحسب، بل يتطلب تعزيز الولاء الوطني على حساب العصبيات ما دون الوطنية، وهو مخاض سياسيٌ وثقافي كبير، ويستدعي اتفاقاً على الخير العام المشترك..

إقرأ أيضًا: إلغاء الانتخابات البلدية.. يعني شلل لبنان

وشدد الدكتور متري على ضرورة الاتفاق على الخير العام المشترك، فمن دون هذا الاتفاق لا يمكن أن نميّز أو نفصل بين السلطة والدولة، حيث أن هذا الفصل هو شرط قيام الدولة.. كما الاتفاق على سُبل إدارة هذا الخير العام، وليس سبل التنسيق بين المصالح الفئوية كما هي حال الأنظمة التي نعرفها..

وختم بالقول: هذا هو مضمون العقد الاجتماعي الجديد وهذا هو معنى البحث عن دساتير جديدة، والذي يعطي الدول التي كانت منقوصة الشرعية في الماضي شرعيةً جديدة.. فلا فرق إذا جاءت هذه الدول مركزية أو غير مركزية، فهذا تفصيل.. لكن المهم هو أن يأتي الاتفاق على مركزية الدول أو لامركزيتها جزءاً من عقدٍ اجتماعي جديد يرتضيه الأفرقاء كافةً..

وقد تلا المحاضرة حوار بين معالي الدكتور متري والحضور..

السابق
الثورة الإيرانية بعد 37 عاماً
التالي
جنازات قتلى النظام تغزو طرطوس