هكذا صمد الأردن وانهار لبنان في مواجهة الاستبداد العربي

محمد علي مقلد

انعقد “اللقاء الثقافي” برعاية “صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال المعظّم”، هكذا ورد اسمه في بطاقة الدعوة، وبمشاركة حشد من المثقفين والباحثين والاعلاميين ورجال الأعمال. كان وقع المقارنة عليّ قاسياً جداً، إذ لم تغب عن بالي مناسبة مماثلة في معرض الكتاب العربي في بيروت، منذ شهرين، انتظر فيها المنتدون ولم يوفقوا بحضور أحد فأخلوا القاعة خائبين.

كان بين الحاضرين في منتدى الفكر العربي في عمان أساتذة جامعة كثر، وطلاب دراسات عليا ودكتوراه، ووزراء ونقباء، ومدير عام مجلس الوزراء وموظفون كبار في الدولة. ربما لأن الدعوة صادرة عن مؤسسة بناها الأمير حسن، ولأن الندوة أقيمت تحت رعايته. لكن الأكيد أن الحوافز للمشاركة في نشاطات ثقافية تتعدى طقوس التعظيم والولاء، لأن “صاحب السمو” أضاف إلى نسبه العريق تواضعاً وثقافة يعز وجودهما لدى مصادري الألقاب في بلادنا.

طلب الأمير من الحاضرين ألا يستغربوا حضوره، وهو القادم من “عالم السلالات الملكية”، بحسب تعبيره، ليشارك في نقاش كتاب يحمل عنوان الجمهورية (كتاب جمهوريتي منشورات سائر المشرق لمؤلفه الدكتور نزار يونس اللبناني) لكن كلمته أثبتت لنا، نحن اللبنانيين المدعوين إلى الندوة، أن السلالات السياسية أعلى كعباً في عالم الثقافة من أولئك الذين تسلقوا عليها في لبنان بأدواة التشبيح والقيم الميليشيوية. كما أكدت كم هي صحيحة ودقيقة تلك العبارة الفرنسية noblesse oblige التي تعني أن صاحب النسب ملزم بالمحافظة على عراقة انتمائه، وبعدم التفريط بالمستوى الذي ترتسم ملامحه في سير الأجداد. حين تستمع إليه، أنت اللبناني المحكوم برجال المحاصصة والمصالح والفساد، يصفعك الفارق بين سياسي تربى في بيت ملكي في الأردن وآخر تخرج من حروب الشوارع اللبنانية أو السجون السورية أو المجاهل القروسطية. الأول تملي عليه عائلته و”بيته” أن يحمي شرفها وتاريخها، بينما يذهب الآخرون كل مذهب في تلويث شرف العائلة والوطن بسلوك مشين وكلام مهين ولغة زقاقية.

المقارنة ليست مفتعلة. بل هي درس أردني لرجال السياسة في لبنان، مثلما هي درس لبناني للشعب الأردني. هذا ما قلناه لهم من غير لبس ولا تورية. العنوان مدعاة لتبرؤ الملكيين من كتاب يتحدث عن الجمهورية، عن “جمهوريتي”. قلنا لهم إن نزار يونس لا يقصد ياء المتكلم، إذ من الممكن أن يقرأ العنوان وتنسب الجمهورية إلى المتكلمين بالجمع(جمهوريتنا) أو يكون المقصود كل الجمهوريات، أي كل الأوطان، بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي، فيكون لبنان مجرد عينة تدرس من خلالها أوضاع كل الأوطان، جمهورياً كان نظامها أم ملكياً أم غير ذلك.

دفعنا فضول المقارنة إلى التساؤل، لماذا كان لبنان سبّاقاً إلى الحرب الأهلية، ولماذا سارت على منواله دول وشعوب وأوطان عربية. ألأنها كانت كلها موضوعة أمام خيارين اثنين، إما تأبيد أنظمة الوراثة والاستبداد إما الحروب الأهلية، أم لأسباب أخرى؟ ولماذا ما تزال الأردن ممتنعة عن مثل تلك الحروب؟. لقد علمتنا التجربة اللبنانية، على ما يقول نزار يونس في كتابه، أنه لا هذا الخيار ولا ذاك، بل إصلاح سياسي يفضي إلى قيام دولة القانون والمؤسسات، دولة الديمقراطية والتعدد والتنوع وتنظيم الاختلاف، بدل تنظيم الحروب. هذا ما يقترحه كتابه لحل الأزمة اللبنانية، وهو ما يشكل حلا مناسباً للأزمات المتشابهة والمتناسلة في أوطان الأمتين العربية والاسلامية.

فوجئنا بأن عدد سكان الأردن يبلغ اثني عشر مليوناً، أي نصف عدد سكان سوريا قبل حربها الأهلية، أو ما يوازي عدد النازحين منهم والمهجرين بفعل الحرب، أو ما يوازي ضعف عدد سكان لبنان، وتذكرنا أن لبنان والاردن بلدان متشابهان. فهما، في نظر النظام السوري والعقل القومجي، بلدان مفتعلان، صنعتهما سايكس بيكو. أقل من قرن من الزمان كان كافياً لبناء كيان أردني وصنع تقاليد وعادات وتاريخ مشترك، ما يدفعنا نحن اللبنانيين، الذين يمتد تاريخنا إلى أبعد من تاريخ الكيان الاردني، إلى التساؤل عن الأسباب التي جعلتنا نبدد وحدتنا الوطنية ونستبدلها بالمساكنة والعيش معاً.

بالمقارنة أيضاً يأتيك الجواب بأيسر السبل. حين قرر النظام العربي إلغاء هذين البلدين “المفتعلين”، صمد النظام الأردني ومنع قيام دولة داخل الدولة، بينما تسابق أهل النظام اللبناني على تفكيك دولتهم. اليوم، بعد عاصفة الربيع العربي، قلنا للأردنيين، بلسان كتاب “جمهوريتي”، عليكم بحماية الدولة والدفاع عنها ضد كل مخاطر تفكيكها، وعليكم أن تطالبوا السلطة بتعزيز الديمقراطية وترسيخ مبدأ تداول السلطة، إذ من الممكن أن يسود مبدأ التداول هذا في مختلف أنواع الانظمة، الجمهوري منها والملكي أو الخارج عن هذين التصنيفين، كما هي الحال في أستراليا على سبيل المثال.

لبنان والأردن البلدان الوحيدان اللذان وضعتهما تبعات القضية القومية أمام خيارين، أيلول الأسود الأردني أم اتفاق القاهرة اللبناني؟ خياران يختصران المفاضلة بين الدولة و الحرب الأهلية. في كليهما سالت دماء وقدمت تضحيات، لكن الحرب الأهلية هي الأكثر كلفة. هذا ما تبينه يوميات الدراما السورية، ومآسي العراق واليمن وليبيا. الأقل كلفة هو حماية الدولة من التفكك، وتطوير الأنظمة نحو مزيد من الديمقراطية. ذلك أن الدولة التي لا تقوم على احترام التنوع وتنظيم الاختلاف ولا يعيش مواطنوها تحت خيمة الديمقراطية، هي دولة غير مؤهلة لتوحيد الشعب وبناء الوطن.

النظام السوري رأى فيهما كيانين “مفتعلين” لأنهما متحدران من زمن سايكس بيكو لا من رحم الخلافة. غير أن تجربة البعثين وما يشبههما أثبتت أن المفتعل الوحيد هو نظام الاستبداد الذي يسير عكس مجرى التاريخ. كل الكرة الأرضية انتقلت من أنظمة الوراثة إلى تداول السلطة، إلا من عاند ومانع من بلدان الأمة العربية. ما أحوج أوطاننا اليوم لربيع من غير دماء.

السابق
حزب الله ينعي 7 من عناصره «شهداء معركة فك الحصار عن نبل والزهراء»
التالي
كنعان: عون أصبح بعد اتفاق معراب المرشح الميثاقي الوحيد لرئاسة الجمهورية