عندما يتبارز القيصر والسلطان في سماء سوريا… من يربح؟

ليس الاشتباك التركي-الروسي الاخير في سماء سوريا مجرد حادث ناجم من انتهاك دولة مجالا جويا لدولة أخرى، ولا هو مجرد مواجهة أولى من نوعها منذ انتهاء الحرب الباردة بين دولة عضو في حلف شمال الاطلسي وموسكو، أو تصادم بين دولة تقاتل “الدولة الاسلامية” وأخرى تتهم بتقديم الدعم لها. انه مع ذلك كله مواجهة بين رجلين نزقين لا يمكن التهكّن بأفعالهما ويعتبران نفسيهما الوريثين الشرعيين لعباءتي امبراطوريتين عدوتين اندثرتا منذ زمن ويحلمان باعادة احياء أمجادها.

بمعايير عدة، يشبه الرئيسين الروسي فلاديميرب بوتين والتركي رجب طيب أردوغان بعضهما كثيراً. كلاهما وريث امبراطورية صارت ذكرى ، وكل منهما يحلم باستعادة أمجادها من خلال مد نفوذه في جواره القريب والبعيد. الاثنان هما الرجلان القويان بلا منازعين في بلديهما ولم يتوانيا مرة عن تحويل ساحاتهما الداخلية أرضا محروقة من أجل السلطة. وفي الشخصية، ينافس واحدهما الاخر في الطباع الحادة. فاذا كان طلب بوتين الاعتذار أمرا بديهياً على رغم الادلة على الخرق الجوي الروسية، فان رفض أردوغان أمر طبيعي لشخص مثله .
محافظان لدودان. بوتين قومي متشدد وأرثوذكسي مستقيم الرأي، وأردوغان مسلم نفض القيم العلمانية التي ارساها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك وطبعت المشهد السياسي والاجتماعي في تركيا عقوداً.وهو يدين لقاعدته الشعبية ذات التوجهات الاسلامية في الاناضول ببقائه في السلطة أكثر من عقد.

اقرأ أيضًا: لماذا تتخوّف أميركا من نشر روسيا «صواريخ س400» في سوريا؟

تستفز الرجلان “المواعظ” الغربية حيال حقوق الانسان والحريات .وبينهما الكثير من المشاعر المشتركة حيال الجنس الاخر،غالباً ما احتلا عناوين الصحف بمواقف رجعية عن المرأة ليس اقلها اصرار أردوغان على أن المرأة غير مساوية للرجل “لأن طبيعتيهما مختلفتان”.
المعارضة حساسية مشتركة لهما.فعلى رغم الاستياء من ترشح بوتين لولاية ثالثة عام 2012 ، تمكن من الفوز في ظروف مثيرة للجدل قبل أن يبدأ تصفية حساباته مع المعارضة ويزج عشرات الناشطين في السجون.
وعام 2013، شهدت شوارع تركيا صولات وجولات، بين القوى الامنية والمتظاهرين الذي خرجوا للاحتجاج على “الاستبداد المتزايد” لاردوغان . ولم توفر السلطات ايا من وسائل القمع لتقويض التظاهرات الاحتجاجية. ولقيت المصير نفسه التحركات التي خرجت على خلفية فضائح سياسية وفضائح فساد فجّرها في وجهه انصار حليفه السابق فتح الله غولن .

أما التلاعب بالدستور أو عليه، فلا شك أنه من مآثرهما المشتركة ايضاً.بوتين أخلى موقعه لدميتري ميدفيديف اربع سنوات ليعود الى الكرملين أربع سنوات يفترض أن تتبعها اربعا أخرى . أما أردوغان الذي انتقل بدوره من رئاسة الوزراء القوية الى الرئاسة الرمزية فيمهد لنقل الصلاحيات الى القصر .
استعادة أمجاد الماضي حلم يذغدغ الرجلين. جوانب كثيرة في أردوغان تذكر بتلك الامبراطورية الغابرة، من رؤيته لمكانة تركيا في الشرق الاوسط الى مشاريعه العملاقة على طول البوسفور.

بوتين اردوغان
وبوتين الذي قال مرة إن تفكك الاتحاد السياسية هو أكبر “أكبر كارثة جيو ــ سياسية حدثت في القرن العشرين” أظهر أكثر من مرة حنيناً الى الماضي ونجح في رسم صورة لنفسه في أذهان الروس على أنه المنقذ والمخلص القادر على قيادة روسيا الى العظمة من جديد. من هذا المنطلق ، أعاد رسم خريطة العالم عام 2014 عندما غزا القرم وأعاد ضمها الى بلاده ، في خطوة صورها كأنها استعادة لبعض من المجد الضائع. وعندما وقف امام الجمعية العمومية للامم المتحدة في ايلول الماضي، ذكر أن “قرار انشاء الامم المتحدة اتخذ في بلادنا في مؤتمر يالطا لزعماء التحالف ضد هتلر”. وإذ كانت يالطا أحد الامكنة التي نوقش فيها انشاء الامم المتحدة، لا المكان الوحيد، كان واضحاً ان بوتين يتحدث رئيسا لروسيا، الخلف الشرعي للاتحاد السوفياتي وللرجال الذين أرسوا مبادئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.

وعندما أحيا بوتين تعبير “روسيا الجديدة” مع دعم بلاده الانفصاليين في شرق أوكرانيا، كان يعني عمليا روسيا القديمة .فهذا التعبير يعود الى القرن الثامن عشر عندما كان القياصرة الروس يسيطرون على مناطق انتزعوها من العثمانيين.فحتى سنواتهما الاخيرة تقاتلت الامبراطوريتان بشراسة وخاضتا 12 حرباً في ثلاثة قرون.

اختلافات

رجلان بطباع بوتين وأردوغان ليسا من النوع الذي يعض على الجرح، فكيف اذا كان الجرح بحجم الحادث الذي شهدته سماء سوريا.
وليست الاحوال بين الجانبين اصلاً في احسن حالاتها ، وإن تكن العلاقات الشخصية بين بوتين وأردوغان والاعتبارات الاقتصادية منعتها دائما من التطور الى مواجهة.

اقرأ أيضًا: هكذا أذلّ الاتراك الجيش الروسي في سوريا!‎

فمنذ بداية الازمة السورية، اتخذ الرجلان موقفين متباعدين من النظام السوري. دافع بوتين بشراسة عن الرئيس السوري بشار الاسد، بينما اتخذ أردوغان موقفاً معاديا له، وكان من أوائل الداعين الى تدخل دولي أكثر حزما في الحرب السورية وتغيير النظام.
وفي مصر، دعم الرئيس الروسي الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، فيما شن عليه أردوغان أعنف الحملات واصفاً اياه بأنه”طاغية”،
وعندما ضمت موسكو القرم العام الماضي، احتج أردوغان على التدخل الروسي ورفع صوته اكثر من مرة منتقدا المضايقات التي يتعرض لها التتار في شبه الجزيرة ، وهم أقلية تركية عانت الاضطهاد في ظل حكم موسكو.
حارسة البوابة
ومع ذلك، نجحت البراغماتية السياسية للرئيسين في ادارة التباينات بينهما وحتى في المجالات المتداخلة في البلقان والقوقاز وآسيا الوطسى والشرق الاوسط.

معهد “سترتفور” يرى أنه لا يمكن لتركيا وروسيا أن يعض كل منهما أصابع الآخر. فتركيا هي حارس البوابة إلى البحر المتوسط عبر البحر الأسود من خلال سيطرتها على مضيقي البوسفور والدردنيل. وهذا يعني أنه إذا أرادت روسيا إنزال الحاويات النفطية والبضائع والسفن الحربية غربا فإنها حتما ستمر عبر تركيا. إذا أراد حلف شمال الاطلسي أن يهدد العمق الروسي من البحر الأسود فإن تركيا عليها أن تعطي الضوء الأخضر. وهذه نقطة لم تغب عن بال بوتين.

وفي المقابل، توفر روسيا نحو حوالي 55 في المئة من حاجات الغاز الطبيعي في تركيا. ولا ترغب أنقرة في تعطيل العلاقات التجارية التركية-الروسية الأوسع، مما يمكن أن يزيد الضغوط على الاقتصاد التركي.

التدخل العسكري في سوريا

ولكن التدخل العسكري الاخير لموسكو في سوريا شكل تحدياً مباشراً لطموحات تركيا. التحركات الروسية على الحدود التركية تمثل تهديداً مباشراً لمصالح أنقرة، وتزايد النفوذ والانتشار العسكري الروسي والايراني في سوريا كما في العراق، يهدد بتبعات بعيدة المدى على التوازن الجيواستراتيجي في المنطقة. ولا شك في أن تودد موسكو إلى أكراد سوريا والعراق يثير بلا شك حساسية أردوغان.
عندما دفع بوتين بتعزيزاته العسكرية الى سوريا، أدرك أردوغان أن نظيره الروسي لم يعد مهتماً لانابيب الغاز والحسابات الاقتصادية ليراعي مشاعره.وحتى أن أولى فصائل المعارضة السورية التي قصفتها المقاتلات الروسية كان بينها من يحصل على دعم تركي.وبقراره اسقاط الطائرة الروسية، لم يأخذ اردوغان في الاعتبار اية حسابات أخرى، وقرر مواجهة العواقب ايا تكن.
حتى الان، تنسجم مواقف بوتين وأردوغان مع شخصيتيهما.

الرئيس الروسي كرر إن إسقاط تركيا طائرة روسية “عمل من أعمال الخيانة من بلد اعتبرته روسيا صديقا”. وجدد موقفه من الاسد، معتبرا أن الشعب السوري هو الذي يقرر مصيره.وهو كان وصف الحادث بأنه طعنة من الخلف، قبل أن يصعد مضيفا انها طعنة من حلفاء الارهابيين.
أما أردوغان فقال في ختام يوم طويل من التصريحات : “نحن لن نعتذر .. من انتهك مجالنا الجوي هو من عليه الاعتذار”.
ومع حرب التصريحات، يستكمل الجانبان الاستعدادات لحرب لن تقع على الارجح، ولكن نزاعاً طرفاه رجلان بطباع بوتين وأردوغان يبقى مفتوحاً على كل الاحتمالات، ولن تكون الجبهة السورية، بشقيها العسكري والسياسي الا أحد ساحاتها الرئيسية .

(النهار)

السابق
قوى الامن : توقيف 73 مطلوباً امس بجرائم مختلفة
التالي
شكوك متبادلة بين تركيا وروسيا حول الحل السوري