نعيش مرحلة تفكك الإسلام السني

كانت المبادرة لمدة طويلة داخل فضاء ما يسمى بحركات الإسلام السياسي، بيد الإخوان المسلمين والتنظيمات القريبة منهم، والتي تصف نفسها بـ “الوسطية”. أما اليوم فقد قامت الجماعات الراديكالية مثل “القاعدة” وحاليًا “تنظيم الدولة الإسلامية”، بسحب البساط من الإخوان ومصادرة هذا الفضاء.لماذا حصل هذا التحوّل المفاجئ؟

 

نعم حصل هذا الانتقال، ولكن ليس بشكل كامل. فحزب العدالة والتنمية في المغرب أو حركة النهضة في تونس أو حزب العدالة والتنمية في تركيا، لا يزال لها وزن ودور، لكن حظوظها أصبحت أقلّ مما كانت عليه قبل أربع أو خمس سنوات. حصل ذلك لسببين: أولهما عدم تحقيق نجاح بارز في المجال السياسي الذي تولوه تقريبًا بمفردهم. وبالطبع إذا كانت الشعوب العربية قد صبرت على الأنظمة الاستبدادية والعسكرية لمدة نصف قرن، فبإمكانها أن تصبر على هذه الحركات لبضع سنوات على الأقل. لكن الظروف الثورية التي نمرّ بها، جعلت الجماهير تبحث عن نتائج سريعة ومكاسب عاجلة. كان هناك انتظار شديد لتحقيق نتائج سريعة من فئتين مهمتين: فئة الحراك المدني وفئة الحراك الإسلامي.

 

كلا الانتظارين كان متسرعاً، وقد خاب الطرفان في توقعاتهما، بخاصة أن الظروف لم تكن تسمح بذلك. فكما فشل الحراك المدني، مما وفر فرصة لعودة العسكريين، ظهر الإسلام المتشدد والمتطرف، لأن الفكر الإسلامي الإحيائي الذي تعتنقه الحركات الإحيائية السياسية الإسلامية، هو الذي أصّل ولا يزال للتوجهات الدينية العنيفة. فهذه الحركات تسلّم بأن المرجعية تكون للشريعة وليست للجماعة، بحجة أن الشريعة تملك نظامًا للحكم، وهو ما يحتاج إلى وجود حزب إسلامي لتطبيقها. وبذلك تغيّرت مهام الدولة التي لم تعد وفق هذه النظرة، مخصصة للرأي العام، وإنما أصبح النظام السياسي مسخّرًا لتطبيق خليط من الواجبات الخدمية وأن يكون هدفه هو تطبيق الشريعة. وبما أن الحركات الإسلامية لم تستطع إقامة هذا النمط من نظام الحكم عند وصولها إلى السلطة، تدّخلت التنظيمات العنيفة لتتولى ذلك بالقوّة. ومن هذه الزاوية يكون الإسلاميون المعتدلون هم الذين ربّوا هذه المنظومة ونشروا هذه الأيديولوجيا ورسّخوا فكرة أن نظام الحكم هو ركن من أركان الدين، وعندما أخفقوا في الالتزام بهذه المهمة، جاء من تربّوا على أيديهم ليسحبوا منهم المبادرة ويحتكروها لأنفسهم، وذلك عبر التمسّك بالمسميّات الدينية والاستفادة من السلفيات المتشددة. لقد كان المعتدلون يظنّون، بكونهم أقدر على تحقيق هذا المشروع بالاعتماد على ذكائهم وخبراتهم وتعاونهم مع الولايات المتحدة الأميركية، قد وعدوا الغربيين بأنهم سينجحون في ترويض أصحاب الخطابات الراديكالية.

اقرأ ايضًا: في انتحار السنّة والشيعة…

*يفهم من حديثك أن المتطرفين هم أبناء الحركات الإسلامية التي تطلق على نفسها صفة الووسطية؟

 

دعك من صفة “الوسطية”، فتلك صفة يطلقها حزبي على تنظيمه، وإنما يجب أن يُقال أبناء الحركة الإحيائية. أنا أفرّق بين الحركات الإحيائية والحركات الإصلاحية والخيرية. لقد كتبت عدة دراسات عن الحركات الإحيائية التي ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في أنحاء متفرقة من العالمين العربي والإسلامي، والتي حلّت محل الحركات الإصلاحية، التي كان من بين رموزها محمّد عبده والطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس. هذه الحركات كانت نهضوية تتخذ من الغرب والتحديث، مرجعية لها ودعمت ذلك بالاستناد إلى الكتاب والسنة.

 

هذه الحركات ذات التوجه البروتستانتي تنّبه إليها المفكّر الجزائري مالك بن نبي، وكان كثير التنقّل بين سورية ولبنان، وقد تزوج سورية، وكان يطبع كتبه في بيروت. قال لي ذات يوم: هناك حركات بروتستانتية في الإسلام، ولم أفهم مقصده، فأجاب أعني حركات احتجاجية، وبما أنك يا رضوان ستذهب إلى ألمانيا ستعرف هذا النمط من الحركات. هي حركات لا تؤمن بكلّ ما هو قائم، وتعود إلى الأصول وإلى تجربة التأسيس، وكأنها بذلك تعيد الدين من جديد على نهج المؤسس الأوّل. فالحركات البروتستانتية تقرأ دائمًا الإنجيل من جديد وتعود إلى المسيح، ولا يهمها كلّ التاريخ المسيحي. هذه الحركات الإسلامية، بما فيها الإخوان المسلمون، تحاول إعادة الإسلام المكّي والهجرة، وأحيانًا بطريقة حرفية مثلما فعل الباكستانيون عندما انشقوا عن الهند بحجة أنه لا ولاية على المسلم، وأن المسلم لا يستطيع أن يعيش مع غيره. الإخوان في مصر لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك، فولدت أفكار مثل الهجرة الشعورية كمرحلة أولى، في انتظار توفر الفرصة لمهاجمة المجتمع الجاهلي.

 

سألت المرحوم بن نبي: أين تلمح مثل هذه الحركات؟ فأجاب بأنه لاحظ ذلك في سورية، وعبّر عن خشيته من أن يتورط هؤلاء الشباب، الذين كانوا يزورونه، في العنف، وهو ما جعل السلطات البعثية تظنّ بأنه ينشط ضدها، في حين أنه كان يخشى على الإسلام ولا يهمه مصير النظام السوري، حسبما أكده لي.

 

أدركت أهمية هذه الحركات الإحيائية بعد ذهابي إلى ألمانيا، وبخاصّة بعد مقتل الرئيس السادات. فحركة الإخوان نشأت في مجتمع مدني عريق في مصر، وكان مؤسسها حسن البنا معجبًا بتجربة الملك عبد العزيز، ولكنه أدرك أنه لا يستطيع أن يطبّقها في مصر، لذلك أخبرنا ثروت الخرباوي عندما خرج من الإخوان، أن في كلّ عقل قادة الحركة، تعتبر اليمن هي البلد المهيأ والصالح للقيام بتلك التجربة، أي إقامة دولة إسلامية جديدة، ولذلك تآمروا على المسكين الإمام يحيى حميد الدين وقتلوه، حين أرسلوا بعثة يقودها عبد الفتاح الورتلاني الذي شارك في مؤامرة 1949، ولكن على إثر ذلك، قتل الإمام حسن البنا.

 

هذه الحركات الإحيائية تحدوها الروح التأسيسية الجديدة، من أجل إعادة الشرعية الدينية المفقودة حسب اعتقاد أصحابها بسبب الاستعمار، ثم نشأة الحكومات الوطنية الجديدة التي لا تقوم على أساس إسلامي كما يعتقدون. لقد فشل التقليد الإسلامي، ولهذا لا يعودون إلى زمن العثمانيين، وإنما يعودون رأسًا إلى زمن النبي لإعادة التجربة النبوية من جديد، ثم بعد ذلك تضفي عليها تأويلات. المهم هو صلابة التنظيم الذي تركّزت به الشرعية. ولهذا لم ينقسم الإخوان المسلمون أبدًا رغم الاضطهاد الذي تعرضوا له، ولم يتسرّب إليهم الشك في كونهم “الجماعة المختارة” لإطلاق التأسيس من جديد. وقد غُلّف ذلك كله بالتأويلات المتعددة القابلة للتسويق الواسع في مدن واسعة مدينية صعبة، ومختلفة عن المناطق البدوية مثل نجد أو تخوم السعودية وحدودها التي نجحت فيها الحركة الوهابية. لهذا نشأت إلى جانب حركة الإخوان والحركات التي تشبهها، تنظيمات أخرى مبسّطة وأكثر راديكالية تعمل على العودة إلى الأصول من دون رتوش، سُميت سلفية لكنها لا تختلف كثيرًا عن الإخوان، إنما بدأت بالسردية الدينية الشديدة والتمسّك بسلوكات متقاربة مثل اللباس واللحى مع بعض الاختلافات.

 

*هل تعني أن الاختلاف بين الطرفين ينحصر فقط عند الجوانب الشكلية؟

 

لا أقصد ذلك، هناك تأثير واضح في الجوهر. لقد أثّرت في السلوك السياسي. فحركة الإخوان لم تكن داعية للعنف المطلق، وظلّت تعتبر أن نظام الاستبداد والفساد سيسقط مثل التفاحة المتخثرة، وسيحلون محله، وقد صدق حدسهم في سنة 2011 وإن حصل ذلك بعد طول انتظار. أما الجماعات الجهادية التي نشأت على يمينهم، فتحمل الأفكار والأهداف نفسها، لكنها لا تحمل الإيمان نفسه بصلابة التنظيم وبشرعية المسألة. وهم أيضًا يعتقدون بأن السلطة ستسقط في أيديهم، كما يعتقدون بأن الطبقة الوسطى والصغيرة المصرية والسورية والجزائرية والتونسية آمنت بهم.

 

السلفيون الجدد غير سلفيي الدولة السعودية، لحاهم أطول من لحى الإخوان ولباسهم مختلف، وسمتهم العقائدي أكثر تشددًا. لكن مع ذلك، فإن الإخوان سمتهم العقدي واضح، وأصوليتهم عميقة، وإن كان إيمانهم بالجمهور أقوى من “الجهاديين”. فهذه السلفيات الجديدة طال عليها الأمد مع قصة الإسلام السياسي الذي يتمحور حول كيفية استعادة الشرعية والإسلام، ونشأ في ظلّ ذلك التيار القطبي، وبعد الثورات انفجر هذا “العنف السلفي” الذي سبق له أن مارس ذلك قبل وصول الإسلاميين إلى السلطة، سواء في مصر أو في غيرها من الدول العربية. وإن كان من الملاحظ أن هذا العنف هدأ مع وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس ومصر وفلسطين والسودان، كما انتظم لفترة لا تقلّ عن سنة ونصف. وقالوا لأنفسهم : إذا تحقق الحكم الإسلامي بدون جهد منّا، فلا مصلحة من معارضة ذلك، ويمكننا أن ندخل معهم وأن نتشرعن. وقد كان ذلك واضحًا بالنسبة لليبيين على سبيل المثال. لكن عندما تكأكأ الإخوان في كلّ مكان ولم ينجحوا، وضاعوا بين وعودهم لجمهورية حول ضرورة إعادة الشرعية الآن، وبين ظروف إقليمية ودولية تجعلهم غير قادرين على فعل ذلك، فأدّى ذلك إلى عودة العنف من جديد بعد أن استلم العسكر السلطة في مصر.

اقرأ ايضًا: اين هي البيئة الحاضنة لـ«داعش»؟

* كأنك تقول من خلال حديثك بأن حركات الإسلام السياسي تمرّ حاليًا بمأزق استراتيجي، وأن استعادة جزء من المبادرة لن يكون بيدها إلا إذا تغيرت الأوضاع هنا أو هناك

 

كلّه ليس بيدها، لأن المتحكم حاليًا في الأوضاع هم العسكر ببعض الدول والقوى الخارجية في دول أخرى. أميركا هي التي تقرّر متى يدخل الإسلام السياسي من جديد وكيف. المشروع الإسلامي بذاته قاصر، مثله في ذلك مثل المشروع القومي الذي لولا دعم الاتحاد السوفييتي له أثناء الحرب الباردة، لما بقي منهم شيء. وقد تأخّر بقاء المشروع القومي بعد انقضاء عمره. الفرق بينه وبين الإسلام السياسي أن هذا الأخير لم يجد قوى دولية متحمسة له. صحيح أن واشنطن لم تمانع، لكنها ليست مستعدة لتتحمله وتدافع عنه. والأتراك من جهتهم بقيادة رجب أردوغان لا يستطيعون الدفاع عن الإسلام السياسي بالمنطقة كما يجب. لكن مع ذلك فإن أميركا تبقى صاحبة القرار في العالم كلّه، بما في ذلك الصين وروسيا، والقادرة على دعم هذه الحركات أو مواجهتها. كان القرار الأميركي لصالحهم، لكن ليس بشكل مطلق. وعندما قاوم العسكريون المحليون وبعض الأنظمة الخليجية، الاستيلاء الإخواني على الحكم، لم يتمسك الأميركيون كثيراً في الاعتراض على ذلك وانتهوا بالسكوت عمّا حدث.

 

يشكو المشروع الإسلامي أيضاً من قصور ذاتي، ناجم عن انكماش رؤيته للعالم إلى جانب انكماش رؤيته للدين، وأيضاً لمهام الدولة وللفضاء الاجتماعي. له انفتاح ظاهري على الفئات الاجتماعية المسلمة وغير المسلمة، لكنه منكمش في داخله، ومتمسّك بأن الجزء الرئيسي من مهام الدولة هو تطبيق الشريعة، وإذا لم تكن مطبّقة، فإن الناس يكونون غير مسلمين. المشروع الإسلامي غير معقول، وهو في نهاية المطاف نتيجة تأزّم الإسلام بسبب مرحلة الاستعمار، ولا يمكن لمشروع الهوية أن يتحوّل إلى مشروع سياسي قادر على معالجة أوضاع اللحظة التاريخية الراهنة.

 

* ألا ترون أن المعضلة الرئيسية لهذه الحركة لا تكمن فقط في منهجها السياسي، وإنما أيضاً في خطابها الديني التقليدي الذي أصبح في حاجة مؤكدة لمراجعته بشكل جذري؟

 

نعم، التقليد الإسلامي انتهى بعد أن تعرّض لضربات قوية من قبل التحديثيين من جهة، والإسلاميين من جهة أخرى. الترتيبات الخاصة بتنظيم العيش المشترك والقائمة على الفقه القديم، لم تعد موجودة في مختلف مجالات الحياة. لم يعد فقه الدين هو الذي ينظّم حياة المسلمين ويصوغ قيمهم. نحن الآن لا نبحث عن ترميم الثقافة الدينية التقليدية، وإنما أصبح البحث عن مشروع إسلامي جديد. لم يبقَ من تلك الثقافة سوى هذا التديّن الشديد ذي الطابع الشعائري، وإيمان لدى أغلب المسلمين بأن يكون لدينهم دور في تنظيم حياتهم السياسية، من دون أن يعني ذلك الوصول إلى إقامة دولة دينية. فقط هم يريدون حقًا أن يكون حاكمهم يتمتع بأخلاق صالحة ويجهر بإسلامه، ويتبع في سلوكه القيم الإسلامية وليس الشريعة كما يقول الإسلاميون. المسلمون يثقون بالسياسي المتديّن أكثر من ثقتهم بالسياسي غير المتدين.

 

* هل انهيار التقليد من شأنه أن يفسر انهيار المؤسسة الدينية؟

 

نعم، لأن المؤسسة الدينية هي مؤسسة التقليد للمذاهب الأربعة. هذه المؤسسة انهارت عندما وقف ضدّها الإصلاحيون الذين كانوا يريدون فتح باب الاجتهاد، كما وقف السلفيون ضدّها بحجة أنها منحرفة ومختلطة بالصوفية، وما تعنيه عند هؤلاء من شرك وفساد في العقيدة. كما انهارت أيضًا بسبب شكوك الدولة الوطنية فيها، بحجة أنها تعرقل عمليات التحديث، وبناء الاشتراكية بحجة كونها تمثّل الرجعية الدينية. شخص لا يملك شهادة ثانوية، يصبح حاكمًا لبلد عربي، فيتفلسف في الدين ويعتبر نفسه متقدّمًا في الدين. وعلماء المؤسسة الدينية متخلّفون مثل حافظ الأسد وصدام حسين. لقد اعتقد معظم الحكام والمسؤولين العرب من الصف الأوّل والثاني، وهم بالمئات، بخاصة العسكريون، وهو ما أكده لي العقيد معمر القذافي، وباستثناء جزء من الضباط المصريين المتدينين الذين، وإن وقفوا ضدّ الإخوان المسلمين، إلا أنهم لم يتحولوا إلى خصوم للعلماء التقليديين، أما بقية المسؤولين، وهم بالعشرات إن لم نقل بالمئات، اعتقدوا أن المؤسسة الدينية عقبة في طريق التحديث الذي كانوا يشرفون عليه، بدعوى إعداد الدولة للحرب في فلسطين وإقامة الوحدة العربية وما شابه.

 

إلى جانب الإصلاحيين ثم المتسلفين والحركات الإسلامية المناهضين جميعًا للمؤسسة الدينية، ويمكن الرجوع في هذا السياق إلى رشيد رضا الذي صدر له كتاب عام 1933، جمع فيه كل المقالات التي كتبها عن هذا الموضوع تحت عنوان “المنار والأزهر” في ألف صفحة شملت انتقاداته للأزهر. هؤلاء جميعًا كانت لهم خصومة مع المؤسسة الدينية، وأرادوا أن يستبدلوها بأخرى تخضع لتوجهاتهم. أما العسكر فقد كانوا يريدون إلغاء أي نوع من أنواع المرجعية الدينية. حتى ثوار يوليو الذين أبقوا على الأزهر، عملوا على تحديثه حتى لا يشكّل عقبة في طريق سياساتهم وبرامجهم. أما جماعات حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي وجعفر النميري والعسكريون الجزائريون والموريتانيون، كل هؤلاء همّشوا المؤسسة الدينية، ولم ينتبهوا لأهميتها إلا مع حلول السبعينيات، أي مع صعود الأصوليات التي تعادي بدورها المؤسسة الدينية، وتعمل لتحل محلها. هذا ما فعله الأسد من خلال دعم مجموعة مؤسسات عامّة أو خاصة في المجال الديني، وكذلك الشأن بالنسبة لصدام حسين عندما حصلت له ردة دينية، وهو ما عملت على القيام به جماعة عمر البشير الذين بحكم كونهم إسلاميين، فقد عمدوا إلى استخدام مسؤولين من الإخوان أو من ذوي الميول السلفية، ووضعوهم لإدارة الأوقاف وغيرها لتنفيذ سياساتهم.

 

يتمثّل السبب الثالث في وقوف السلطات ضدّ المؤسسة الدينية عندما تختلف مع الحكام، لكن ذلك لم يسعفها كثيرًا لأن الذين يعارضون السلطة يميلون للإخوان أو للسلفيين، وليست لديهم ثقة كبيرة في هذه المؤسسة. مرّة سألني القذافي : هل صليت الجمعة؟ أجبته نعم. فقال أين؟ فقلت بالجامع الذي كان من قبل كنيسة في قلب العاصمة طرابلس، لكن لم يتجرأ أحد على أن يلقي خطبة الجمعة فيه، فقمت أنا بذلك، ولم أعرف لماذا كان المصلون وعددهم قليل جدًا، على علم بذلك. فأجابني القذافي: “الثورة كفّتهم عن ذلك. فقلت: “يجوز”. فعقب بقوله: “هل أنت غير راض عن الموضوع “؟ قلت : لا ، ليس لي تعليل سيادة العقيد.

 

فقال: “كل واحد يروح إلى الجامع فهو سنوسي”. وفعلا كان الناس خائفين من الذهاب إلى المساجد في تلك الأيام، وما ذلك إلا دليل على ذهنية الحاكم العسكري.

 

هناك سبب رابع أحسست به شخصيًا من خلال تجربتي، حيث التحقت بالمؤسسة الدينية منذ أن كان عمري عشر سنوات، وتعلّمت بالمعهد الديني في بيروت قبل أن ألتحق بالأزهر، ثم بعد عودتي من ألمانيا اشتغلت مع هذه المؤسسات الدينية من خلال تدريسي بالجامعة.

 

لقد فقدت المؤسسة الدينية حتى من خلال إحساس رجالها، إحساسها بأهمية رسالتها الدعوية. ولا يعود ذلك فقط إلى مصادرة الدولة لمدارسها، وإنما فقدوا الثقة في أنفسهم وفي مهماتهم، وهي أربع مهام : التعليم الديني، وحدة العبادات، والفتوى، وأخيرًا الإرشاد العام. هذا الإرشاد الذي أصبحت تتنازعه عدة جهات، بما في ذلك جهات علمانية وإعلامية وحزبية وغيرها، لكن لا يزال للمؤسسة الدينية دورٌ مهم في هذا المجال.

 

قال لي شيخ الأزهر السابق الطنطاوي تقريباً خلال سنة 2007 أو 2008: “نحن نملك وظائف ومهمات، أما الوظائف فنقوم بالحد الأدنى منها، وأما المهمات فلا نقوم منها بشيء”.

 

وأضاف أحد الأشخاص الذي درس مثلي بألمانيا، وكان مقربًا من شيخ الأزهر: “ليس لدينا إحساس اليسوعيين بالدفاع عن الدين أو إحساس البروتستانت المتحمسين لفعل شيء لدينهم”.

 

لقد تحوّلت المؤسسات الدينية إلى أجهزة وظيفية ضخمة. الأنظمة العربية لم تلغِ هذه المؤسسات، بل على العكس من ذلك ضخّمتها وحوّلتها إلى أجهزة بيروقراطية كبرى، مثلما حصل بالسعودية والمملكة المغربية والدولة المصرية، لكن مع ذلك لم يظهر من بين المشرفين عليها رجالات كبار يشعرون بأن مهمتهم هي حفظ الدين وتربية الناس. وهكذا فقدوا ثقة الناس فيهم، وأصبح الإخوان المسلمون على سبيل المثال “مراجع دينية”. لماذا؟ لأنهم أصبحوا يملكون القدرة على تسكين الناس أكثر مما تنجح المؤسسة الدينيية. لقد انفجر الدين من داخله بسبب ذلك، وبقطع النظر عن المسؤول عن ذلك، فإن السؤال المطروح حاليًا هو : كيف يمكننا تسكين المجتمعات؟

 

*هناك من المثقفين العرب من أرادوا في ضوء تراجع المؤسسة الدينية وضعفها الشديد أن يعوضوها، أو وضعوا أنفسهم مرجعيةً للناس في الحلّ الديني، ولكنهم فشلوا في تحقيق ذلك حسبما يلاحظ.

 

هؤلاء لم يشتغلوا شيئاً إلا على التراث الديني، إمّا لإعادة تأويله أو من أجل تفكيكه وإزالته. وكان عذرهم في ذلك أن هذا التراث يمثّل عقبةً أمام دخول المسلمين في الحداثة. التقيت بمحمد أركون بين سنتي 84 و85، وحدّثني عن الأشعري قائلًا بأن هذا كان أهبل ومجرمًا. ومنتقدًا أيضًا عديد العلماء مثل الشافعي وغيره. فقلت له : من حقك أن تشتغل على هذا التراث، لكن تأكد بأن هذا ليس هو الهمّ الرئيس للمسلمين اليوم. هل تريد أن تعرف ماذا يهدّد المجتمعات العربية والإسلامية حاليًا؟ قال “طبعًا”. قلت : الإسلام اليوم مهدد بالانفجار. فهذه الحركات الإسلامية التي قتلت السادات، وأشعلت حربًا في أفغانستان تحولت إلى حركات دينية شبيهة بالقرمطية في القرون الوسطى، وستحدث انفجارًا في الدين. وكان يومها أركون يخلط بين الوهابية والأشعرية، فقلت له : كل هذه التيارات انقرضت، وقامت على أنقاضها حركات أخرى تفجّر الدين من داخله. فإذا به يقول لي “ما لم تقضِ على الشافعي، فلن تستطع أن تقضي على هذه الحركات”.

 

لقد اعتقد هؤلاء التحديثيون بوجوب القيام بإصلاح ديني على الطريقة البروتستانتية كمقدّمة حتمية لدخول الحداثة. ومع ذلك لم يتمكن محمّد أركون ولا عبد المجيد الشرفي ولا محمّد عابد الجابري ولا نصر حامد أبو زيد، من أن يجعلوا من أنفسهم مرشدين، وضعهم أسوأ من ذلك، ويا ليتهم فعلوا ذلك، عساهم أن يموتوا دفاعًا عن مشروعهم العلماني. كل ما فعلوه أن قاموا بوضع الإشكاليات في اعتقاد من يظنون أن الحاكم المستنير هو الذي سيتولى إنجاز مهمة الدين المستنير.

 

كان محمّد الجابري، وهو ألطفهم، يقول بضرورة إقامة الكتلة التاريخية، ولكني شخصيًا لا أفهم ماذا تعني هذه الكتلة، ولا أعتقد بأنها ستتشكل أصلًا. وهذا يعني عمليًا أنهم أوكلوا مهمة التنوير الديني إلى السلطات، لأن الإسلاميين هم نتاج التراث الديني الذي يسعون إلى تفكيكه. لا نجد تنويريًا عربيًا منفتحًا مثل كانت أو كالفن. هؤلاء الباحثون يمثّلون ظاهرة هامشية، وذلك رغم نشاطهم الكثيف. لهم آراء تأويلية ويعتقدون أنه لا جدوى من الإسلام القديم. حتى الخيار الديمقراطي، نلاحظ أنهم ليسوا شديدي التمسّك به. هناك مثقفون يساريون عرب سجُنوا، لكن هل هناك من استشهد منهم طوال نصف قرن من الحكم العسكري والأمني؟ اعتقل عبد الناصر بعض الشيوعيين، لكنه في ما بعد، قرّب الكثير منهم لحكمه.

 

* أليس هذا حكماً قاسياً على هؤلاء المثقفين؟

 

أنا أحكم بالنتائج، أما إذا أردت أن أقيّم العمل العلمي العظيم الذي قام به هؤلاء مثل أركون أو الجابري لقلت كلامًا آخر. أنت سألتني عن وظيفتهم وليس عن إنتاجهم، ورأيي أن ما أنجزوه كان قائمًا على تشخيص خاطئ. أما إنتاجهم، فقد كان ضخمًا ومعتبرًا من حيث الجهد المبذول. بعض صغارهم الآن، يعطون لأنفسهم صفة المرشد بحجة أنهم يعرفون التنوير الأوروبي والفكر المستنير ويقومومن بعرضه علينا. حتى محمّد عابد الجابري الذي يعتبر نفسه قائداً سياسياً، لم يعرض نفسه حتى يكون بديلاً، فضلاً عن الآخرين.

 

هؤلاء سيطروا على الجامعات، فلا تجد في ما كتبوه فلسفة أو فكرًا أو خطابًا يستند إلى العلم الحديث، بقدر ما أنتجوا عشرات الأبحاث لنقد التراث، وذلك على مختلف تخصصاتهم، سواء في العلوم الإنسانية أو الدينية أو الاقتصادية. أما العاملون بالمؤسسات الدينية، فللبعض منهم كتابات محدودة أنجزوها في فترة سابقة وهي أقرب إلى المواعظ والإرشادات؛ نظام الإسلام في العقيدة، نظام الإسلام في الحكم.. وكأنها شفاء من كل داء. فلا أحد قام بالمهمة التي أوكلها إلى نفسه. ماذا عمل هؤلاء جميعًا وماذا اصاب الأمة؟. فبعض المثقفين أصبحوا ينادون بضرورة دمقرطة الأنظمة، ولكن كيف يمكن دمقرطة صدام حسين ومعمر القذافي وأمثالهم؟ لا يعرفون كيف يحققون ذلك؟ هذه أمة مفوتة.

 

أنا ألوم المسؤولين عن المؤسسات الدينية، أما الآخرون فلا ألومهم، بمن في ذلك المثقفون العلمانيون والتنويريون.

 

الموقف الراهن الذي نحن فيه من الناحيتين الدينية والثقافية، له أربعة أسباب هي: الاستعمار والإصلاحيون والحركات الإحيائية والأنظمة العسكرية والأمنية. أما المثقفون التحديثيون فلم يفعلوا شيئًا بالنسبة للمسألة الدينية، لأن كل كلامهم في هذا المجال قام على سوء تشخيص وتشخيص خاطئ للمشكلة. المشكلة ليست في الموروث الديني، بما في ذلك الكتاب والسنة كما يزعم بعضهم.

 

أنا أحمل المسؤولية الرئيسة للأنظمة الأمنية والعسكرية، وأضع الجماعات الأصولية التي انتهجت، في ما بعد، أسلوب العنف، وبعد ذلك تأتي مسؤولية المؤسسة الدينية، التي ضعفت ولم تقاوم لا الأصوليات كما يجب ولا السلطويات كما يجب. أي لم تعمل على حماية الناس باسم الدين، كما فقدت مهمة كانت تقوم بها في القديم، وتتمثّل في الوساطة بين الناس والأنظمة.

 

الآن وقد تهاوى التقليد، وهو مؤسسة التقليد، حلّت محله الأصوليات. نحن اليوم نعاني من فراغ ديني رهيب، كان من نتائجه انفجار الإسلام السني. وذلك خلافًا للمؤسسة الدينية عند الشيعة، لمّت هذا العنف وضبطته داخل إيران، وأطلقته في المقابل على العالم السني، ظنًا منها بأنها تحمي بذلك مشروعًا استراتيجيًا يضمن لها البقاء والقوة. وهكذا قامت بتخريب عدد من الدول العربية، وتمكّنت من التغلغل في عدد من مناطق العالم الإسلامية، بفضل جماعات شيعية. لكن هذا العنف الشيعي سيظهر وسيعود وسينفجر في داخل إيران كما انفجر داخل الإسلام السني. فلو أن حركة سنية تمكّنت من بلوغ السلطة في دولة عربية كبرى أو وسطى مثلما حصل في إيران، لتأخّر انفجار العنف بهذه الطريقة الفظيعة، لكن مع ذلك العنف آت.

 

فهذه الجماعات الحاملة للسلاح اليوم، هي جماعات مأزومة لأنها وليدة الأزمة الشاملة، وليس بإمكانها أن تنتظم سياسيًا وفق مقتضيات الحكم الديمقراطي، وتقيم نظامًا مدنيًا يعيش في عالم العصر وعصر العالم. حتى الثورات صارت لها قوانين أوروبية. نظام العالم اليوم غربي، ولذلك كانت لنا فرصة في أن تنجح الدولة الوطنية، لكن قادها العسكريون الأميون بحجة أنهم الأقدر على تقديم خدمات أكبر للأميركيين أو الروس. هذه الدولة الوطنية العربية الفاشلة، فجّرت المجتمعات بقمعها الذي مارسته على الجميع، فدفعت بذلك الناس نحو الحركات الأصولية، باعتبارها بدائل عن السلطة وعن المؤسسات الدينية. وهكذا أصبح لكل عنف ذاتيته. في الأوّل يمكن لحافظ أو بشار الأسد أن يحكما باسم الدين، ثم تصبح لك آلياتك الذاتية. فمليشيات المخدرات التي تنتجها هذه الجهة أو تلك، تصبح لها استقلاليتها بعد أن تصبح لها مشاريعها ومصادر تمويلها. وهكذا اكتسبت هذه الجماعات شعبيتها مقابل أنظمة تراجعت جماهيريتها.

 

*ماذا يقترح رضوان السيد للخروج من هذا النفق؟

 

عندي أربع أولويات : أولاً: العمل من جانب المثقفين وكلّ المفكرين على دعم مشروع الحكم الصالح والرشيد بغض النظر عن اسمه، لكي يشعر الناس بأن مصالحهم الأساسية مرعية، فينصرفون عن العنف وأوهام الدولة الدينية البديلة. هذا عمل حيوي جدًا، لا يمكن لأي مثقف عربي أن يتخطاه بقطع النظر عن عواطفه تجاه هذا الحزب أو غيره. فقيام حكم من هذا القبيل يمكن أن يحل نصف المشكلة.

 

ثانياً: نقد المفاهيم، ونقد عمليات تحويل المفاهيم. وهذه مهمة لا يقوم بها إلا المفكّرون الكبار الذين لم يقوموا بشيء خلال الخمسين سنة الماضية. الآن لدينا مفاهيم جديدة سواء في الإسلام أو في الاجتماع والسياسة وفي الدولة، وكلها مفاهيم قاتلة، مثل تطبيق الشريعة أو القول بأن الدولة ركن من أركان الدين، ومثل الجهاد في الداخل والخارج. أو الاعتقاد بأن الإصلاح الديني لا يتم إلا بالطريقة الأوروبية، وكذلك القول بأن الإسلام التقليدي هو المشكلة. وهذه المسائل تتراوح بين معالجة على يد إسلامي متطرّف، ومرة أخرى على يد علماني متطرّف أيضاً. فتحولات المفاهيم، هي التي أدّت إلى الانحراف بالدين وضيّعت الأمل في إمكانية قيام مجتمعات مطمئنة. لقد صار الدين عنصر انقسام وليس عنصر توحيد.

 

ثالثاً: شئنا أم أبينا، ليس لدينا اليوم سوى المؤسسات الدينية للقيام على الشأن الديني، بما يعنيه رعاية العبادات والفتوى والتعليم الديني والإرشاد. وهي مؤسسات ليست ناهضة، وتاريخها القريب ليس عظيمًا، لكنها هي الحافظة بقية السكينة في الدين وفي المجتمع. كما أنه لا يستطيع القيام بهذه المهام غيرها. يجب أن يقع عليها تصالح اجتماعي جديد، فتصبح بينها وبين السلطات مسافة. ليست ضدّ السلطات، ولكنها لا تعمل عندها. هي في خدمة المجتمع وخدمة دينه ومصالحه الدينية الحميمة. المؤسسات الدينية ضرورية باعتبارها من بين أدوات طمأنة المجتمع بأن دينه بعيد عن العنف، وأن هناك مهمات شرعية يجب القيام بها حتى لا يقال بأن الإسلام مهمل. الإسلام لا يملك نظامًا للحكم ولكن له عبادات ومعاملات وقيم يجب أن ترعاها هذه المؤسسات الدينية.

 

الأمر الرابع والأخير، هو تجديد المشروع العربي. العالمية الإسلامية بخير، والإسلام لنا ولغيرنا، لكن المشروع العربي لنا وحدنا، وهناك عدوان من الجماعات الإسلامية ومن الأنظمة على هذا المشروع العربي الموحد، والذي يعني ملأ للفراغ الاستراتيجي أيضًا وليس فقط توحيدًا للداخل الاجتماعي، وهذا الأمر يتم بمبادرات سياسية، لكنه يجب أن يستند إلى الثقافة والمثقفين الذين سبق أن أثروا فيه خلال مراحله الأولى، ثم غادروه إلى اليسار أو إلى العولمة، وهو يستحق منهم عودة لأنه يمكن أن يكون مهمة رئيسية لوقف تفكك المجتمعات وانهيار الدول.

(العربي الجديد)

السابق
من يستغل مأساة «حيدر» للترويج الاعلامي والاعلاني؟
التالي
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم الأربعاء في 18/11/2015