يوميات البؤس السوري (2/2): لسنا مجرّد حصصا غذائيّة!

مريم تقول «إن موظّفي "الأمم" يتعاملون مع قضايانا كوظيفة منتجة، مجردة من أي لفتة إنسانية. يأتون بسيارات آخر موديل، يركنونها بعيدا عن المخيم، كي لا تتلوث بالوحول أو تتغبر، ويترجلون منها عابسين، ضجرين، يتكلمون بلغة الأرقام والحسابات، ثم يرحلون.

سلامة ليست امرأة فقط، سلامة وطن وشعب وتراب وزرع وحياة. عبارة “لا يأس مع الحياة”، تجسدها سلامة في ابتسامتها الدائمة، في تفاؤلها الذي لا تعرف سببه، ولا من أين أتت به، من الطاقة الإيجابية التي ترسلها إليك حين تجرك بيدك إلى زوايا الحياة في المخيم التي رتبتها وتشرف عليها. هنا زاوية لصنع “الحرامات” بقايا كنزات صوفية عتيقة ممزّقة، تجمعها وتخيّطها، وتصنع منها أغطية، توزعها على المحتاجين في المخيم. هنالك زاوية للخبز، موقد وصاج وكارة وألكان للعجين وأكوام الخشب والكرتون والعيدان. تفوح منها رائحة الخبز المغرية، طيلة ساعات النهار. الخبز بالدّور، برنامج يومي يوزّع على ربّات البيوت أو ربّات الخيم. هن فعلا ربّات لأنهنّ ينهضن كل صباح ليصنعن من هذا اللاشيء معجزة. هنالك زاوية للماعز والدجاج، زريبة وخم، يزيّنان طرف المخيم، ويجعلان الإقامة فيه ترفا. ليس هينا أن تكون مشرّدا وتحظى كل صباح بكوب من الحليب الطازج أو بيضتين للفطور، جميل أن تتوقف المأساة لحظة ليعود للحياة طعمها العادي. منزعجة سلامة من الوزير اللبناني الذي اتّهم النازحين بمفاقمة أزمة النفايات. نحن بالكاد نشبع، الجائع لا يخلّف نفايات، قد تكون هي طعامه أحيانا.

لا شيء يعذّبني في المخيم مثل البرد، تقول المحتالة الصغيرة. أستطيع أن أصبر على الجوع، أستطيع أن أعيش بلا مدرسة، بلا ألعاب، لكن، لا يمكنني أن أتحمّل البرد. عندما كنت في سوريا، لم أكن أعرف أن الثّلج بارد إلى هذا الحد، لم أكن أعرف أن بياضه يجعل شفاهنا زرقاء وأنوفنا حمراء. كنت مخطئة حين ظننت أني أحب الثّلج. الثلج يذكرني كم أنا فقيرة، كم أنا بحاجة إلى أناس يشفقون عليّ ويرسلون إلى الكثير من معاطفهم وكنزاتهم وجواربهم الصوفية، وأحذيتهم ذات الأعناق الطويلة.

كانت المساعدات التي حملناها إلى المخيم ذلك اليوم، عبارة عن ثلاثة صناديق من الأحذية الشتوية للأطفال. نادى الشّاويش على أطفال المخيم، وطلب منهم أن ينتظموا في ثلاثة صفوف.  يقف الطفل أمامك فتسجل اسمه وعمره ونمرة قدمه، تعطيه حذاءه، ومعه أحيانا قبلة أو غمزة أو بسمة، فينتعله على الفور، ثم يقفل عائدا إلى خيمته.

وقفت المحتالة الصّغيرة أمامي، طلبت أن تختار حذاءها بنفسها، فوافقت. لفتني أنها لم تنتعل حذاءها كما فعل غيرها، بل وضعته تحت إبطها وذهبت. استأنفت عملي، فإذا بي أراها تقف في الصفّ الثالث، وتدير وجهها إلى الجهة الأخرى كي لا يقع نظري عليها. اقتربت منها، فانهارت بالبكاء قبل أن أتفوّه بأي كلمة. سحبتها جانبا وأنا أعيب عليها فعلتها، كانت تنتحب وصوتها يتقطع وهي تقول لي: “أريد حذءا آخر، أكبر من الذي أخذته. هذا الشتاء، حصلت على واحد الآن، من يضمن لي أن أحصل على ثان، في الشتاء المقبل. ربما لن تعودوا مرة أخرى، ربما ستنسوننا، البرد لن ينسانا”.

في هذا المخيم، الشاويش امرأة، مريم صبية في أوائل الثلاثينيات، تحمل بيدها هاتفا خلويا، تتواصل عبره مع “الأمم” ومع الأهل في الداخل. من يريد الاطمئنان على أحد أقاربه في سوريا، يلجأ إلى مريم. من وقع في مشكلة أثناء عمله في السّهل، مريم تحلّها. المساعدات تمرّ عبر مريم أيضا. تستقبل مريم الزائرين والمتبرعين في خيمتها المنصوبة على مدخل المخيم، ينضم الرجال إلى الجلسة، لكن لا أحد يتكلم غيرها. ترحّب وتتأهّل، وتأمر بتحضير الشاي والضيافة، ثم تسأل عن نوع التبرعات وحجمها. تطلب من أحدهم أن يأتي لها بـ”الداتا”. على دفتر متوسط الحجم.

 فرزت الشاويشة سكان المخيم. عدد الأطفال، النساء، الرجال، ثم عدد أفراد كل عائلة، ثم الاحتياجات الملحّة لبعض الأفراد، مرضى، حديثي الولادة وغيرهم.

مريم تقول، «إن موظّفي “الأمم” يتعاملون مع قضايانا كوظيفة منتجة، مجردة من أي لفتة إنسانية. يأتون بسيارات آخر موديل، يركنونها بعيدا عن المخيم، كي لا تتلوث بالوحول أو تتغبر، ويترجلون منها عابسين، ضجرين، يتكلمون بلغة الأرقام والحسابات، ثم يرحلون. يأتون حاملين دفاتر وأقلاما يسألون عن احتياجاتنا دون أن يعاينوا الخيم. لا يتفقدون الخيم أبدا. أتعجب كيف يعملون مع اللاجئين ولا يتكلمون مع لاجئ؟ كيف يمكن أن ينمو بداخلهم حس إنساني أو تعاطف دون أن يروا ويسمعوا ويتأثروا؟ المساعدات ليست وظيفة، إنها رسالة. نحن لسنا مجرّد حصّة غذائية أو مساعدة عينيّة، نملك الكثير من مشاعر التودّد والتآلف والتشارك فلا تخمدوها فينا».

أخبرني خالد أن الطفل الذي وجدناه محروقا في المخيم، قد تعافى، لكن الحروق خلفت في وجهه ورأسه وذراعه تشوهات مخيفة. لا أدري إن كانت الأيام قادرة على محوها.

كانت إحدى صديقات نوال الكثيرات، قد حمّلتنا عددا لا بأس به من “الحرامات” الصوفية إلى المخيم. وصلنا باكرا لنعود باكرا إلى بيروت، خشية أن تحاصرنا الثلوج على ظهر البيدر. لكن حصل ما لم يكن في الحسبان.

ركض باتجاهنا أحد الفتية، يستنجد ويتراجانا أن نلقي نظرة على شقيقه الصغير، قبل عودتنا. مشى أمامنا حتى وصلنا إلى الخيمة. كان رأس الصغير ووجهه عبارة عن كتلة حمراء تنز قيحا ودما، وهو ممدد على الحصيرة وسط الخيمة، يئن بصوت خفيض، وأمه وأخوته يبكون حوله.

حملناه بسرعة إلى السيارة، وقطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى مستوصف غراس الخير في مجدل عنجر. الزحمة في المستوصف لا توصف، طبيبان في غرفتين صغيرتين يحاولان أن يداويا شعبا يقف منتظرا في الخارج. أفسح المجال للطفل المحروق دون أي اعتراض.

ظل الطبيب بمساعدة الممرضة، لأكثر من ساعة، يطهر جرح الطفل وينظفه ويقص اللحم المهترئ ويسلخ الجلد الذي تكوم فوق بعضه، والطفل لا يصدر أي صوت، لا صراخ ولا بكاء، كان يفلت بين الحين والآخر أنة خافتة ثم يعود إلى صمته. وقفنا أمامه مذهولين، نوال، خالد، سحر وأنا، أهو ينازع، أم أنه مات فعلا؟ نسأل الطبيب، فيجيب مذهولا بدوره بقدرته على البقاء على قيد الحياة! ربما حين يبلغ الوجع منتهاه، يتماهى مع العافية.

وقعت في كتب التراث على ما يشبه هذا الأمر، يقول ابن حزم الأندلسي: “والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطت في غايات تضادها ووقفت في انتهاء حدود اختلافها تشابهت، فهذا الثّلج إذا أُدمن حبسه في اليد فعل فعل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتد، أسال الدمع من العينين”، كذلك وجع هذا الطفل تحوّل عند انتهاء حدوده إلى حياة…

السابق
14 اذار: فليحاور حزب الله جعجع كما يطلب من «المستقبل» التحاور مع عون
التالي
3 شروط روسية للتخلي عن الأسد..