ما الذي تغير لدى تركيا تجاه داعش؟

لم تُخفِ تركيا يوماً موقفها تجاه تنظيم داعش، الذيوصفته دوماً بالإرهابي، وهي انضمت إلى التحالف الدولي ضده منذ إعلانه، قبل سنة تقريباً، ولكن في السياق اللوجستى فقط، ودون الانخراط الفعلي في الحرب، وأيضاً مع إيضاح كامل، ودون إخفاء لحقيقة أو جوهر الموقف التركي.
إذن، لم تُخفِ أنقرة عداءها للتنظيم الإرهابي، ولكنها لم تعتبره خطراً داهماً ومباشراً، وقدمت دائماً الخطر الكردي بشقيه؛ سواء أكان حزب العمال الكردستاني “PKK” وجناحه السوريحزب الاتحاد الديموقراطي “PYD”، واللذان تضعهما أنقرة أيضاً على لائحة الإرهاب، تماماً كما تنظيم داعش.
إضافة إلى ذلك، أعلنت الحكومة التركية مراراً استعدادها للانخراط العملياتي والميدانيفي الحرب الكونية ضد داعش، ولكن وفق أسس وقواعد صحيحة، وحتى واقعية ومثمرة، تلحظ مواجهة المرض وليس العَرَض فقط، بمعنى أن لا معنى أو جدوى من مواجهة داعش دون مواجهة وإسقاط نظام بشار الأسد؛ كونه أصل أو جذر الإرهاب وهو منتج البيئة الحاضنة التي أنتجت داعش وأخواتها في المنطقة.
وفي السياق نفسه، قالت تركيا دائماً أن أية حرب ضد داعش لن تنجح دون إقامة منطقة آمنة، شمال سورية، تتمتع بحماية جوية تسمح بإقامة مخيمات إيواء للاجئين، كما قواعد للمعارضة السورية المؤهلة، ليس فقط لقتال داعش، وإنما لقتال النظام أيضاً ومنعه من الاستفادة أو تحقيق المكاسب جراء التركيز أو الانشغال بقتال التنظيم المتطرف، الذي هو صنيعته في كل الأحوال، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
تعرضت أنقرة، نتيجة موقفها، لحملة ابتزاز وتشويه دولية غربية متعددة الأشكال والمستويات؛ من اتهامات بدعم داعش وتوجيهها،إلى دعم المعارضين في الداخل؛ لإسقاط حزب العدالة والتنمية وحكومته، بل وعهده بشكل عام، إلى اللعب بالورقة الكردية، سواء في تركيا أو في سورية، والإيحاء للسلطات التركية أن رفضها الانخراط الفعلي والمتقدم في الحرب ضد داعش سيتيح الفرصة للأكراد بالقيام بدور البطولة بكل ما يعنيه ذلك من تقديم ثمن أو أثمان سياسية لهم، ليس في العراق حيث يتصرف الأكراد عموماً بحكمة وعي ومسؤولية، وإنما في سورية وحتى في تركيا نفسها.
بدا التبدل النسبي، أو بالأحرى نوع من الحل الوسط التركي الأمريكي فيما يخص الحرب ضد داعش مع أحداث عين العرب كوباني – تشرين أول/أكتوبر الماضي – ومع إصرار واشنطن على تأجيل البحث في مصير النظام إلى أبعد مدى زمني، ضمن حوارها مع طهران حول ملفها النووي، وإصرار أنقرة على مواجهة أصل المرض، وليس العرض الداعشي، ومصلحتها في عدم ترك الساحة لخصومها، جرى التوافق على إدخال قوات البشمركة في المعركة ضد التنظيم وعبر الأراضي التركية بمشاركة، ولو رمزية، من الجيش السوري الحر، مع العلم أن تركيا استقبلت تقريباً كل أهالي المدينة، البالغ عددهم 200 ألفاً، ولم تبخل عليهم بالإيواء أو الغذاء والدواء.
تبدّل آخر حصل مع أحداث تل أبيض، حزيران/ يونيو الماضي، عندما نجحت قوات الحشد الشعبي الكردي في طرد تنظيم داعش بدعم جويأمريكي تحديداً واستغلت الأمر للقيام بتطهير عرقي في المدينة، كما في قرى وبلدات عربية وتركمانية محيطة بها، وبلغت الغطرسة حد الحديث عن إقامة كيان كردي في شمال سورية، يمتد من الحسكة شرقاً إلى ريف اللاذقية غرباً، بما يعنيه ذلك من تطهير عرقي كبير في سورية نفسها، يحرف بوصلة الثورة السورية، كما من إقامة حاجز كردي بين تركيا ومحيطها العربي والاتصال أو حتى التوحد مع الكيان الكردي في العراق، وإيجاد منفذ مباشر له إلى البحر المتوسط يحرم أنقرة مزايا اقتصادية، وحتى استراتيجية، والأخطر في القصة كلها أنه سيخلق سيرورة تدفع بأكراد تركيا للمطالبة بكيان مماثل، ولو تحت بند الحكم الذاتي.
هنا تخلَّتْ السلطات التركية عن صمتها وأعلنت صراحة أنها لن تسمح بكيان كردي شمال سوريا، أو أية عمليات تطهير عرقي في المنطقة المتاخمة،بما يعنيه من زيادة تدفق اللاجئين إلى أراضيها، وفهمت طبعاً أن لا إمكانية لمحاربة هذه الأفكار الانفصالية دون محاربة داعش، والعكس صحيح أيضاً.

داعش
اكتملت سيرورة التحول أو الاصطدام بين تركيا وداعش مع التفجير الذي نفذه التنظيم فى مدينة سروج الشهر الماضي، وأوقع عشرات الضحايا من النشطاء الأكراد المتجهين إلى عين العرب كوباني تحديداً، وسواء كانت الجريمة جزءً من الصدام الكردي الداعشي في سورية أو استسهال للهدف، فإن أنقرة فهمت الجريمة على أنها موجهة مباشرة ضدها وإعلان حرب من داعش عليها، ولم يكن بالإمكان السكوت أو التصرف كأن شيئاً لم يكن.
واشنطن، من جهتها، فهمت وتفهم أن لا فرصة للانتصار في الحرب ضد داعش دون مشاركة تركية جدية وكبيرة، وكان الحلال وسط المتمثل في محاربة كل التنظيمات الإرهابية – وفق أجندة أنقرة – وإقامة منطقة آمنة خالية من داعش تتمتع بحماية جوية تركية، وحتى تغطية من المدفعية التركية، مع فتح قاعدة إنجريلك أمام الطائرات الأمريكية، بما يوفر الكثير من الجهد والمسافات على طائرات التحالف.
المنطفة الخالية من داعش لن تسيطر عليها قوات الحشد الشعبي الكردية، التي ستتوقف عن كونها رأس الحربة أو قوات الطليعة البرية ضد داعش، بل ستدافع عن مناطقها كما ستواجه بقية السوريين من عرب وتركمان التنظيم، وستكون السيطرة والقيادة الفعلية للجيش الحر، الذي لن يسمح لأية أفكار انفصالية بالمرور، كما لن يسمح للنظام بالاستفادة أو تحقيق المكاسب السياسية من الحرب الدولية والإقليمية ضد داعش.
المنطقة الآمنة ستسمح كذلك بإقامة مخيمات لاستقبال اللاجئين، كما سيتم التفكير فيما بعد بنقل مخيمات اللاجئين المقامة حالياً في الأراضي التركية إليها.
التفاهم أو حل الوسط الأمريكي التركي لن يمنع أنقرة من مواصلة مساعيها الإقليمية مع الرياض والدوحة لإسقاط نظام بشار الأسد أو لإجباره على القبول بإعلان جنيف نصاً، حيث لا مكان له وعائلته ومساعديه المقربين في أية عملية سياسية، وستواصل دعمها لجيش الفتح في إدلب وحلب، بموازاة ما يحققه نفس الجيش أيضاً في الجنوب، أي درعا ومحيط الشام، في انتظار القرار السياسي الدولي بالتسوية أو خلق وقائع ميدانية تستعجلها وتفرضها كحقيقة واقعة على الأرض.
ربما تدفع تركيا ثمن، بل ربما أثمان الانخراط الجدي في الحرب ضد داعش، كما التنظيمات الإرهابية الأخرى، التي استغلت قتالها للتنظيم لشرعنة نفسها، فيما يتعلق بالاستقرار الداخلي والنمو الاقتصادي أو بعملية التسوية مع الأكراد التي قطعت شوطاً طويلاً قبل أن تتوقف، أو حتى تنهار، تحت وطأة الغطرسة الكردية والاتكاء على المتغيرات الإقليمية لتحقيق مكاسب سياسية محلية، غير أن السلطات التركية تفهم أن لا مجال لخسران الحرب، وأن تحجيم الأكراد وإجهاض نزعاتهم الانفصالية شمال سورية سيجبر أكراد تركيا على العودة إلى رشدهم، والفهم أن لا شريك جدي لهم سوى حزب العدالة والتنمية، وأن الوسائل السياسية السلمية والديموقراطية وحدها قادرة على تحقيق آمالهم وحقوقهم المشروعة في العدالة ، المساواة، والمواطنة الكاملة.

السابق
نظاريان «يحلم» بمليار دولار: هل آتي بالكهرباء من «بيت بيّي»؟
التالي
إلى 14 آذار: هل ننتظر زوال حزب الله كي نبدأ الإصلاح؟