علامات ظهور الربيع اللبناني

محمد علي مقلد

“علامات الظهور” الديني، شيعية تبشر بعودة المهدي المنتظر، أو مسيحية تبشر بقيامة المسيح، أو سواهما، هي علامات ممكنة لظهور مستحيل أو لأعجوبة أو معجزة لا يصنعها إلا الانبياء والقديسون. أما علامات الظهور السياسي وهي كلها علامات ممكنة الحدوث أيضاً ، فساد الحكام وشيوع الجريمة والاعتداء على القانون، أو مواجهة ذلك بالتمرد والثورة والانتفاضة، أو بوعزيزي أو وسائل التواصل. فهل تحسب المظاهر البادية على وجه المجتمع المدني اللبناني، كالاستكانة واليأس والاحباط والتكاسل والتواني والتجاهل، من علامات الظهور، أي كالهدوء ما قبل العاصفة؟

في لبنان عشرات الحالات التي تشبه حادثة بوعزيزي ودوافعه. وزعماء لبنان ليسوا أقل استبدادا من القذافي وعلي صالح وبشار الأسد وصدام حسين، على الأقل لأنهم يبتكرون صورة لنظام الوراثة قل نظيرها، استمروا فيه مع أحفادهم منذ نيف و سبعين عاما، واستأثروا بالسلطة ، وهذا أبشع أنواع الاستبداد. أما الذين حملتهم الثورة إلى قمة النظام أو إلى حضيض التمرد على القانون، إن صحت معاييرهم للثورة، فهم ليسوا أقل طغياناً من ضباط انقلابات عسكرية بدأت في جمهوريات الوراثة العربية عام 1949 في سوريا، ولم يكن آخرها انقلابات متتالية على الدستور اللبناني خلال العقد الأخير. كارثة تلو كارثة وفضيحة في إثر فضيحة، وأهل السلطة يتناقشون خارج الموضوع، أو كأنه لا يعنيهم، أو كأنهم في واد وهموم الناس في واد آخر، والمجتمع المدني يتسلى بتجمعات رمزية في ساحة رياض الصلح، أو بالدخول إلى نادي اللغات سخرية أو شتماً أو نميمة أو قال وقيل، في وسائل التواصل، ويتبارى “خبراء” التحليل الاستراتيجي على وسائل الاعلام…بينما يتنامى إلى الأسماع خبر عن شخص أو أكثر جرب أن يقوم بعملية فولكلورية للانتحار أو أن يحرق نفسه على أحد الجسور. لكنها تبقى حالات معزولة، لا يكترث لها المجتمع المدني ولا أهل السلطة السياسية، فتمر بلا ضجيج ولا صخب. البارحة جريمة قتل في وضح النهار واليوم فضيحة ديكة المزابل. كل واحدة منهما تكفي لإسقاط نظام، أو قل تكفي ليخجل حاكم من نفسه ويتوارى خلف مصالحه الضيقة ويصمت عن الكلام. أو هي تكفي ليهب المجتمع المدني في طول البلاد وعرضها ويصرخ بأعلى صوته في وجه سياسيين استباحوا الحرمات والقيم والقوانين وشرعنوا الفساد أوشرّعوا له .

 

لا هذا يحصل ولا ذاك، كأن تواطؤاً خبيثاً يقوم بين الفساد والاحتجاج عليه من علاماته تحول الجمهور الغاضب إلى مجموعات متفرقة محبطة يائسة مستكينة، يغني كل منها على ليلاه، فتنام النواطير وتشبع الثعالب من عناقيد الوطن. قد تكون نفايات العاصمة كارثة مؤقتة، وقد يتوقف عن النزف جرح الجريمة التي ذهب ضحيتها جورج الريف بعد مراسم الدفن، فيكون المؤقت فيهما تبريراً لصمت الجمهور ولإخماد سورة غضبه. غير أن اللبناني لا يحتاج إلى تبرير، فهو، وإن كان يتمتع بثقافة سياسية مرموقة وبحرية تفكير وتعبير قل نظيرها في عالمنا العربي، لكنه يختار أن يضع ثقافته وحريته على الرف في الأوقات الحرجة، أي وقت الحاجة الماسة إليهما، فتراه لا يتوقف عن إدانة السياسيين صباح مساء على مدار الأعوام، ثم لا يتردد في أن يجدد لهم الولاء في صناديق الاقترع تلبية لنداء التطرف الحزبي أو الشحن الديني والمذهبي، وتراه لا يدين الجريمة ولا الفساد ولا الاستبداد ولا انتهاك القانون إذا كان الجاني من أتباع زعيمه. فضيحة واحدة على الأقل كان ينبغي أن تتخطى كل تبرير، لأنها الدائمة والمتجددة، ومع ذلك تمكن سياسيو لبنان من تحويلها إلى ظاهرة مألوفة في قاموس الفساد.

 

إنها فضيحة الكهرباء التي يعرف اللبناني أنه يدفع باسمها مليارات الدولارات سنويا ويعرف أن الدين المتراكم بسببها يذهب إلى جيوب المتنفعين من أهل النظام، ويعرف أن سارقي أموال الكهرباء هم أهل السلطة المتهربون من تسديد الرسوم المتوجبة عليهم، ويعرف أن هذا الذي تكرر منذ أكثر من عقدين من الزمن قد يستمر لعقود أخرى في غياب المحاسبة السياسية والإدارية… مع ذلك، جرت العادة أن يلجأ اللبناني إلى حلول فردية، بالاشتراكات والمولدات الخاصة والتعليق على الأسلاك. وبديلا من محاسبة المسؤولين عن السرقة من أهل السلطة، يستسهل رشق الدولة ( وليس السلطة) بالشتيمة وإدانتها بالتقصير. حاكم مستبد ينتهك القانون سعيداً، وجمهور يصفق للمستبد ويتربى على انتهاك القانون. هل هي حفلة جنون أم تواطؤ على التدمير أم هي من علامات قيامة الوطن؟ الأمر متوقف على مؤسسات المجتمع المدني غير المحسوبة على أصحاب الرؤوس الحامية، الصامدة في وجه التطرف، التي من شأنها وحدها أن تقوم بثورة سلمية من أجل تطبيق القانون وحماية الدستور. لكن ذلك مستحيل، للأسف، في ظل تفرق هذه المؤسسات عن حقها وتبعثر جهودها. إذن لا بد من مبادرة توحد الجهود من أجل إعادة بناء الوطن والدولة.

(المدن)

السابق
حريق هائل في منطقة الريحان جزين
التالي
معين المرعبي: لا أسف اذا استقالت الحكومة ونسير باتجاه مؤتمر تأسيسي