شارل حلو.. والتوفيق المستحيل بين «منطق الدولة ومنطق الثورة»

اندلاع ن في نيسان 1975 لم يكن ممكناً لو أن حلّ الأزمة أو الأزمات التي نشأت سواء بين اللبنانيين أو بينهم وبين الفلسطينيين، تمّ بأسلوب ديموقراطي وعقلاني، من دون اللجوء للقوة. لذلك، يبقى السؤال مطروحاً حول كيفية تعامل الأطراف المعنية مع الأزمات التي شهدها لبنان وأدّت إلى انفجار الحرب. هل عملوا من أجل حلّها أم اكتفوا بإدارتها. بمعنى آخر، هل تمكّنوا من إقرار تدابير لمعالجتها، أم أحجموا عن إيجاد الحلول اللازمة؟ أو أن التسويات التي تمّ التوصل إليها كانت جزئية، تسمح فقط بتأجيل موعد انفجار الأزمات؟ هذه هي الإشكالية التي واجهها لبنان منذ بداية الاحتقان اللبناني ـ الفلسطيني، والتي تمت معالجتها في الحلقة الأولى من سلسلة مقالات «الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي والإنزلاق نحو الحرب الأهلية 1968 ـ 1975»، في عدد «السفير»، يوم السبت 11 نيسان 2015.
البحث عن تسوية وتفادي المواجهة العسكرية بين الجيش اللبناني والفلسطينيين شكّلا، في العام 1969، هدفاً أساسياً خلال إدارة أزمة النشاط الفلسطيني المسلح. بات لبنان على مفترق طرق بين السلم والحرب. الانقسام السياسي الداخلي اتّسم بطابع من الحدّة نتيجة أزمة حكومية دامت سبعة أشهر (نيسان ـ تشرين الثاني). سببها يعود، كما رأينا في الحلقة الأولى، إلى استقالة الرئيس رشيد كرامي ورفض القادة المسلمين المشاركة في حكومة لا تكفل حرية العمل الفدائي.
في ظل هذا الوضع المتأزّم، حاول الجيش اللبناني التوصل إلى اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، حول النشاط الفلسطيني في لبنان. لم تكن محاولاته سهلة، فقد بدأت لعبة شدّ الحبال من أجل الحصول على مكاسب وتنازلات. حلقة اليوم تسلط الضوء على كيفية ترقّب الديبلوماسية الفرنسية لمسار البحث الصعب، المليء بالأفخاخ والتوترات، عن تسوية مستحيلة بين السلطات اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
منطق التفاوض بين السلطة الشرعية والفلسطينيين يرتكز، طبعاً، على أن الدولة تتمتع بحق حصري في ممارسة سلطتها على كامل الأرض اللبنانية. لا يمكن بالتالي للسيادة أن تكون منتقصة. بناء على ذلك، حاولت قيادة الجيش إفهام رئيس حركة فتح، ياسر عرفات، بأن مصلحته تقتضي القبول بالتفاهم الذي «تسعى الدولة اللبنانية لإبرامه معه منذ أشهر عدة»، حسبما ورد في برقية فرنسية يعود تاريخها للأول من آذار 1969. لكن القائد الفلسطيني فضّل كسب الوقت أملاً في تحسين شروط التفاوض مع الدولة والجيش وسعياً لانتزاع المزيد من المكاسب.
كان مشروع الاتفاق ينصّ على أن تتعهّد حركة فتح بعدم التحرك على حدود جنوب لبنان، عدم امتلاك معسكرات تدريب وعدم تحرّك الناشطين الفلسطينيين بسلاحهم داخل الأرض اللبنانية. في المقابل، تتعهّد الحكومة اللبنانية بالسماح لحركة فتح «في جمع التبرعات واستخدام الصحافة اللبنانية في حملتها الدعائية».
ترسيخ وجود الفدائيين
المراقبة الديبلوماسية الفرنسية للوضع تشير إلى أن السلطات اللبنانية كانت تتطلّع إلى «اتفاق مبدئي حول الحدود التي يمكن التسامح بها مع نشاطات الفدائيين في لبنان». هذه المحاولة بشرت بحالة من الهدوء. لكن السفير برنار دوفورنييه رأى أن الوضع في الجنوب ظلّ مثيراً للقلق برغم الليونة التي أبداها الجيش. في هذا الإطار، ذكر السفير الفرنسي أن الجيش تجنّب القيام (في أواخر نيسان 1969) بأي عمل موجّه ضد الفدائيين الذين كانوا يتسللون إلى المناطق المتاخمة للحدود اللبنانية السورية جنوباً (منطقة العرقوب)، واكتفى بضبط طرق الوصول إلى الحدود مع إسرائيل، وذلك قدر المستطاع.
بيد أن حالة الهدوء اتسمت بطابع مؤقت. فالفلسطينيون استمروا في تعزيز إمكاناتهم القتالية في الجنوب إلى درجة أن السفير الفرنسي خرج بانطباع مفاده أن هؤلاء رسّخوا وجودهم في هذه المنطقة. كان السفير يدرك بأن إبرام تسوية تلو التسوية، من شأنه أن يتيح للفصائل الفلسطينية التمركز تدريجياً في لبنان. من جانب آخر، توقع أن يقوم الفلسطينيون بتقديم الدعم إلى الأحزاب القومية العربية والتقدمية اللبنانية التي لا تسعى، في نظر دوفورنييه، إلى نجاح القضية الفلسطينية بقدر ما تهدف إلى تحطيم النظام السياسي اللبناني.
لعبة التنازلات
برغم إحجام الجيش عن ضبط عمليات تسلل الفدائيين في منطقة العرقوب في الجنوب، ممن كانوا يتسللون عبر الحدود السورية، لم تيأس السلطات اللبنانية من إمكانية تسوية المسألة. في محاولة تهدف إلى إيجاد اتفاق يضع ضوابط للعمل الفلسطيني، أجرت السلطات اللبنانية مفاوضات جديدة مع ياسر عرفات تحت رعاية مصرية، أو بالأحرى بتشجيع مصري، في شهر أيار 1969.
كان عرفات قد تسلّم منصب رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية. التمركز في لبنان وتعزيز الكفاح المسلح عبر أرضه شكّل أحد أهدافه الاستراتيجية في ذلك العام خصوصاً بعد إدراكه مدى صعوبة المأزق الفلسطيني في الأردن. فضلاً عن ذلك، كان عرفات الذي يتزعم حركة فتح، يواجه تدخلات أكثر من دولة عربية (العراق، ليبيا وسوريا) ومنافسة قوية مع عدد من الفصائل الفلسطينية، أبرزها منظمة الصاعقة التي كانت ترعاها وتديرها سوريا.
قادت حسابات عرفات إلى تبني موقف فلسطيني متصلّب في لبنان عبر الإصرار على حرية العمل الفدائي. رفضت الدولة، تحديداً رئيس الجمهورية، شارل حلو، تقديم تنازلات من شأنها مراعاة وجود ونشاط تنظيمات عسكرية غير حكومية، كالميليشيات، على الأرض اللبنانية. هكذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مبكر، جديّ وحاسم بين منظمة التحرير والدولة اللبنانية.
عندها أدركت الديبلوماسية الفرنسية عمق المأزق الذي دخل فيه لبنان. ففي معرض تعليقه على نتائج المفاوضات اللبنانية ـ الفلسطينية في أيار، رأى دوفورنييه أن هذه المفاوضات، التي سمحت لعرفات بتأكيد دوره بوصفه الممثل الرئيس للمقاومة الفلسطينية، «فشلت بسبب استحالة التوفيق بين مطالب هذه المقاومة ومتطلّبات احترام السيادة اللبنانية».
تجدر الإشارة إلى أن «استحالة التوفيق» هذه ظلّت معطى ثابتاً في المعادلة اللبنانية حتى خروج منظمة التحرير من بيروت إثر الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982.
الدور السوري
فشلُ المفاوضات فتح الباب أمام مرحلة عاصفة بين القوى الأمنية اللبنانية والفصائل الفلسطينية. كلما اشتدّ التوتر بين الطرفين عجز رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المستقيل عن تسوية أزمة الحكم. بموازاة ذلك، كانت الحكومة السورية تستخدم نفوذها الإقليمي من أجل الضغط على السلطات اللبنانية في إطار سياسة خارجية جذرية حيال الصراع مع إسرائيل. استفاد الفلسطينيون وحلفاؤهم اللبنانيون من الدعم السوري الذي بلغ حد التدخل أو التلويح بالتدخل لمنع السلطات اللبنانية من إضعاف الفصائل الفلسطينية في لبنان.
بروز العنصر السوري في الأزمة اللبنانية لم يُرِح بال الديبلوماسية الفرنسية. في تلك الآونة، كانت فرنسا تنتهج سياسة عربية جديدة، وضع أسسها الجنرال شارل ديغول، وتهدف إلى طي صفحة الاستعمار وتعزيز علاقات الصداقة والتعاون السياسي والاقتصادي والثقافي بين فرنسا والعالم العربي.
في هذا السياق، كان مستوى الحوار بين دمشق وباريس جيداً، وكانت علاقاتهما الثنائية واعدة. برغم ذلك، لم تكن الديبلوماسية الفرنسية مستعدة للموافقة على أي تدخل عسكري سوري يهدف إلى دعم أطراف المقاومة الفلسطينية على حساب لبنان واستقراره وسيادته ووحدة أراضيه. لذلك جاء في أحد تقارير وزارة الخارجية الفرنسية أنه من المجدي أن يتم الإعلان (أي إبلاغ دمشق وغيرها من الدول العربية المعنية) بأن فرنسا لن تبقى غير مبالية في ما يتعلّق بمصير لبنان.
جنوح نحو التسليح
على أيّة حال، رأى السفير الفرنسي، دوفورنييه، أن الجيش اللبناني أخذ يراقب، عاجزاً، عملية التنامي السريع لقوة (فلسطينية) سرعان ما فقد السيطرة عليها. هذا العجز بدأ يزداد مع مرور الأيام. استمرّت عمليات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل. في المقابل، شنّت الأخيرة أكثر من عملية عسكرية ضد قرى لبنانية ومواقع للفلسطينيين بين شهري آب وأيلول. احتدم الوضع في لبنان أكثر فأكثر عندما دارت مواجهات دامية بين الجيش والفلسطينيين في عدد من المخيمات، أبرزها في شمال لبنان، في أواخر شهر آب 1969.
وقوع أحداث كهذه جعلت الديبلوماسية الفرنسية تتفرّج على انزلاق لبنان نحو حالة فوضوية خطيرة. أدركت الديبلوماسية الفرنسية أن «اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات باتوا مسيّسين ومسلّحين أكثر فأكثر»، الأمر الذي من شأنه أن يعني أنهم أصبحوا، في ظل الوضع السياسي اللبناني آنذاك، يشكلون «خطراً كامناً ودائماً». الخطر يعني خطراً على وجود لبنان، على تماسكه الداخلي. فقد بدأ السفير الفرنسي يُلاحظ أن الاضطرابات في المخيمات أثارت قلقاً كبيراً لدى الموارنة في لبنان. توقع أن تدفعهم مخاوفهم إلى التسلّح، لاسيما إلى طلب «دعم مادي» من جانب فرنسا.
هنا، يقول دوفورنييه: «بلا شك، في بلد حيث للجبليّ فيه ميل نحو (اقتناء) السلاح ونحو الدفاع الفردي عن مسكنه وجماعته، لا تجوز المبالغة في خطورة هذه المخاوف». لكن السفير أعرب عن صدمته تجاه «تقاعس الجيش والحكومة أمام وضع بات مضطرباً أكثر فأكثر».
نحو «دولة داخل الدولة»
تصاعُد التوتر في لبنان، اعتباراً من شهر أيلول 1969، جَعَلَ البعض يحذّر من خطر اندلاع حرب أهلية في لبنان. توقَّع السفير الفرنسي، بدوره، إمكان انتقال الوضع في لبنان إلى وضع جديد شبيه بالحالة الأردنية. هذا الأمر من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم العلاقات بين الدولة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. فبعدما كان الأمر يتعلّق في أيار 1969 «بفدائيين يتسللون عبر الحدود الجنوبية، بات الأمر يتعلق هذه المرة بمحاولة منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح بانتزاع اعتراف بسلطتهما السياسية الحصرية على مخيمات اللاجئين»، أي «بالسعي لإقامة دولة داخل الدولة».
خلال شهر تشرين الأول، دارت مواجهات مسلحة بين الفلسطينيين والجيش في كل أنحاء لبنان، دفعت أطراف السلطة اللبنانية إلى الموافقة، على مضض، على اتفاق يكفل حرية العمل الفدائي. يتعلق الأمر بـ «اتفاق القاهرة» الذي تمّ التوقيع عليه في العاصمة المصرية برعاية الرئيس جمال عبد الناصر. في الحلقة الثالثة ستتمّ معالجة موقف الديبلوماسية الفرنسية حيال هذا الاتفاق.
(السفير)

السابق
طهران لم تكذب
التالي
«داعش» ومخيم اليرموك: الهدف إشعال جنوب دمشق