المسيح مجّده على الشاشة المثليون وأنصار الالحاد

لثلاثية السينمائية الأكثر شهرةً عن المسيح (“يسوع الناصري” و”الانجيل بحسب متى” و”تجربة المسيح الأخيرة”)، التي تراوحت فيها المقاربة بين تبسيط المعّقد الى تعقيد البسيط، لم ينجزها قساوسة أو قديسون أو مخرجون يلتزمون تعاليم المسيحية وطقوسها. هذه الأفلام – وكلٌّ منها مختلف جداً عن الآخر – من توقيع مثليّ (فرانكو زيفيريللي)، ومثليّ ماركسيّ ملحد (بيار باولو بازوليني)، وكاثوليكي اجتاز مرحلة شكوك أفضت به الى اعتناق البوذية (مارتن سكورسيزي). حتى أن البعض من هؤلاء كانت له حياة جنس وصخب وفسق وتعاطي ممنوعات. نعلم على الأقل انهم لم يلتزموا الوصايا العشر بكامل بنودها. يا للمفارقة: اليوم، عندما نريد العودة الى تجسيد المسيح بالصورة والصوت، لا نجد سوى هؤلاء الذين تعتبر الكنيسة أفعالهم خطايا وزندقة.

المسيح
“الانجيل بحسب متى” لبيار باولو بازوليني (1964).

كلّ مشاريع الأفلام عن المسيح التي تولاّها أشخاص منضوون تحت جناج المؤسسة الدينية، كالفيلم القصير المعروض حالياً في بيروت الذي استنجد ببركة البابا فرنسيس، لم تُكتب لها القيامة بل أكلها النسيان. في حين صمدت أفلام “المختلفين” ومتذوقي الفنّ الرفيع أمام الزمن. حدّ أن “يسوع الناصري” لزيفيريللي الذي اتُهم بالتحرش ببطل فيلمه “روميو وجولييت”، صار قداساً تلفزيونياً على المحطات في عيد الفصح.

أراد بازوليني في “الإنجيل بحسب متى” مسيحاً غير كاريزماتي، في نصّ بصري هائل تحوّل بياناً تأسيسياً ليسنماه ذات الثقل الشاعري، وأهداه الى البابا يوحنا الثالث والعشرين. الكلّ أجمع على أهمية الفيلم، نقاداً ومشاهدين، مؤمنين وغير مؤمنين، وفاز بجائزة المركز الكاثوليكي للسينما. في خيار رمزي، أسند الشاعر الملعون دور العذراء مريم الى أمه. أما زيفيريللي فكان يرغب في بداية المشروع أن يجعل المسيح رجلاً بسيطاً منزوع الهالة الربانية، لولا اعتراض أميركي على هذا الخيار الذي اعتبره ازدراء للدين المسيحي. ويُروى حتى أن شركة “جنرال موتورز” انسحبت من المشروع لاستيعاب موجة الغضب التي أثارها قسّ إنجيلي. في النهاية، “بارك” هذا الفيلم الاستيتيكي، اليهود والمسيحيون، وكرّس صورة المسيح بعيني روبرت باول الزرقاوين وتقاسيم وجهه الناعمة. كاتب السيناريو، أنطوني برغس (ملحد هو الآخر)، ليس سوى مؤلف “البرتقالة الآلية”، الرواية التي اقتبسها كوبريك فيلماً ممعناً في العنف، منعت بريطانيا عرضه لسنوات. في البداية، طُلب من انغمار برغمان، المترجح الأبدي بين الايمان وعدمه، إخراج “يسوع الناصري”، لكن نصه (ذا التساؤلات على طريقة “الختم السابع”) لم ينل رضا الممولين.

عندما أنجز سكورسيزي “التجربة الأخيرة للمسيح” المقتبس من نيكوس كازانتيزاكيس، الذي أغضب “دواعش” المسيحيين فأحرقوا صالة سينما في باريس، كان في مرحلته البوذية، علماً أنه من أكثر المخرجين الأميركيين استخداماً للتيمات المسيحية في أفلامه (مراجعة “سائق التاكسي” و”ثور هائج” و”اخراج الموتى”…). الكالفيني بول شرايدر الذي شارك في نقل رواية كازانتيزاكيس الى الشاشة كان ممنوعاً عليه الذهاب الى السينما في طفولته التي أمضاها حصراً في الكنائس. وعندما كبر، بدأ يرتاد صالات سينما البورنو ويعشق المسدسات ويكتب سيناريوات قوامها التوبة.
اليوم، لم يعد من الممكن اخفاء حقيقة أن الملحدين واللادينيين والمشككين والمثليين – أيّ كلّ هؤلاء الذين تنبذهم المؤسسة الدينية – هم الذين مجّدوا المسيح (والمسيحية) وصنعوا أكثر صوره خلوداً على الشاشة.

استطراداً، فإن الكاثوليكي ريدلي سكوت، المعروف بعدائه لما يُعرف في الغرب بـ”الديانات المنظمة”، لم يكفّ عن العودة تكراراً الى نصوص دينية آخرها رؤيته العلمانية – الالحادية لـ”سفر الخروج”. رسم سكوت هنا صورة جديدة لموسى قد تعمر طويلاً في المخيلة السينيفيلية. سكوت أعلن قبل فترة اعتزامه انجاز فيلم عن العذراء مريم، قبل أن يشدد على أنه يعتبر الدين أكبر مصدر للشرّ في عالمنا المعاصر. في العام 2005، قدّم سكوت “ملكوت السماء”، حيث يستعيد الحروب الصليبية لينتصر من خلالها للسلم. ليس غريباً أن نسمع في الفيلم جملة كهذه: “رأيتُ الكثير من الدين في عيني الكثير من المجرمين”. حتى سيناريست الفيلم وليم موناهان لم يُخفِ أنه لاديني، واضح وصريح. على الرغم من هذا كله، قدّم سكوت صورة مجيدة تفخيمية عن الدين.

ويلَم دافو في "التجربة الأخيرة للمسيح" (1988).
ويلَم دافو في “التجربة الأخيرة للمسيح” (1988).

المخرج الفرنسي غير المؤمن كزافييه بوفوا حكى في “رجال وآلهة” (2010) قصة الرهبان الفرنسيين السبعة الذين قتلتهم الجماعة الاسلامية في الجزائر في العام 1996 (علماً أن بعض المصادر تقول إن الجيش الجزائري تورط في قتلهم). يصوّر بوفوا تجربة الرهبان وإيمانهم العميق بالرسالة (شيء نادر في أيامنا هذه عند رجال الدين) الانسانية التي جعلتهم يتركون بلدهم لمساعدة الجزائريين الذين يعانون أنواع العسف والظلم جراء التعاطي السيئ للجماعات المتطرفة معهم. لا أحد مثل بوفوا استطاع في السنوات الأخيرة ردّ الاعتبار الى الايمان المسيحي المتقشف الحميمي، كما فعل في هذا الفيلم الذي نال عنه جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كانّ. لم يكن شرطاً لبوفوا أن يتشارك عقيدة الرهبان كي يقول شجاعتهم بأكثر الطرق بهاءً. كذلك الأمر بالنسبة إلى الملحد رولان جوفيه الذي أنجز مع السيناريست روبرت بولت (الملحد) فيلمه الأشهر “المهمة” (“سعفة ذهب” في كانّ 1986) بطولة روبرت دو نيرو. في بداية القرن الثامن عشر، قاد راهب يسوعي حملة تبشيرية الى أميركا الجنوبية (باراغواي)، أرض الهنود الغارانيين، قبل أن يوحّد جهوده مع مقاتل اسمه مندوزا لمواجهة الهيمنة الاسبانية- البرتغالية.

حالة المخرج الملحد روبرتو روسيلليني فريدة أيضاً وإن لم تكن استثنائية. فهو صوّر حكاية فرنسيس الأسيزي كما لم يصوّره أحد من قبله أو بعده. في العام 1950، أخرج رائد الواقعية الايطالية الجديدة تحفته، “حكايات فرنسيس الأسيزي الإحدى عشر”، المملوءة نعمةً وايماناً وإخاء، في مشهدية تذكّر بالأيقونات المسيحية. يُعتبر الفيلم اليوم مرجعاً ونموذجاً، ولا سيما أن روسيلليني أراد أن يعبر بشخصية القديس من الايمان الى الروحانية.

"حكايات فرنسيس الأسيزي الإحدى عشر" (1950).
“حكايات فرنسيس الأسيزي الإحدى عشر” (1950).

(النها)

 

السابق
الجهاديون وقد فاجأوا محيطهم بتطرفهم
التالي
بالفيديو: «افرحي يا بيت عنيا» جديد فيروز بعد غياب