لبنان اليوم هو سويسرا الحروب المحيطة  

أكثر من أي وقت مضى منذ اندلع الوضع الجديد في المنطقة مع إسقاط الجيش الأميركي للرئيس صدام حسين عام 2003 إلى نقطة التحوّل التاريخيّة المتمثلة قبل أقل من ثلاثة أيام في اليمن والتي تعني انخراط كل دول المنطقة في حروب مباشرة وغير مباشرة… أكثر من أي وقت مضى، هل يمكن أن يصبح لبنان في وضعيّة إقليميّة أشبه بوضعيّة سويسرا خلال الحرب العالميّة الثانية، حيث كلُّ شيءٍ محيطٍ به تتطاير منه قذائف الطيران والمدفعيّة ورصاص البنادق، بينما هو “مستقر” في فوهة البركان؟

في الحرب العالميّة الثانية توفّرت إرادة القوى المتصارعة، ألمانيا الهتلريّة وإيطاليا الموسولينيّة وبريطانيا التشرشليّة وفرنسا ولاحقا الولايات المتحدة باستمرار حياد سويسرا مما جعل تلك الدولة مساحة خدمات ( لجوء واقتصاد) يستفيد منها كل أطراف الصراع. ورغم متاعب الوضع الداخلي السويسري الناتجة عن وجود ميول مؤيدة للنازيين لدى ضباط وأحد الأحزاب فقد حافظت الدولة السويسرية على حيادها المدعوم بقوة عسكرية متينة قائمة على استراتيجيّة ردع هي جعل أي غزو مكلفاً جدا للجهة الخارجية التي قد تقرره. مع ذلك حفلت سنوات الحرب العالمية الثانية، مثل الحرب الأولى، بمتاعب عديدة لسويسرا مع جهتي الحرب ولكنها تمكّنت بالنتيجة من تجاوزها مع أنها بلغت أحيانا حد الصدام الجوي مع طائرات حربيّة عابرة من قوّتي الصراع ولاسيما في البداية مع النازيين الذين أصبحوا يسيطرون على جميع الحدود مع سويسرا بعد احتلالهم للنمسا ثم لفرنسا ولاحقا مع الأميركيين إلى حد احتجاز السلطات السويسرية لطيارين أميركيين حتى نهاية الحرب.
بعد انفجار الحرب السوريّة عام 2011 حصل اتفاق ما إقليمي دولي على منع انفجار الحرب في لبنان واستيعاب التوتّر ضمن مناطق طرَفيّة فيه أو إبقائِه محدوداً في بيروت إلى أن جاءت حكومة تمّام سلام لتعبِّر عن هذا التوافق السعودي الإيراني الأميركي وتنقله إلى مرحلة أكثر ثباتاً من حيث استمرار لبنان منطقة خدمات للقوى المتحاربة في سوريا أساساً وفي المنطقة تالياً.
هذا التوافق السعودي الإيراني الأميركي الإسرائيلي على تهدئة لبنان هل سيستمر أو ينفجر بعد انتقال التوتّر الإيراني السعودي في الأيام الأخيرة إلى مواجهة إقليميّة خطيرة ربما انخرطت فيها دول رئيسية كمصر؟ هذا هو السؤال الرئيسي الذي يتعلّق بلبنان، أو بمصير الاستقرار الخدماتي اللبناني لجميع قوى الصراع في سوريا تحديداً والمشرق العربي عموماً؟
جوابي كمراقب أنه لدى لبنان، لأسباب عديدة، فرصة كبيرة للحفاظ على دور الاستقرار الخدماتي.
إنه استقرار وليس حياداً. بل هو استقرار لحرية الانحياز الداخلي في الصراع ولطرَفَيْه الرئيسيّيْن المرتبطيْن مباشرةً بالصراع الإقليمي. إنه شكل خاص من “الحياد” الذي هو حصيلة انحيازَيْن. بالنتيجة “نأيٌ بالنفس” اضطراريٌّ على مستوى الدولة وليس على مستوى القوى السياسيّة والمجتمع.
لقد انفجر لبنان لمدّة 15 عاماً بين 1975 و 1990 عندما كانت المنطقة مستقرّة بمعزل عن نوعيّة استقرارها على يد أنظمة قوية ولا ديموقراطيّة. لكن منذ اتسعت انفجارات الدول المحيطة ولاسيما سوريا في السنوات الأخيرة وتحوُّلٍ هذه الانفجارات إلى ديناميّات دائمة بدا أن لبنان يمكن أن يكون مسرحا لقاعدة معكوسة. يستقر ( بل يزدهر) عندما يضطرب المحيط ويخرب عندما يزدهر!
هذه معادلة تراجيدية نتمنّى أن نخرج منها نحن والمحيط في جيل مقبل يصبح فيه الازدهار، ولاسيّما في سوريا والعراق وفلسطين وباقي العالم العربي، متوازيا ومتبادَلاً بين الجميع. لكنْ ماذا نفعل إذا كانت الحقيقة مختلفة!
طبعاً هذا صراعُ دولٍ لرسم صورة المنطقة للمرة الأولى منذ تأسيس إسرائيل من جهة ومنذ نهاية الحرب العالميّة الأولى من جهةٍ ثانية باعتبارهما الحدَثَيْن التأسيسيّيْن الرئيسيّيْن في “شخصيّة” الشرق الأوسط والعالم العربي في القرن العشرين. ولأنه صراع دولٍ لا مكان للنوايا “الخيريّة” فيه بل هو للمصالح الكبرى خصوصا حين يتعلّق الأمر بالمصائر.
لا شيء حتى اللحظة يؤكِّد بأن تفجير لبنان مفيدٌ لكل أطراف الصراع. بالعكس، غربيّا وإقليميّاً، هناك مصلحة “سويسريّة” لكل هذه الأطراف حيث التواصل ممكنٌ في مجالات عديدة وحيث لا اقتصاد لأي مشروع تفجيري في لبنان.
في تجربة جيلي تَرَكَ ازدهارُ ما قبل الحرب الأهليّة وعياً شقيّا ولاسيما في سنوات الازدهار التي سبقت انفجار هذه الحرب عام 1975. كان، كما لاحظنا لاحقا بعد فوات الأوان والدماء تملأ الشوارع، ازدهارا حقيقيّاً ومجنونا في آنٍ معاً لاسيّما في السنوات الست أو السبع الذي سبقت تلك الحرب الأهليّة. حقيقي طبعاً و”مجنون” من حيث كثافتُهُ الحداثيّة والغربيّة من جهة، وقوة ديناميّاته السياسيّة كملجأ فكري وسياسي للمنطقة.
وإذا كنا حاليا في لبنان نعيش رغم كل شيء، حالاً من الازدهار العقاري والمصرفي والثقافي والسياحي مدعوما حتى بإعادة إنعاش للطبقة الوسطى عبر رواتب القطاع العام ( ولو الدولة “مفلسة”)، فإن تجربة صدمة النصف الأول من السبعينات في القرن الماضي لا تُشجِّع على الثقة بديمومة هذا الازدهار بل بمتانته.
حتّى اليوم كلّما مرَرْتُ أمام مبنى فندق “الهوليداي إن” في منطقة ميناء الحصن في بيروت، الذي لا يزال برجه العالي محتَرقاً ولم يُرَمَّم سوى مبنى صغير ملحق بواجهته، تذكّرتُ بخوفٍ عبرةَ بل درْسَ السبعينات. أشهر قليلة قبل الحرب الأهلية كان مبنى “الهوليداي إن” حدثاً عمرانيا كبيرا في بيروت التي كانت تعتبر يومها ذروة الحداثة في الشرق الأوسط وكنا نهرع من كلية الحقوق القريبة للتفرّج عليه ودخول صالة السينما الفخمة فيه. خلال أشهر لن ينفع كل هذا الازدهار الذي كان عنوانه شبه الأسطوري شارع الحمرا وستتحوّل بيروت بدءاً من 13 نيسان 1975 إلى شظايا بشرية وباطونيّة وسيصبح برج “الهوليداي إن” ذاته مركزا لأعنف معارك ماسُمّي يومها “حرب الفنادق” ولن تتمكّن بورجوازيّته اللبنانيّة ومساهمة الرأسمال الكويتي فيه من إنقاذه خصوصا أن البورجوازية اللبنانية في جزء كبير منها انخرطت في الحرب كاسرةً النظرية الماركسية الكلاسيكية عن جبن رأس المال أو “عقلانيّته” ولاسيما البورجوازية المسيحية التي سيطرت عليها ضمن الجماعة المارونيّة المسيحيّة فكرةُ الخطر الوجودي على النفس وبما لم نقدِّر عمقه كفايةً آنذاك. بل حتى لم نفهمه كفايةً.
كلما شاهدتُ هذا” الهوليداي إن”، البرج المنتصب على تلة عملاقة تشرف على الشاطئ الشمالي لبيروت الذي لا يزال محترقا اليوم تصيبني كآبة ذكرى تلك المعادلة اللبنانية: الازدهار لا يمنع انفجار الحرب السريع بمن فيها الأهلية في أي وقت ولا ضمانة، من هذه الناحية، أي ضخامة المصالح العقارية والاقتصادية بذاتها، لحماية ديمومة الاستقرار.
هذا هو الدرس السابق. لكنْ من يعلم إذا كان لبنان الحالي لظروف دولية وإقليميّة عديدة سينتقم سِلْماً من هشاشته السابقة ويُثبِتْ هذه المرة أن المصالح الخارجية المتصارعة في المحيط يمكنها أن تدعم استقراره وتحميه… من نفسه أو أن تساهم في تغليب الناضج من نزعات اللبنانيين على التدميري في هذه النزعات.
الفرصة موجودة وربما قد تساهم في التوافق الخارجي، الذي يبقى هو الأساس، إذا تصرّف اللبنانيون كـ”لوبي” لصالح تعزيز استقرارهم الخدماتي للمحيط. أما التهديدات “التكفيريّة” فلا قيمة كبيرة لها… الأساس هو المثلّث السعودي الإيراني الأميركي وما يحصل فيه وبين أضلاعه.
دمّرَنا الصراعُ العربي الإسرائيلي. فهل “يحمينا” أو يوفِّرنا الصراعُ العربي الإيراني؟
لقد كان لبنان سويسرا الشرق الأوسط بين 1948 و 1975 أي بعد تأسيس إسرائيل ونشوء الصراع العربي الإسرائيلي حتى دمّره هذا الصراع. فهل يكون لبنان سويسرا الحروب المندلعة الداخلية في المنطقة والدول المنهارة فيها أو هي على مشارف الانهيار؟ وكيف سيكون السلوك الإسرائيلي إذا تم الاتفاق الأميركي الإيراني الذي يعني في أحدى نتائجه العميقة بدء الانسحاب الإيراني من الصراع مع إسرائيل؟
عاشت المركنتيليّة اللبنانية السلميّة.

(النهار)

السابق
ملك البحرين: نؤكد على أهمية اعتماد القمة المنعقدة تكوين قوة عربية مشتركة
التالي
«عاصفة الحزم» وربيع «داعش»