بعد سنوات عشر: هل لا زالت ١٤ آذار هي الحل التاريخي؟

“…صمدنا وحافظنا على تيار عابر للطوائف متنوع مدني حديث، ولقد انجزنا في مجالات وأخطأنا في غيرها، لكننا استمرينا على عزيمتنا وايماننا بلبنان الواحد وطنا للعيش المشترك وللحرية والعدالة …”

ورد ذلك في البيان الختامي لمؤتمر عقدته قوى الرابع عشر من آذار، في الذكرى العاشرة لانطلاق ما عرف وقتها بانتفاضة الاستقلال أو ثورة الأرز. ثورة أدت الى انسحاب الجيش السوري من الاراضي اللبنانية، وحققت العديد من عناوينها، لعل أبرزها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. لكنها أخفقت في عناوين أخرى، قد يكون أهمها “العبور الى الدولة”. وهو شعار رفعته هذه القوى وبقي حبرا على ورق.

يتغنى البيان اذا بكون تلك الحركة “تيارا مدنيا عابرا للطوائف”، وهي جملة تستحق التوقف عندها مليا. لقد توحد حوالي مليون لبناني فعلا في ساحة الشهداء قبل عشر سنوات، تحت راية العلم اللبناني وحده. وصدحت الحناجر ب”قسم جبران تويني” الشهير، وانصهرت الاختلافات والانتماءات المذهبية الضيقة، من أجل المطالبة بالحرية والعدالة والاستقلال. طموحات تلك الثورة الشعبية وشعاراتها الرنانة، كانت على ما يبدو أكبر من قادتها، أمراء الطوائف كما أسماهم المؤرخ كمال صليبي يوما، فأخذوا بافراغها من بعض مضامينها. وكانت “الخطيئة الأولى” تحالفا رباعيا في أول انتخابات تشريعية بعيد المسيرة المليونية، مد اليد الى “الخصم السياسي الشيعي”، والتف على “المكون الشيعي المستقل”. الامر الذي شكل ضربة لما يمكن تسميته بالاصوات الشيعية المعارضة، استتبعتها “ضربة أخرى” لهذا المكون بعد أحداث السابع من أيار عام ٢٠٠٨.

بعد ذلك كرّت “سبحة الخطايا” بحق المستقلين داخل صفوف تيار الرابع عشر من آذار. كان يتم تحفيزهم من وقت الى آخر بطرح شعارات تدغدغ حلمهم بالعبور الى دولة المواطنة والقانون، ليصطدموا بعدها بواقع استحواذ الاحزاب الطائفية على قرارات مصيرية، كانت تقدم مصالحها الضيقة على ما عداها. مصالح أعادت “رجال دولة” الى مربعات الزعامات المذهبية. الأمثلة هنا كثيرة، لسنا في وارد الخوض فيها. لكن مع كل خيبة أمل من هذا النوع، كانت صورة التيار العابر للطوائف تهتز، وتهتز معها ثقة شريحة من واسعة من جمهور الرابع عشر من آذار، في قدرة من سلموهم راية الثورة، على تحقيق أهدافها.

لا أحد يمكنه أن ينكر التحديات والصعوبات الهائلة والطريق الشائك الذي عبّدته تلك القوى بالدم. لكن، وكما اعترف البيان، ارتُكبت العديد من الاخطاء. عام بعد عام، وذكرى بعد ذكرى، ازداد الشرخ بين القادة والجمهور. ( عدا الجماهير الحزبية أو الطائفية وولاؤها كما يقول واقع الحال يبقى للزعيم مهما تبدلت مواقفه.) وتعزز ذلك بغياب مشروع وطني يلتفّ حوله الجميع، ويشكل خريطة طريق تتيح تطور مسار الثورة، وتنقلها من خانة رد الفعل على أحداث تُفرض عليها، الى فعل يؤسس لمستقبل وطن طال انتظاره. بعض من لديهم رؤية وفكر استراتيجي تنبهوا للأمر باكرا، ورفعوا الصوت منذ سنوات منادين بانشاء منبر أو “مجلس وطني” يجمع مختلف الأطياف، ويعمل على تحقيق الحلم، الا أنه حينها أرجع الصدى عبارة “لا حياة لمن تنادي”.

ما الذي تغير هذا العام ودفع بقوى الرابع عشر من آذار الى تبني فكرة المجلس الوطني على عجالة؟ البعض يُرجع ذلك الى التطورات الاقليمية المتلاحقة، والزخم الذي كسبته التيارات المتطرفة على الارض، في مقابل تراجع الفكر المعتدل. ما استدعى تحركا سريعا يُعيد “رقاص الساعة” الى المنتصف. فيما استغل البعض الآخر الفرصة لشن هجوم على تلك القوى، قائلا إن غياب الاحتفال الجماهيري بالذكرى، والعودة الشكلية الى القاعدة، تعكس افلاسا وترهلا. المنطق يدفعنا الى الى الالتقاء مع النظرية الأولى، وانتظار مهلة شهرين للتحقق من صحة الثانية أو عدم صحتها.

لماذا نقول شهرين؟ لأنها المهلة التي تم تحديدها للجنة التحضيرية المنبثقة عن المؤتمر، من أجل الانتهاء من وضع “اقتراح” برنامج عمل للمرحلة المقبلة وصياغة النظام الداخلي. مهمة دقيقة يرى سباقون في اقتراحها قبل سنوات، أنها أتت متأخرة جدا، وقد يكون الزمن قد عفا عنها. فهل فات قطار الاصلاح؟ وهل أكلت الثورة ابناءها؟ أم أن هناك بقية أمل وضعت في أيدي أعضاء تلك اللجنة، وبينهم شخصيات تتمتع بثقة مستقلين، دون أن يعني ذلك الحصانة من مراقبتهم ومحاسبتهم.

تقول مصادر حضرت مؤتمر البيال، إن القيادات استمعت الى كثير من الانتقادات والاعتراضات (وهذا يُحسب لها) الى درجة اشتكى معها بعض أركانها من “النق”. وبدا في ردود أفعالهم خوف على تصدع جسم الرابع عشر من آذار، اذا تم رفع سقف الطموحات بم لا يخدم مصالح القوى الفاعلة داخلها. وقد تم تأجيل اتخاذ موقف من بعض النقاط التي طُرحت، وأتى البيان سياسيا ممجوجا، كان يمكن أن يصدر عن اجتماع أي كتلة نيابية، أو في أي مؤتمر صحافي أو بيان لامانة عامة. ومن هنا يمكن أن نفهم وصف رئيس حركة الاستقلال “ميشال معوض”، إقرار المجلس الوطني بالخطوة المهمة، شرط ربطها بمشروع متكامل عابر للطوائف والمصالح.

الملفت أيضا، أن البيان الصادر عن رئيس الحكومة السابق “سعد الحريري” قبيل المناسبة، كان سقفه أعلى من سقف بيان مؤتمر البيال حينما قال: “إن حركة الرابع عشر من آذار أكبر من أي حزب أو تنظيم سياسي، وإن روحها وقيمها تعلو فوق السياسات والمحاصصات الصغيرة.” محملا “النخبة” مسؤولية تفعيل العمل المشترك، والحفاظ على ما أسماها بمسيرة العبور الى الدولة. فهل يطغى في النهاية “الخوف على البلد-الحلم” على الخوف من تصدع الحركة؟

علمنا التاريخ القديم والحديث أن المحطات التاريخية المهمة لم تكن غاية بحد ذاتها، بقدر أهمية ما نتج عنها من تمخضات وتطور وتقدم. فقرنة شهوان ولقاء البريستول مثلا، شكلا محطات فارقة في مسار، تكلل عام ألفين وخمسة بالمسيرة المليونية التي أشرنا اليها سابقا. الآن وبعد عشر سنوات، ألم يحن وقت الانتقال الى محطة جديدة يلتقي فيها، من أي جهة أتوا، الحريصون على لبنان وخلاصه؟

السابق
آخر صيحات العنصرية: قدّم لأمك عاملة «هدية» بعيد الأم
التالي
الاحدب: هل أصبحت إدارة اوباما ممانعة اليوم ومقاومة غدا؟