الحركات «الجهادية».. بين تحدّي البقاء والاستيلاد الجديد

لم يكن من قبيل الصدفة أن تحل الذكرى الرابعة للأزمة السورية متزامنةً مع حدث بالغ الدلالة: «جبهة النصرة» تقضي على «حركة حزم». فعلى أعتاب السنة الخامسة ها هو «الاعتدال» بنسخته الأميركية يوارى في الثرى، بينما البندقية المتطرفة تحتل صدارة المشهد، وفي مخزنها رصاص جاء غالبيته من مستودعات «الاعتدال».

يستحق العام 2014 بجدارة لقب «عام التطرف»، ليس سورياً وحسب، بل إقليمياً ودولياً، فلم يعد خطر التطرف مقتصراً على الساحة السورية وحسب، بل تحول إلى خطر عابر للحدود يتنقل بين الدول على رائحة الدم والنفط.
وشهد هذا العام من الأحداث ما يعزز استحقاقه اللقب السابق، أهمها على الإطلاق إعلان تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش» في 29 حزيران الماضي لما أسماه «دولة الخلافة»، وذلك في خطوة عكست حركة التاريخ وأعادته تسعين عاماً ونيفاً إلى الوراء.
عندما بدأت الأزمة السورية، في ربيع العام 2011 على وقع حراك انطلق، بحسب القائمين عليه، للمطالبة بالحرية والديموقراطية، كان ثمة شكوك عبر عنها العديد من المثقفين والمفكرين في حينه بأن هذا الحراك يستبطن بذرة التطرف ويهدد بنشر الفوضى والدمار، مستندين إلى غياب الفكر المؤسِّس والقيادة القادرة على ضبطه ومنعه من الانفلات. لكن لم يخطر في بال أحد أن تصل الأمور إلى درجة إعلان «الخلافة»، ومحاولة استلاب التاريخ وتدمير التراث وتشويه الإسلام بهذا الشكل غير المسبوق.
أول من حمل السلاح في سوريا هما «جيش الإسلام» و «أحرار الشام»، ومنذ تلك البدايات لم يمانع كلا الفصيلين أن تنسب عملياتهما إعلامياً إلى «الجيش الحر»، الذي أريد له من قبل الدول الداعمة والممولة أن يكون الواجهة التي تمثل قيم الاعتدال والديموقراطية، بينما كانت قيادة الفصيلين تعتبره مطية صالحة للاستخدام، ريثما يتحقق الهدف الأساسي المتمثل بإسقاط النظام السوري، وبعد ذلك لكل حادث حديث.
وبالرغم من أن كلا الفصيلين كان ذا طابع إسلامي غير متجانس، إلا أنه كانت بينهما فروق، أهمها أن «جيش الإسلام» الذي يحوي بذور «السلفية الجهادية» حصر نفسه في الداخل السوري، أما «أحرار الشام» التي كانت طبيعتها السلفية أكثر ظهوراً، فقد كانت تستبطن أهدافاً أبعد من سوريا، وتشمل دول بلاد الشام كلها، وهذا ما عبّر عنه زعيمها السابق حسان عبود في لقاء مع «الجزيرة» عندما أبدى رغبته بإزالة الحدود بين هذه الدول.
ونظراً لطبيعتها «الجهادية» الواضحة، وربما كان هذا مقصوداً، فقد اجتذبت «أحرار الشام» إلى صفوفها أوائل «المقاتلين الأجانب». ولم يعد من قبيل التكهن القول إن غالبية قيادات «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية» قاتلت خلال العام الأول من الأزمة السورية تحت راية «أحرار الشام»، التي حصلت على تزكية مباشرة من زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري. وبات معروفاً أن الأخير كان قد عمّم قراراً بأن يبقى وجود «القاعدة» ورجالها في سوريا سرياً، لأنه لم يكن يريد أن يشكل اسم «القاعدة» عقبة في الطريق.
وإلى الآن لم يُعرَف لماذا انفصل رجال «القاعدة» عن «أحرار الشام»، واتجهوا إلى تشكيل كيان خاص بهم تحت مسمّى «جبهة النصرة»، وذلك في أواخر العام 2011 بالتزامن مع دخول أبي محمد الجولاني إلى سوريا منتدباً من قبل زعيم «دولة العراق الإسلامية» أبي بكر البغدادي لـ «نصرة أهل الشام». غير أن الحساسيات التي رافقت هذا الانفصال تشير إلى أنه كان انفصالاً غير مخطط له، ودفعت إليه خلافات بين الطرفين. أما ما هي هذه الخلافات، وما أسبابها، فقد بقيت طي الكتمان، ولكن كان لافتاً أنها كانت أول مناسبة يجري فيها تبادل اتهامات خجولة بتشكيل «الصحوات».
وكما كانت «أحرار الشام» بطبيعتها «الجهادية» ومشروعها العابر للحدود، تربة خصبة احتضنت بذرة «جبهة النصرة» كانت الأخيرة التربة الأصلح لنمو «الدولة الإسلامية» وخروجه إلى العلن للمرة الأولى في نيسان العام 2013. ولكن هذه المرة كان الانفصال مدوّياً وتسبّب بحدوث أكبر «فتنة جهادية» في تاريخ هذه الجماعات.
هذا التشظي «الجهادي» واستيلادُ كل جماعةٍ جماعةً أكثر تطرّفاً من سابقتها، كان أحد العوامل التي حرّضت على التنافس بين هذه الجماعات، ومحاولة كل منها الحصول على أكبر حصة من النفوذ والسيطرة على الأرض، بينما كانت قيادات هذه الجماعات تحاول تبرير الصراعات بينها على أنه «خلاف منهجي». وهكذا سيطر «الدولة الإسلامية» على عموم محافظة الرقة ومساحات واسعة من دير الزور، بالإضافة إلى الريف الشرقي لمحافظة حلب ومناطق متفرقة في كل من الحسكة وحماه وحمص، ليعلن عن «دولة خلافته»، التي شملت أيضاً المدن التي كان سيطر عليها في العراق وأهمها الموصل. أما «جبهة النصرة»، التي أصبحت أكثر تشدداً بعد هزيمتها في المنطقة الشرقية، فقد سعت إلى تأسيس «إمارة» خاصة بها في الشمال السوري، في الوقت الذي كان فيه «جيش الإسلام»، بقيادة زهران علوش، يفرض هيمنته على الغوطة الشرقية مع كسره حصرية العمل في الداخل السوري عبر القيام بعمليات ضد «الدولة الإسلامية» في عرسال اللبنانية.
ووسط هذا التنافس والصراع لم يعد المناخ ملائماً لبقاء ما سُمّي إعلامياً بـ «الجيش الحر» فكان لا بدّ من إنهائه. وقد بدأ المهمة «الدولة الإسلامية»، وذلك بمحاربته كلاً من «لواء الشمال» في إعزاز و «أحفاد الرسول» في الرقة. وفي نهاية العام 2013 وجهت إليه كل من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» ضربة قاضية في معبر باب الهوى، واستولت على مخازنه ومستودعات أسلحته التي جاءت كمساعدات عربية وغربية. وفي نهاية العام 2014 استكملت المهمة بالقضاء على أذرعه المتبقية في الشمال السوري، عبر قيام «جبهة النصرة» بإنهاء كل من «جبهة ثوار سوريا» و «حركة حزم» والاستيلاء على الأسلحة النوعية التي كانت تمدّهما بها واشنطن، وأهمها صواريخ «تاو» المضادة للدروع.
لكن هذا الصراع الذي امتد على مدى أكثر من عام ونصف العام، لم يكن ممكناً أن يستمر طوال هذه الفترة من دون أن يُدخل تغييرات جذرية على الفصائل التي شاركت فيه. فبالنسبة إلى «أحرار الشام» عمدت إلى إجراء مراجعات فكرية كادت تنتهي بالتوافق إلى التخلي عن «السلفية الجهادية»، لولا مقتل العشرات من قادتها في عملية لا يزال الغموض يخيّم على ملابساتها، فاضطرت إلى التعايش مع الانقسام إلى تيارين، أحدهما متمسك بالسلفية والآخر يريد «التوبة» عنها، كما عبر عن ذلك أحد قادتها الراحلين أبو يزن الشامي.
أما «جبهة النصرة» فإنها تعاني من اللامركزية في قيادتها، ويبدو كل فرع لها، خصوصاً في القلمون والجنوب والشمال كأنه منفصل عن الآخر، بالإضافة إلى الجدل المستمر الذي فرضته ضغوط داخلية وخارجية حول موضوع فك الارتباط مع تنظيم «القاعدة». أما «الدولة الإسلامية»، التي برز فيها تيار أكثر تشدداً بأفكاره وأحكامه من أفكار وأحكام القيادة الحالية، فإن انشغاله بالحرب ضده على الجبهات كافة، سواء في العراق أو سوريا وخسارته مناطق واسعة في كلا البلدين، لم يعطه المجال لإنضاج هذه التباينات داخله، وإن كانت تظهر أحياناً على صورة اعتقالات أو اغتيالات غامضة أو محاكمات سريعة لبعض قادته و «أمرائه» بتهم الفساد والغلو.
وتشير هذه الانقسامات داخل الجماعات «الجهادية» إلى مدى المأزق الذي تعيشه كل واحدة منها. وأهم معالم هذه الأزمة أن أي خيار يمكن أن تتخذه في ظروف معينة قد يؤدي إلى زعزعة كيانها وتعريضها لحركة انشقاق واسعة، وهو ما بدا جلياً لدى «جبهة النصرة» في موضوع فك الارتباط مع «القاعدة»، أو لدى «أحرار الشام» في موضوع التخلي عن «السلفية الجهادية».
وما يزيد من حدة المأزق هو حالة الصراع التي تعيشها هذه الجماعات بين بعضها البعض، والتي ألحقت بها خسائر بشرية ومادية تفوق الخسائر التي تعرّضت لها نتيجة حربها ضد بعض الجيوش، مثل الجيش السوري والجيش العراقي.
ومع تشكيل التحالف الدولي لمحاربة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها «جبهة النصرة» و «الدولة الإسلامية»، وصلت هذه الجماعات إلى حائط مسدود، وباتت مضطرة إلى التعايش مع مأزقها وسط عزلة إقليمية ودولية تضيق عليها شيئاً فشيئاً، وإن كانت بعض الدول لا تزال تمانع في فرض هذه العزلة لأسباب ومصالح مختلفة. وأصبحت مشاريع هذه الجماعات غير قابلة للحياة، وإن طال بقاؤها لبعض الوقت، وهو التحدّي الأخطر الذي بات يواجهها: كم يمكنها البقاء في ظل هذه الظروف المعقدة؟
لذلك وعلى ضوء هذه الوقائع والتطورات، وفي ظل الاحتمالات المفتوحة التي يذخر بها المشهد العام في المنطقة، بدءاً من سوريا ومروراً بليبيا واليمن ومصر وصولاً إلى نيجيريا، يكون السؤال الأهم الذي يمكن طرحه على أعتاب السنة الخامسة من الأزمة السورية هو: هل سيشهد العام المقبل تعميق مأزق هذه الجماعات على الصعد كافة، بما يؤدي إلى نهايتها الحتمية، أم على العكس سيحملها المأزق الوجودي الذي بات يتهددها إلى إجراء عملية استيلاد ثالثة لا يمكن التكهن بطبيعة الجينات الوراثية التي قد يحملها المولود منها؟

(السفير)

السابق
الدامرجي دعا المستأجرين للوقوف صفا واحدا لمواجهة حملة المالكين
التالي
الحكمة يثأر من الشانفيل