بوادر انفراج سعودي ـ إيراني: الترجمة في لبنان أولاً؟

لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثالث والتسعين بعد المئتين على التوالي.

لم يعد خافيًا على أحد، لا في الداخل ولا في الخارج، أن اللبنانيين تكيّفوا مع الفراغ ومع آلياته الدستورية، إلى حد أن العدّاد الزمني المفتوح صار يستفز كل المستفيدين من إيجابيات بلد بلا رئيس.. بلد برؤوس كثيرة.
أن يكون سيد القصر الجمهوري رئيسًا لهيئة ليس مقبولًا. أن يكون الرئيس يمثل بيئته صار عيبًا. أن يكون وسطيًّا يعني إعادة التذكير بعهد انتهى رئيسه عضوًا في أمانة سر معسكرات الانقسام السياسي. أن يكون وسطيًّا، يعني أن يعطي فرصًا مستحيلة للبعض من وزرائه ممن ما كانوا يحلمون بتحمل مسؤولية صغيرة، فكيف عندما صاروا وزراء برتبة رؤساء يقررون مصير جمهورية؟
ميشال عون هو المفتاح. هذا ما خلص إليه الموفد الفرنسي جان فرنسوا جيرو، بعد جولاته المكوكية، وأبلغه إلى الأميركيين الذين تنصلوا من أي تفويض له وإلى سائليه اللبنانيين الباحثين عن رئيس في كومة الحسابات الإقليمية والدولية المتشابكة.
والأوضح من الواضح، أن من بمقدورهم أن يقرروا، إما يملكون ترف الوقت والانتظار على طريقة «حزب الله» وحلفائه، وأولهم العماد عون، أو أنهم لا يملكون هذا الترف، على طريقة الرئيس سعد الحريري الذي صار القاصي والداني، يسجل له أنه اللبناني الأول المهتم بانتخاب رئيس جمهورية يعيد فلش السجادة الحمراء أمامه إلى السرايا الكبيرة.
«حزب الله» ليس مستعدًّا للتنازل، وهو يفيض ثقة بصوابية خياراته الإقليمية، وفي المقابل، فإن الحريري يتأمل ما يجري من تطورات، من على شرفة مملكة قررت قيادتها الجديدة، وفق ما يتبدى من خطابها وترجماته حتى الآن، انتهاج سياسة إقليمية جديدة، لا تقطع مع السياسات القديمة، لكنها تخفف من أثر «الشخصي» في صياغة العلاقات الإقليمية، ولذلك، ثمة همس غير مسبوق في الرياض بإجراء مراجعة شاملة لكل ملفات المنطقة.
هذا النهج السعودي لم يجد تفسيره في ما سُمِّيَ «حلف التوازن الإقليمي» غير القابل للقيامة حتى الآن، بل في القرار الذي اتخذه الملك سلمان بن عبد العزيز بإعادة التواصل مع القيادة الإيرانية، وهو لم يكتفِ في الآونة الأخيرة، بإرسال رسائل وحسب عبر «القنوات التقليدية»، بل جرت خطوات عملية بين البلدين، تحت عنوان «إجراء مراجعة شاملة للخلافات الرئيسية بين طهران والرياض»، وفي الأولوية منها ملف الأزمة السورية وملف الانتخابات الرئاسية في لبنان!
ولم يكن قرار توجيه الدعوة للحراك الحوثي للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني اليمني في السعودية إلا جزءا من هذا التوجه، ولو أن السعوديين سعوا لإلزام المشاركين بسقفٍ هو ترؤس المؤتمر من قبل «الرئيس الشرعي» عبد ربه منصور هادي، من دون إغفال أبعاد الرسالة الحوثية (المناورة العسكرية الحدودية الواسعة النطاق)، خصوصًا أنها كانت تحمل في طياتها تذكيرًا بتعهدات سعودية للحوثيين عندما انسحبوا قبل سنوات من الأراضي السعودية، بأن الرياض لن تتدخل عسكريًّا بأي شكل من الأشكال في مجريات الأزمة اليمنية.
وما يسري على اليمن، يسري على لبنان، وكان خير معبر عنه الانفتاح غير المسبوق لتيار «المستقبل» على «الثنائي الشيعي»، ليس فقط من خلال طاولة حوار عين التينة بجدول أعمالها المفتوح و «إنجازاتها» القياسية المتراكمة، بل من خلال إبداء الاستعداد لإبرام صفقة رئاسية متكاملة الأبعاد، تشمل القانون الانتخابي وإجراء انتخابات نيابية فور انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومن ثم تشكيل حكومة جديدة برئاسة من لا منافس له حتى الآن، وبضمانات تتجاوز «الثلث الضامن» إلى مجمل الإدارة السياسية، بما في ذلك المواقع الأمنية والإدارية الشاغرة، أو تلك التي ينبغي تغييرها أو تعديلها أو تمديدها.
حصل ذلك، بينما كان العماد عون ينتظر على أحر من الجمر ترجمة لـ «وعد إيجابي» تلقاه من المحتفلين بعيد ميلاده الثمانين، وذلك بإنجاز سلة تعيينات أمنية تضمن وصول العميد شامل روكز إلى منصب قيادة الجيش قبل موعد إحالته إلى التقاعد في مطلع الخريف المقبل، على أن يكون الثمن المقابل، ليس التمديد للواء ابراهيم بصبوص على رأس مؤسسة قوى الأمن الداخلي، بل تعيين العميد عماد عثمان في هذا المنصب، على أن تشمل الصفقة مناصب عسكرية وأمنية أخرى.
وبينما كان البعض في «8 آذار» يطالب قيادة «المستقبل» بـ «التحرر» من العماد عون بإبلاغه أنه فشل في امتحان «المرشح التوافقي» بسبب «خلل جيني»، وذلك قبل أن تطالب «الثنائي الشيعي» بأن يعلن تحرره من «الجنرال»، كان لافتًا للانتباه أن «المستقبل» تعمد المضي في توجيه رسائل إيجابية عن طريق الموفدين التقليديين العاملين على خط بيروت ـ الرابية، وفي الوقت نفسه، كانت تجري محاولة لإرساء صيغة تضمن التمديد للمواقع الأمنية كلها وعلى رأسها المدير العام لقوى الأمن الداخلي وقائد الجيش، خلافًا للوعد الذي أعطي للرابية.
وزاد الطين بلة، أن خطاب رئيس «القوات» سمير جعجع في أكثر من مناسبة، صار يقترب أكثر فأكثر من دائرة الجزم بأن المعادلة الرئاسية ستؤول لواحد من إثنين: إما هو أو العماد عون، بوصفهما ينتميان إلى نادي «الأقوياء» الرباعي!
وإذا صح ما يتم تداوله بأن هذا الخطاب إما سيكون أكثر وضوحًا في الأيام المقبلة، وبالتالي يبدأ العد العكسي للقاء الرابية، وإما سيصبح أكثر ضبابية وميلًا إلى السلبية، فيكون مشروع اللقاء بين عون وجعجع مجرد مزحة ثقيلة، لعبها الجانبان، بوصفهما يؤمنان بلغة الأرقام واستطلاعات الرأي، برغم كلفتها وأحيانا عدم دقتها!
عندها، لن يكون بمقدور «الجنرال» إلا أن يعود إلى المربع الأحب إلى قلبه دائمًا: «إما أن تضحوا بعنادكم فأكون رئيسًا لجمهوريتكم.. وإما أن تضحوا بنظام سياسي صار القاصي والداني يدرك أنه بات يفتقد للمواصفات وبلا صلاحية، لا بل إنه معطل.. وربما في حكم الميت».
هذه المعادلة باتت تجد صداها في دوائر خارجية كثيرة، خصوصًا في باريس وروما، ولذلك بدأ الكلام عن آليات دولية شبيهة بالقرار 1559، «ولتكن البداية من مناسبة مناقشة التقرير الدوري حول القرار 1701 في السابع عشر من آذار الحالي في مجلس الأمن الدولي، حيث ثمة مسودة لمشروع بيان يعده الفرنسيون ويحظى بدعم مجموعة العمل الدولية من أجل لبنان، يدعو إلى انتخاب رئيس للجمهورية وإلى اكتمال المؤسسات الدستورية في أسرع وقت ممكن».
في مجلس الأمن نفسه، كانت الأروقة بالأمس منشغلة بأمر محوري وحيوي للبنان والمنطقة والعالم. فقد بدأت التحضيرات هناك لمرحلة ما بعد الاتفاق النووي الإيراني الأميركي، وبدأ الأوروبيون والإيرانيون والأميركيون إعداد مسودة قرار محتمل يتناول رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على إيران، وفي الوقت نفسه، إصدار قرار جديد تحت الفصل السابع، يتعلق بقواعد مراقبة تنفيذ الاتفاق النووي في المرحلة المقبلة، بما في ذك الحق بالكشف على المنشآت النووية الإيرانية في حال الاشتباه بأي خرق للاتفاق المنوي توقيعه قبل 24 آذار.
هذا التداول المتزامن إن دل على شيء إنما على أن فرص الاتفاق صارت مرتفعة، ولو أن مناورات الطرفين تشي بحسابات أخرى. هل يملك أحد جوابًا على سؤال من نوع لماذا قرر الإيرانيون فجأة مغادرة تواضعهم وسياسة «لبس الكفوف» عبر النزول إلى «الساحات» كلها بالصوت والصورة والتصريحات غير المسبوقة؟

السابق
«كلور داعش» يؤخر تحرير تكريت
التالي
تكريم شوقي بزيع في المهرجان اللبناني للكتاب ومناقشة كتاب هاني فحص