الملف الكبير في مذكرات فاروق الشرع [2/2]

فاروق الشرع

من أكثر المقاطع التي تظهر سلاسة ودقة أسلوب كتابة فاروق الشرع هي المقاطع المتعلّقة بـ”مصرع باسل الأسد” وفيها عرضُ كيف حُلّت مشكلة من يُبلِغ الرئيس الأسد “الذي لا يقابل أحداً من القيادة إلا نادراً” بمقتل ابنه البكر باسل في حادث سير على طريق مطار دمشق في كانون الثاني 1994. ويتقرّر أن يذهب حكمت الشهابي ومصطفى طلاس وفاروق الشرع لإبلاغه في منزله صباحا. الملفت أن الشرع يقول أن الأسد “الشكّاك بطبيعته” اقتنع لاحقاً بعد تشكيله لجنة تحقيق أن موت باسل ليس مؤامرة بل هو قضاءٌ وقدر (ص302-303). في هذا الجزء من الكتاب يسجّل فاروق الشرع مع حافظ الأسد لحظة دراميّة تشبه لحظات الذروة في الروايات. فكأننا في رواية لغبريال غارسيا ماركيز أو ماريو فارغاس ليوزا.

سيكتب الشرع حرفيّاً:
“سألته في إحدى المرات السابقة إذا كان له أصدقاء شخصيّون أجاب بعد تردّدِ برهةٍ: أنتَ من بين أصدقائي”(ص302).
ينقل أيضا عن حافظ الأسد أنه بعد نجاحه في السيطرة على السلطة عام 1970 كان “الرئيس يعلّق عندما نتطرّق إلى هذا الموضوع الحسّاس (الفساد) أن القيادة السابقة (أي مجموعة صلاح جديد) على الرغم من حماقة بعض أعضائها ويساريّتِهم الطفوليّة أكثر نظافةً من القيادة التي جاءت بعد الحركة التصحيحيّة” (ص42)!! ولن ينسى فاروق الشرع أن يلاحظ أنه في المؤتمر القومي العاشر للحزب الذي سبق “الحركة التصحيحيّة” والذي شارك فيه الشرع بصفة مراقب “كان حافظ الأسد معزولا إلى حدٍّ كبيرٍ داخل المؤتمر لدرجةٍ أنّه كان يحضر ويغادر القاعة من دون أن يثير الكثير من اهتمام المؤتمرين”(ص40).

لنأتِ إلى بعض الملفات الكبيرة
في الفصول العديدة التي يتناول فيها الكاتب تطوّرَ وتعثّرَ المفاوضات السورية الإسرائيليّة بمشاركة مباشرة من الأميركيين منذ مؤتمر مدريد مرورا بولايتي الرئيس بيل كلينتون يتبيّن أن حصيلة التفاوض وصلت إلى المواقف التالية في أي ترتيب صلح سوري إسرائيلي. وأسمح لنفسي أن ألخِّص هنا حصيلة جهود فصول عدة في الكتاب هي بدورها حصيلة سنوات من الجهود المتواصلة للطاقم الديبلوماسي مع بعض الانقطاعات:
1 – حقيقة وجود “وديعة رابين” أي الصيغة الشفهية التي أبلغها رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين إلى الرئيس بيل كلينتون وهي استعداد إسرائيل للإنسحاب من الجولان إلى كامل حدود 1967 إذا قبلت سوريا بإجراءات أمنية وسياسية للسلام الكامل.
2 – موافقة سوريا على منطقة منزوعة السلاح أو محدودة السلاح على قاعدة 4-6 أي منطقة سورية منزوعة أو محدودة السلاح مقابل منطقة إسرائيلية منزوعة أو محدودة السلاح وتكون مساحة المنطقة الإسرائيلية ثلثي مساحة المنطقة السورية اعترافا من القيادة السوريّة بفارق المساحة الكبير بين البلدين. هذا يعني حسب فاروق الشرع من الجولان إلى صفد.
3 – لا محطة أرضية للإنذار المبكر داخل سوريا والقبول بمحطة أرضية على الحدود المثلّثة إسرائيل سوريا لبنان.
4 – تطبيع كامل وفتح سفارات ولكن تدريجي يترافق مع مراحل الانسحاب.
5 – ترتيبات موازية مع لبنان.
6 – طالبتْ إسرائيل بدعم أميركي في إحدى مراحل تعثّر المفاوضات (نجاح بنيامين نتنياهو الأول في الانتخابات) بطريق دائري إسرائيلي حول شاطئ بحيرة طبريا يُبعد السوريين عشرة أمتار عن الشاطئ الشمالي للبحيرة ورفض المفاوض السوري القاطع الاقتراح لأنه يخالف ولو بعرض عشرة أمتار حدود 67.

من المثير أن نعلم من فاروق الشرع أنه خلال إحدى مراحل تقدّم المفاوضات في عهد رابين طلب الإسرائيليّون نقل التفاوض الأمني على مستوى الضباط إلى عشرة ضباط من كل جانب. لنقرأْ كيف يقدِّم الشرع الأمر ذا المغزى الكبير بنظَرِهِ:
“قال لي دنيس روس: رابين يريد من هذا الاقتراح أن يتعرّف الضباط الإسرائيليّون على نظرائهم السوريّين!! رفضتُ الطلب بطبيعة الحال لأن الهدف من ورائه شديد الوضوح لدرجة أن الذين لا يؤمنون بنظريّة المؤامرة سوف يصبحون من المولَعين بها”(ص 333).
كلام ديبلوماسي ذكي للشرع يقول الكثير عن احتمالات مخاطر هذا التواصل على النظام السوري.

ربما مات مشروع الصلح السوري الإسرائيلي مع مقتل رابين. توصيف فاروق الشرع “العفوي” للاغتيال في لحظة تلقّيه النبأ لم تثبت صحته عندما وصف هذا الموت بأنه “ربّ ضارةٍ نافعة” لأن جهود سنوات لاحقة مع شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك لم تسفر في دمشق عن شيء حتى وفاة الرئيس الأسد الذي أخذ معه سرا كبيراً: هل كان ينوي فعلا مصالحة إسرائيل الكاملة لو تحقّقت شروطه التي وافق عليها رابين فعلاً على ما يظهر أم أنه كان لا يريد وربما لا يستطيع أن يفعل ذلك؟ وإذا أضفنا ما حصل منذ آذار 2011 فالسؤال بمفعول رجعي هو هل أخطأ الأسد بالرفض لأن الجولان كان سيعود إلى سوريا بينما كل هذا الاحتمال بعيدٌ جدا الآن؟
في تجربة “اتفاق أوسلو” نعرف من الشرع أن حافظ الأسد لم يكن في صورته مثل عديدين من الزعماء العرب الذين لم يخبرهم ياسر عرفات شيئاً مسبَقاً عنه وبينهم حتى الملك حسين حسب ما قال وزير خارجيّته المفاوض آنذاك عبد السلام المجالي في مقابلة أذيعت قبل أيام على قناة “الجزيرة” مع أن الأردن كان يرأس صيغة الوفد المشترَك الذي يضم منظّمة التحرير. ولم يقرأ الأسد صيغة الاتفاق إلا متأخّرا في جلسة مع عرفات وأطلق خلالها كلمته الشهيرة: ما هذا الاتفاق الذي يحتاج كل بند فيه إلى اتفاق؟

يتبنّى فاروق الشرع هذا الرأي الأسدي كليا رغم أنه يحرص على تذكيرنا بأنه عارض دائما قطع الصلة بياسر عرفات. طبعاً لستُ هنا في مجال بحث اتفاق أوسلو لكنْ رأيي أن هذا الغموض في بنوده لم يكن فقط جزءا من الخطة الإسرائيليّة للتلكؤ في تنفيذ الاتفاق وإنما، لكي نكون منصفين، كان أيضاً جزءا من “المدرسة” العرفاتيّة الفتحاوية التي كانت تراهن على الغموض والالتباس لتطوير وضعية الانتقال الفلسطيني للمرة الأولى منذ عام 1948 إلى داخل فلسطين أي إنهاء مرحلة الخروج من فلسطين إلى بدء مرحلة الدخول إليها. ولهذا ورغم هشاشة الاتفاق وتعثّره ربما لم يحن الوقت بعد لتقييمه النهائي كتجربة تاريخيّة لأن مخاض مشروع الدولة المستقلة لا زال في خضمّه، الدولي على الأقل.

المعلومات كثيرة:
منها كيف أخبر الأسد الشرعَ في بداية الحرب العراقية الإيرانية أنه عندما اتصل بالملك الأردني حسين ليدعوه إلى اجتماع مشترك يقوم به وزيرا الخارجيّة الأردني والسوري للبحث في احتواء الحرب، فوجِئ بالملك يقول له كنتُ أنتظر أن تبلغني بعدد الوحدات العسكريّة التي تنوي أن ترسلها لدعم العراق في الحرب(ص 66). أو كيف قارن الوفد السوري برئاسة الأسد بين أول لقاء مع الأمين العام الجديد يومها للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1985 ميخائيل غورباتشيوف وكيف كان غورباتشيوف حيويا وطموحاً وواثقا من نفسه وبين اللقاء الثاني معه عام 1990 حين كان مرتبكا وقلقا وقليل الثقة بالنفس طارحاً سؤاله المدهش لحافظ الأسد: كيف استطعتَ أن تحكم بلدك سوريا كل هذه المدة الطويلة!؟ إلى حد أن الشرع نفسه سجّل باستغراب كيف يسأل حاكم على دولة عظمى سؤالاً من هذا النوع لرئيس دولة صغيرة من العالم الثالث(ص150-151).

أبحث عن نقطة لأوقف عرض المعلومات عندها قبل أن أنتقل للتقييم الإجمالي للكتاب لأن مهمتي “قراءة” الكِتاب للقرّاء وليست مهمّتي قراءة الكتاب عن القرّاء فأنا لا أستسيغ القارئ الكسول مع أن دور الصحافي في الصحافة “المودرن” خدمة هذا الكسول. مع التذكير البديهي بأن أي مراجعة لأي كتاب لا يمكن تلافي انتقائيّتها.
لم أشعر في كتاب الأستاذ فاروق الشرع أنني أمام “رواية مفقودة” بالكامل. وهذا له حدّان سلبي وإيجابي من موقعي كمراقب سياسي لكل الحقبة التي يستذكرها.
السلبي كما أشرت في البداية، هو كشفه لنقص معرفتنا بالتكوين الداخلي للنظام السوري وتعقيداته التي لا يمكن اختصارها بتصنيفات وحيدة الجانب ووجود شخص مهمٍّ في النظام مثل فاروق الشرع وغيره عديدين هو من علامات هذا التعقيد. فمثلا بين رواية مصطفى طلاس لموضوع رفعت الأسد، الرواية الديماغوجية الألفاظ التي عليك أن تبحث عن الحقيقة داخلها مثلما تبحث داخل كيس رمل وبين رواية فاروق الشرع الهادئة الناقصة طبعا، دون ادعاء، ولكن المحيطة والدقيقة، فارق أساسي.
أما الإيجابي فهو أننا معشر المراقبين لم نكن خلال الكثير من أحداث الكتاب بعيدين آنذاك عن فهم المجاري الأساسية للصراع والاستهدافات حتى لو كان ينقصنا الكثير من المعلومات التي لا يستطيع أن يغطّي فراغها سوى قرار رجال دولة بعرضها في مذكّراتهم مثلما فعل فاروق الشرع. لم يكن المراقبون بالنتيجة بعيدين عن فهم الانحطاط الغورباتشوفي السوفياتي ولا عن مرامي حافظ الأسد في الاستحصال على شرعية مواربة للمقاومة في لبنان عام 1996 (قصف مدنيين مقابل قصف إسرائيل) وهو ما سيكون له أثر في إنجاز الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 من جنوب لبنان ولا عن فهم معنى ما تردّد عن تحفظ حافظ الأسد أو عدم ارتياحه لهذا الانسحاب مع أن الشرع سأل الأسد مباشرة بسبب استفسارات السياسيّين اللبنانيّين: هل أنتَ فعلاً غير راضٍ عن الانسحاب فأجابه: نعم إذا كان مشروطاً ولا بدون شروط. كذلك في ملف العلاقات اللبنانية وفي نمط تعامل المبعوثين الأميركيّين وإنْ كان الشرع يخبرنا بنوع الدور الرقيب المباشر الذي يقوم به دنيس روس على وزير خارجية من قامة جيمس بيكر الذي قال للشرع أنه يصطحب روس معه لكي يذكِّره دائما بالخطوط الحمر الإسرائيليّة (ص240). وهو ما يذكّر برواية حافظ الأسد لطلال سلمان عن نوع رقابة هنري كيسنجر على الرئيس ريتشارد نيكسون خلال تفاوض الأسد معه. والمقصود طبعا في الحالتين الخلفية المؤيّدة لإسرائيل لدى روس وكيسنجر كيهوديّيْن.
في كتابه المرجعي، نظريّاً ومعلوماتيّاً، عن سوريا، بل عن البيئات – الطوائف الفلّاحيّة في سوريا، يوغل حنا بطاطو في استكشاف الأصول أو الجذور الريفية السياسية والثقافية والدينيّة للحركات الاجتماعية والسياسية في سوريا المعاصرة ولا سيما بنية أحزاب رئيسية فيها ليصل إلى حزب البعث و”يستقر” في تشريح عهد الرئيس حافظ الأسد الذي يقدِّم عنه صورة تحليلية لمستويات قوته وتحديدا بنيته الأمنية ضباطاً ومواقع. هكذا مرة أخرى يتكامل السياسي مع الباحث في حقل مشترك حتى لو كانت طبيعة العَمَليْن مختلفة جدا.
يجب أن نضيف هنا كتاب باتريك سيل عن حافظ الأسد الذي كان أيضاً نوعاً من “مذكّرات” الأسد لأنه انبنى على تخصيص حافظ الأسد لباتريك سيل بسلسلة جلسات طويلة. ذكّرني ذلك بتكامل سابق في الحديث عن فترة مهمة من تاريخ سوريا هي فترة الخمسينات من القرن المنصرم بين مذكّرات محمود رياض سفير عبد الناصر في دمشق في فترة “طبخ” الوحدة مع مصر وبين كتاب باتريك سيل الشهير “الصراع على سوريا”.
هنا أيضا يتكامل الباحث والسياسي دون تنسيق سوى الجدّيّة والمعرفة. يقدّم الباحث جدّيّة البحث الذي يوصل إلى المعرفة ويقدِّم السياسي المعرفة الجادة التي توصل إلى تكريس “مرجعيّة” الكتاب. لسنا هنا في مجال استعادة كتابات مهمّة عن سوريا، وهي غزيرة بين أبحاث ومذكّرات ولكنّي أسمّي منها مذكرات خالد العظم وأكرم الحوراني وكتابي نيقولاس فان دام وستيفن هايدمان وغيرهم.
ننتظر الكثير من المذكرات والأبحاث عن سوريا من شخصيّات لعبت أدوارا. ومن سوء حظي انني لم أقرأ بعد مذكرات الدكتورة بثينة شعبان وسأفعل قريبا جدا. ونرجو أن يكون كتابا الشرع وشعبان وربما عبد الحليم خدام لاحقا وغيرهم فاتحةً للتنافس بين شخصيات ورموز النظام السوري على كتابة تجاربهم بأكبر قدر ممكن من الموضوعية او محاولة الموضوعية لأنه علينا أن لا نطلب المستحيل من هؤلاء الناس وإن كان يجب أن نكون صارمين في تقييم كتاباتهم.
المشهد النهائي في “رواية” فاروق الشرع التي صدرت عن دار نشر يديرها حاليا من قطر الدكتور عزمي بشارة… هو مشهد وجود قادة الدولة في صالون استقبال منزل الرئيس حافظ الأسد وجثمانه المهيب في الغرفة المجاورة “بينما كان بشار الأسد وماهر الأسد يذرعان المكان ويتنقّلان بين صالون الاستقبال وداخل البيت والقلق يعتريهما بوضوح، فهما لا يستقرّان في الجلوس بيننا حتى ينهضا من جديد” (ص465).
وبعد أن يكون الشرع قد دافع قبل أسطر عن اقتراح مصطفى طلاس اختيار بشار الأسد بديلا عن والده “رغم عدم إيماني بالتوريث”، سيصف حافظ الأسد في السطور الأخيرة “سواء أحبّه البعض أم ناصبوه العداء…” بأنه “كشجرة السنديانة تموت وتظل جذورها حيّةً في الأرض”. (ص457 – 458).
ثبت أن سوريا بعد حافظ الأسد لم يعد ممكنا أن تكون كما في أيامه مثلما أنهى هو عميقا ما قبله. والصراع الآن هو في قلب “حمّالة الأوجه”، حمّالة كل حيواتنا القلقة لا في سوريا فحسب بل في كل المنطقة وصار وضع فاروق الشرع أحد عناصرها السياسيّة الملتبسة حالياً. إنها “الرواية الغامضة” غير المكتوبة… غامضة ليس في ما حدث سابقا ولكن الأهم في ما سيحدث مستقبلاً.
(النهار)

السابق
دي ميستورا في باريس لدعم خطته وفرنسا تريد حلا شاملا أساسه بيان جنيف
التالي
قطر تضغط على «النصرة» لفك ارتباطها بـ«القاعدة»