رفيق علي أحمد يبلغ ذروة مشروعه «الحكواتي»

رفيق علي احمد

لا يهمّ أن يكون اسمه محمد أو جورج أو سمعان وعلي وعثمان و»أبو ميشال»… إنه أولاً وآخراً رفيق علي أحمد، الحكواتي العائد إلى مسرحه المونودرامي بعد انقطاع سبعة أعوام قدم خلالها أدواراً تلفزيونية فريدة أعاد فيها إلى التمثيل التلفزيوني أبعاده الفنية الراقية التي كاد يفقدها أخيراً. عاد رفيق إذاً إلى مسرحه الأثير، مسرح الممثل الواحد الذي كان بلغ فيه ذروته عبر أربعة عروض متوالية كان آخرها «جرصة» (2007)، وتمكن خلال هذه الأعوام أن يفرض صورة فريدة، مصقولة وحية، لشخص الحكواتي، متكئاً على تجربته المهمة في «مسرح الحكواتي» الذي أسسه «جماعياً» المخرج الطليعي روجيه عساف، وعلى خبرته كممثل ذي مراس ووعي في التقنيات المسرحية، عطفاً على موهبته الكبيرة.

في عرضه الجديد «وحشة» يواصل رفيق مشروعه الحكواتي، ممثلاً ومخرجاً وكاتباً، مستعيداً معالم هذا المشروع وساعياً إلى الخروج بخلاصة (أو «سينتيز») مشهدية ودرامية متطورة، استعادية ولكن غير «تكرارية»، موظفاً التقنيات والأدوات التي آلت إليها تجربته العميقة في هذا الحقل المسرحي. وكم بدا رفيق قديراً في استعادة نفسه من دون استهلاك، مجدداً مسرحه في ما يشبه التحدي ومتجاوزاً العقبات التي تهدد عادة مسرح الشخص الواحد. هو هنا رفيق علي أحمد ولكن في إطلالة جديدة تختلف عن الإطلالات السابقة وتتقاطع معها في آن واحد. وإن كان على هذه الإطلالة أن تذكّر بما سبقها فهي قادرة على تخطيها أولاً عبر أداء رفيق الباهر والمتين والمرهف والاحترافي تمام الاحتراف، ثم عبر الموضوع الرئيس أو «التيمة» الرئيسة التي نسج حولها العرض والشخصية والوقائع والمونولوغ الذي يمسي في أحيان ديالوغ مع شخصيات افتراضية ومع «الهر» الذي أنسنه جاعلاً منه صديقاً له.

كان لا بد إذاً أن يسترجع رفيق بعض العلامات والتقنيات من أعماله المونودرامية السابقة ومنها مثلاً الحداء ولقطة الأمومة التي يصبح معها الغطاء الصوفي طفلاً في المهد وأغنية «أربعة منازل عرب» وصندوق المهملات وسواه، عطفاً على اللهجة الجنوبية… بل لعل رفيق عمد قصداً إلى هذه الاستعادة وكأنه يوجه ما يشبه التحية الشخصية إلى مسرحه المونودرامي، فهو كان قادراً مثلاً على التخلص من الحداء واللهجة الجنوبية المعروفة لديه والاكتفاء بجو العرض الجديد وتيمته البارزة وهي «الخيانة» الزوجية التي نجح في تجسيدها بوجهيها الساخر والمأسوي. وبدت هذه «الخيانة» هاجس هذا الكلوشار أو المشرد الذي يجد نفسه ملقى في شارع بيروتي، وحيداً ومصاباً بالوحشة والحنين، بعدما هجره أبناؤه إلى كندا وهربت زوجته مع عشيقها وقد باعت البيت الذي كان كتبه باسمها.

قضية الخيانة الزوجية لا سيما بوجهها النسائي كانت إحدى «الثيمات» الرئيسة في أعمال فنية كثيرة منذ المسرح الإغريقي حتى السينما الحديثة. إنها إحدى مآسي الحياة البشرية ومهازلها العبثية. وأصاب رفيق كثيراً في التطرق إليها مسرحياً وفنياً لا سيما في «توأمتها» مع الخيانة الأخرى، خيانة المدينة لأبنائها وهي ليست سوى خيانة الوطن لأبنائه. و»أبو ميشال» (أو محمد وجورج…) الذي خانته زوجته خانته المدينة أيضاً ورمتاه كلتاهما في الشارع. المدينة في الليل البارد واجهة أبنية مغلقة وصادمة (جسدتها لوحة جدارية)، مدينة إعمار وإعمار لكنها بلا قلب، تلفظ فقراءها وتسحقهم. وفي هذا الليل يفتقد «أبو ميشال» الهر عنتر الذي أصبح صديقه في الشارع. وفي غمرة وحشته لا يتوانى «البطل» المهزوم عن هجاء المجتمع برموزه السياسية والاجتماعية وفضح عيوبه وأمراضه: الطائفية، الفساد، النواب الذين جددوا لأنفسهم، رجال الدين المزيفون، الزعامة المتوارثة أباً عن جد، المربعات الأمنية… ويبدو رفيق في مواقفه النقدية القاسية والساخرة كأنه يريد تصفية حساب ما مع الجماعات والأفراد، السلطة والأحزاب، الذين عاثوا خراباً في الوطن وصادروا المواطنة والإنسان. وبجرأة واضحة يسخر رفيق ويهزأ من دون أن يوفر أحداً ممن أساؤوا إلى الإنسان، فردا وجماعة، ناهيك عن نقده المظاهر الخادعة التي تعم المجتمع والأمراض ومنها على سبيل المثل ظاهرة «التفاصل الاجتماعي» وثقافة غوغل» السطحية وهيمنة التكنولوجيا التي دمرت الروح والعقل البشريين.

الخيانة الزوجية

غير أن نقطة الثقل في مضمون المسرحية تتمثل في قضية الخيانة الزوجية التي نجح رفيق في خوض مزالقها الخطرة، لا سيما أنه اختارها نسائية. وفي ما يشبه المعالجة الدرامية، الساخرة والمأسوية قدّم صيغة واقعية و»بارودية» للخيانة، هاتكاً بعدها الأخلاقي و»الوعظي»، بل هو يبلغ قمة السخرية عندما يعلو المنصة ليسخر من الوعّاظ الكذبة. وعلى رغم القسوة التي مارسها على المرأة بصفتها خائنة، مفضلاً عليها الغانية (تدعى هنا عفاف) لم يبد رفيق «ميزوجينياً» أو كارهاً للمرأة كرهاً مرضياً، بل على العكس، فالخيانة هي الخيانة، سواء مارسها الرجل أم المرأة. ووقوعه على المرأة هنا لا يعني أنه فصّل الخيانة على مقاسها النسائي. وهو بدا جريئاً جداً وهاتكاً في عودته إلى ما سماه «كتاب الحريم» مستعيداً بطريقة «بارودية» أيضاً وتحريفية قصصاً من التاريخ القديم، الكتبي والأسطوري. ومنها قصة زليخة والفرعون ويوسف، قصة يوحنا وسالومي وهيروديا، وقصة امراة لوط في سادوم… ويعرج على فيلم ريتشارد غير «أنفيثفول» الذي يدور في جو الخيانة الزوجية القاتلة.

وعلى رغم شدة المواقف والعبارات الساخرة والهازئة الطريفة جداً التي يبلغها رفيق بخاصة عندما يلعب على مقولة «القرون» المتعلقة بخيانة المرأة زوجها، وتعييره الرجل (الأبله) الذي يقع ضحية الخيانة، ينمّ «خطاب» (ديسكور) الحكواتي عن مقدار الألم الذي حل به وعمق الجرح الذي يعانيه. إنه الرجل المهزوم بصفته إنساناً لا رجلاً والهزيمة ليست ذكورية هنا بمقدار ما هي إنسانية أيضاً. لكنّ الخيانة الزوجية خيانة مدمرة وقاتلة من شدة ما هي حقيقية. وقد غدا «أبو ميشال» مشرداً ووحيداً من جرائها وجراء ما نشأ حولها من خيانات أخرى، لم يبق له بيت ولا زوجة ولا أبناء… ولعل المشهد الأخير هو من أبدع المشاهد في العرض على رغم دراميته: بين المقابر ينثر «أبو ميشال» الورد راثياً نفسه وصارخا في الختام: «بدي ارتاح». ثم في لقطة تصويرية نشاهده يطير في السماء ميتاً وكأنه شهيد رغماً عنه هو الذي طاولت سخريته حتى شهداء الأوطان. وهذه اللوحة تشتبك بخلفيتها الميتافيزيقية باللوحة التي يؤدي فيها الحكواتي ما يشبه رقصة الدراويش (المفاجئة) على وقع قصيدة المتصوفة رابعة العدوية: أحبك حبين…

رفيق علي أحمد في «وحشة» هو رفيق الممثل القدير والبارع والمالك سر التمثيل المونودرامي الذي وسمه بوصمته الخاصة وأضفى عليه مواصفات فريدة. هو الممثل الذي يجيد توظيف الجسد توظيفاً شاملاً مع الحفر في أعماق الشخصية التي يؤديها وإيجاد تعابيرها الملائمة، وهو أيضاً المخرج الذي يجيد مراقبة نفسه وتوجيهها ولكن بحرية وعفوية ودراية ووعي… وأخيراً هو الكاتب الذي شاء هنا أن يصرخ صرخته الطالعة من صميم معاناته التي هي معاناة شخص وجماعة في آن واحد.

تُرى هل يواصل رفيق علي أحمد مشروعه الحكواتي القائم على الممثل الواحد الذي بلغ في «وحشة» ذروته «الاستخلاصية» ليتوجه إلى مسرح جديد أم أنه سيواصل العمل في فضاء هذا المسرح بحثاً عن آفاق جديدة؟

(الحياة)

السابق
الرفاعي : الضاحية مفتوحة امام القوى الامنية
التالي
نتنياهو أمام الكونغرس: بطاقات الحفلة نفدت!