اغتيال الحريري: اللحظة التي ماتت بعد لحظة!

نزع اغتيال رفيق الحريري صمام أمان، فراح البلدُ يمخر عباب الأنواء دون صمام ودون أمان.

ليس مبالغة القولُ أن مظاهرتيّ “8 آذار” و”14 آذار” من عام 2005 في لبنان رسمتا في مشهديّهما استثناءً لا مثيل له في الشرق الأوسط. ولئن جاء الحدث في الثامن من ذلك الشهر بما يشبهُ تلك المسيرات الكبرى التي كانت تحرّكها الأنظمة التوتاليتارية بطبعتها النازية الهتلرية أو تلك التي تسوقها السوفياتية الستالينية، فإن الردَّ في الرابع عشر من نفسِ الشهر شكّل أكبر تجمع معارض متمرد في المنطقة سبق “الربيع العربي” بستة أعوام.

هل أوحى المشهد اللبناني بحراك الشارع منذ ذلك عام 2009 في طهران احتجاجاً على لبس شاب انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً، مروراً باللحظة البوعزيزية في تونس ومآلاتها المصرية واليمنية والليبية والسورية في عام 2011؟ قد يكون الجواب بالنفي هو الأسلم اتقاء لجهد البحث وإقامة الأدلة والتورط بعبث فلسفي عقيم. بيد أن أهلَ المنطقة الذين تابعوا الحدث اللبناني، تعاملوا معه بصفته حدثهم، انقسموا بشأنه، تمنوه لديهم أو مقتوا نذره عليهم. ثم أن المشهدَ المستحيل الغريب على يوميات المنطقة، أضحى محتملاً، لا محرماً يحول دونه، على ما ثبت بعد أعوام.

لكن ما كان فرادةً لبنانية يبني اللبنانيون عليها، بات في زمن البراكين العربية طقساً نوستالجياً لا يمتُّ إلى راهن المنطقة بـصِلٓة، كما لم يعد يشكّل إلا ذكرى، تتعمقُ هامشيتها في يوميات اللبنانيين، إلا من احتفاليات يخفتُ زخمها عاماً بعد آخر، حتى أنها قد تصبح من المنسيات التراثية.

مسيرة “14 آذار” التي انطلقت بعد شهر على اغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير من عام 2005 (ذكرى مرور عقد من الزمن بعد ايام)، فجّرت لحظةً لبنانية تاريخية استثنائية لم يشهدْ البلد مثيلاً لها، ولن يشهد. اكتشفَ اللبنانيون في تلك اللحظة فقط، المعنى الحقيقي الذي يريدونه لوطنهم، متحررين من أدبيات تراكمت لاهثة لتفسير أصل البلد ومعنى وجوده.

في تلك اللحظة انهارت كل الايديولوجيات والعقائد التي تنافست على “حب الوطن”. لم يعد لبنان فينيقياً بالمعنى الشوفيني أو عروبياً بالمعنى الكيّدي. توارت تبايناته الطائفية، بل بدت الطوائف ضرورةً تؤكدُ الاستثناء اللبناني. فيما لاحَ أن الشارع الضيّق، ضِيقَ الوطن، يلتهمُ بشهية هؤلاء الحجاج المقبلين طلباً لصفحٍ أو توسلاً لطهارة، وكأنهم خارجون من إثم.

لم يخرجْ اللبنانيون غضباً ضد مقتل الزعيم فقط. رفيق الحريري كان يمثلُ تياراً سياسيا وطائفيا قد لا يتوافق مع تيارات وطوائف كل الزاحفين في تلك اللحظة. لكن رفيق الحريري، ومن حيث لم يعلم هو، ولم يعلم اللبنانيون، أجاد سوّق الناس إلى الإيمان من جديد بنجاعة وجدوى بلدهم. عارضوه وناكفوه وشككوا به، وفي تلك التمارين استعاد اللبنانيون مهاراتٍ، خالوا أنهم فقدوها تحت الوصاية السورية. وحين أدركوا صاعقة الاغتيال، ساروا باللاوعي دفاعاً عن منجزٍ في وجدانهم. فكيف للبلد أن نعشقه وقد رحل من كان فيه محوراً، حوله تدور الخيبات وقصص الصفقات ومشاريع الاعمار وانتصار الوطن ومآلات الفخر والأمل. في تلك التعابير ما هو خيالي وما هو حقيقي، ما هو مفبرك وما هو عفوي، ما يدعونا الى الرجم، رجم اللهب أو رجم الورد.

حين قُتل الرجل ذُهل الجميع. وإذا ما كان ذهولُ المحبين منطقياً، فذهول الخصوم كان سوريالياً. كان ذهول بيولوجي عضوي صادق شفاف. دام أمر ذلك لحظة، قبل أن تنتشر كلمة سرّ خفيّة أزالت عن الخصوم ذهوله، بددته بسحر عجيب، وتركت للمحبين أن يتخبطوا وحدهم بمتعه الذهول.

اصطف الخصوم بانضباط مغناطيسي، وما زالوا منضبطين. فيما ردَ خصوم الخصوم بتحدٍ لا إرادي، وربما لا عقلاني، بالزحف من أصقاع البلد ونواحيه، من أحيائه ومدنه وقراه، تحرياً لنشوة كبرى مرتجاة، أو توسلاً لخصوبة بعد عقم طويل.

من خرج متمرداً في “14 آذار” كان يدافعُ عن وطنه الذي يريدُه ويرتئيه.

لم يكن وطن “14 آذار” يشبه أي وطن بشّرت به أحزاب اليمين أو أحزاب اليسار. لم يكن يشبه وطن فخر الدين ولا وطن الرحابنة الذي أنشدته فيروز. هم كتلةٌ من المؤمنين الذين كانوا عن صلاتهم ساهون. وربما لطوباوية تلك اللحظة ولا واقعيتها هناك من رآها كما هي، لحظة تموت بعد لحظة.

ماتت تلك اللحظة منذ أن صارَ الحدثُ سياسة. باتت قراءته تخضعُ لعلمِ الموازين والخرائط، وتنخرطُ في منطق المصالح والممكن واللاممكن. صادر الساسةُ فرادة الحدث، حولوه إلى تفصيلٍ في منطق الصفقات “من أجل مصلحة الوطن”. تآلف الخصوم في الانتخابات، تساكنوا في الخصومة، يتضاحكون يتناكفون، وفي ليل حالك، يتقاتلون، وفي ذلك كان قتيلٌ وقتلى وقَتَلة. في كل مرة كان واضحاً من يحزن وجلياً من يضحك.

نزع اغتيال رفيق الحريري صمام أمان، فراح البلدُ يمخر عباب الأنواء دون صمام ودون أمان. توارت اللحظة اللبنانية الخالصة. تم هزمُ تلك اللحظة كل يوم، تارة بالسيف والنار، وتارة بالارتباك وقلّة الخبرة والاستفراد. لم تعد تياراتُ وأحزابُ وقوى وشخصيات “14 آذار” تعبّر عن يوم الرابع عشر من مارس 2005. عادوا ساسةً يحسبون أمرَ الوطن وفق مصالح وحسابات وارتباطات، ووفق ذلك يتمُ الكر والفر، وأكثره فراً.

نعرفُ من غادر بعد سنين مواكب الثامن آذار دون أن يلتحقَ بمواكب الرابع عشر منه، لكن العكس لم يحصل. فالمؤمنون على تراكم خيباتهم ما زالوا يفضّلون أن يهيموا على وجوههم بعيداً عن ضجيج المبهورين بانتصارات لا تتوقف يبثها وحي الولي الفقيه في دنيا بعيدة.

غادروا المتن، لم يبتعدوا، ما زالوا ينتشرون على قارعة الشارع، ينتظرون لحظة أخرى، ربما تعيش أكثر من لحظة.

رابط المقال الأصلي: ميدل إيست أون لاين

السابق
بالفيديو: انهيار الطريق البحرية في ضبية نتيجة العاصفة «يوهان»
التالي
إلى صديقي زياد .. زياد ابن أبيه