حسن جوني في محترفه.. صارع فيلاسكيز ولمّا يزل

«هنا، في هذه الغرفة، أضع الأعمال التي لم يرها بعد أي أحد من الجمهور، لا بدّ أن تُعرض ذات يوم، في زمن سيأتي بالتأكيد، لكن لا أعرف متى بعد».. شعرت، للوهلة الأولى، وأنا أدخل مع حسن جوني إلى الغرفة الواقعة إلى يسار الصالة الرئيسية – والمقابلة للغرفة التي يرسم فيها ويقضي فيها معظم ساعات النهار وهو يحاكي ألوانه – برهبة ما، إذ اعتبرت، ما بيني وبيني، أن ثمة «معبداً» سيتكشف في تلك اللحظة، عابقا بكلّ الصلوات الممكنة. كما لم أستطع منع نفسي من أن أشعر بالفرح والغبطة، معتبرا أن ليس للجميع هذه الفرصة في أن يدخلوا إلى هذه الجنّة العابقة بكثافات الروح التي ينثرها جوني خلال أيامه الطويلة التي يقضيها هنا، وهو يفكر بالكتل اللونية، وبالخطوط، وبخلفية القماشة التي يعمل عليها.

لا بدّ وأنت داخل الغرفة، أن تتنقل بحذر وبهدوء، مخافة أن تصطدم بشيء. اللوحات والجداريات لا تترك مساحة سوى لتنفس الألوان. أول جدارية تطالعك يقول إن اسمها «وليمة الوحوش»، وخلفها العديد من اللوحات الأخرى. يقول لي «انظر»، أجبته «تخفيها جيدا كي لا يراها أحد»؟ فيرد: «سيأتي يوم وتُشاهد هذه الأعمال، لكن الآن، أنا وحدي جمهور هذا المعرض وربما أنت الثاني».

يطلب مني أن أغير وضعيتي كي أرى جيدا، وأن لا أهتم بمساعدته في إنزال اللوحات من مكانها، بل أن أنظر. وكأنه يقول «لا تُضيّع هذه الفرصة التي لا تسنح لغيرك كثيرا». هكذا أحببت تفسير طلبه، لأستمع إلى شرحه.

قوة التأليف

يبني حسن جوني لوحاته هذه انطلاقا من الواقع على عناصر تجريدية، «إذ يمكنك أن ترده إلى الأصل التجريدي، بحيث أنك لو عدت وجمعت التجريد في اللوحة لتَشكل الواقع من جديد». تمرّ أمامك مشاهد من حيوات يومية. رجل يحمل على كتفيه مدينة تغرق: سيزيف معاصر، وفي أعلى الصخرة، مدينة لا يمكنك إلا أن تستنج أنها بيروت. كتلها اللونية المقطعة تقودك إلى التفكير ببلد «مقطع الأوصال». لوحة أخرى، تمثل «المصلوب»، من ثلاث زوايا مختلفة. استعارة للحالة الراهنة بدون شك. لكنها أيضا «صورة» عن «الأقانيم الثلاثة» إذا جاز التعبير. بالأحرى، لا يمكن للناظر إليها أن يمنع نفسه من التفكير بذلك.

سيزيف آخر، بكل تعبه. وأعلى اللوحة ديك كأنه يصرخ بصوت القيامة. بنهاية الزمن المعروف. جدارية أخرى تمثل عائلة على «متن» دراجة نارية: أب يقودها وبيده سيجارة. أمّ تحمل طفلاً بيدها، وطفلة أخرى تجلس بينها وبين أبيها. خوف واضح المعالم ينبجس من عيونهم، وكأن الثلاثة في رحلة مع القدر في شوارع العاصمة. مشهد يتكرر في حياتنا كثيرا. قد لا ننتبه له أحيانا، وإذا انتبهنا، فعلى أقل تقدير لم يعد يعني لكثيرين منّا، لكثرة ما خبروه. يشدّد الفنان في كلامه على تلك الكتلة اللونية الموضوعة على يد سائق الدراجة، بحيث إنها هي التي تجمع تفاصيل اللوحة بأسرها. تفاصيل في كل زاوية. ومن هذه التفاصيل يبني حسن جوني فنّه الكبير والمدهش.

فنّ يأتي بالدرجة الأولى من قوة التأليف: تأليف اللوحة. منذ بداياته انتبه لهذا الأمر، وهو خريج المدرسة الإسبانية، التي خرّجت كبارا في عالم التشكيل. أمضى سنوات عديدة في مدريد، وهو «يتصارع مع فيلاسكيز» لو جاز القول. لا يزال يتذكر الجملة الأولى التي قالها له أستاذه: «إن لم ترسم مثل فيلاسكيز فعد إلى بلادك ولا تضيع وقتك».

يعود حسن جوني ليشدد على مفهوم التأليف، يقول إن تأليف اللوحة، «هو ما يميز أيّ عمل فني عن عمل آخر. وضع العناصر على أي مساحة أمر بالغ البساطة، لكن الأهم في ذلك كله أن تقوم أنت بجمع العناصر لتؤلف في ما بينها من نسب وتدرجات لونية ومن كتل وتقنيات وإضاءة وظلّ ونور وحبكة لغاية أن تكون كلّها في خدمة الموضوع الذي سيظهر، وإن ألغيت المضمون تبقى قائمة بذاتها كعمل فني»..

لم أقس الفترة التي مرّت بين هذه التأليفات اللونية التي تسرقك. طلب أن نرتاح قليلا، بعد هذه الجولة الأولى، لنشرب القهوة، التي كان أعدها فور وصولي، والتي كنّا نسيناها بين ظلال الكلام واللون. في اللحظة الأولى التي صعدت فيها إلى محترف حسن جوني، اكتشفت فيها مطبخه. بهدوء، أعدّ القهوة، تماما كما لو أنه يحمل ريشته ويقف أمام تساؤلات القماشة البيضاء، قبل أن يضع عليها اللون الأول، أو لنقل الخطّ الأول، الذي سيقود في ما بعد إلى هذا التأليف.

لم أشعر فعلا بالرغبة في هذه الراحة. كنت أميل أكثر لأن أرى بعد. لا أعرف لِمَ طرأ على بالي ذاك النص الشهير للفيلسوف الألماني هيدغر – (هل لأن محترف حسن جوني يقبع إلى جانب عمود «المنارة القديمة» خلف المعهد الألماني؟؟) ـــ الذي تحدث فيه عن «الإحاطة بعمق الطبيعة الشعرية». نص روى فيه الفيلسوف الألماني عن وقوفه متباطئا أمام لوحة لفان غوغ تمثل زوج أحذية فلاحية، مفكوكة الرباط، وحيث آثار الأرض الرطبة لا تزال عالقة به. فتساءل «ما هو الشيء؟ ما هو المُختَرَع؟ ما هو العمل الفني»؟ وبعد تأمل، يأخذنا فيه من خلال الأرض الشتائية البور، يقول هايدغر: «إن العمل الفني جعلنا نعرف ما هو عليه، في الحقيقة، زوج الاحذية». ويضيف «إن الجمال هو طريقة انغلاق الحقيقة».

المحترف

ثمة جمال، يبدأ من اللحظة الأولى وأنت تصعد درج محترف حسن جوني.. منزل قديم ينتمي إلى تلك المدرسة الهندسية اللبنانية القديمة، التي لم تعد تجدها بعدما اجتاح الباطون كلّ الشوارع. كأنه واحة تخرج من تاريخ بعيد. بالفعل ثمة تاريخ يحمله هذا المكان. بداية كان يسكنه رئيس شرطة بيروت صلاح اللبابيدي (وكان شاعرا أيضا)، ولا يزال البيت مُلكا لورثته الذين يعتبرون أن وجود محترف جوني فيه بمثابة تشريف للمكان. من ثم سكنته مصممة الأزياء الشهيرة روسي التي كانت تقيم في بيروت، ومن بعدها تحول إلى مدرسة جورجيت جبارة للرقص، قبل أن يأتيه جوني في نهاية السبعينيات تقريبا.

كلّ زوايا المكان تحمل أجزاء من قصص بيروت التي مرّت. هل لذلك رسم حسن جوني، في فترات كثيرة، أقاصيص هذه المدينة؟ ربما. لكن من بين هذه الأقاصيص، لا بدّ أن تنتبه لهذه الزاوية التي وضع فيها «حاملة» اللوحات (أو المسند). لو نظرت من النافذة، التي تقع إلى يمينه، لرأيت البحر ممتدّا إلى ما لا نهاية. ولو نظرت إلى يساره، لوجدت كلّ هذه الألوان التي تضفي مساحتها. يقول «أعتقد أني أحيا بين إلهين، البحر واللون».

ألوان تتجمع على طاولة بالقرب منه. صف طويل من «ريش» مختلفة الأحجام والأشكال، وكأنها «صفٌ» من تلامذة مدرسة، بانتظار صعودها إلى حصتها الدراسية بعدما دق الجرس الصباحي، معلنا بداية الدروس. لا أعرف لِمَ لَم يعارض حين سألته أن أرى كيف يرسم. إذ من المعروف أن كثيرين من الفنانين لا يحبون أن تراهم حين يختلون بأنفسهم أمام لوحاتهم. حين جلس، تكتشف بسرعة كيف يغرق باللون، وكأنه يعيد تساؤله حول كلّ الإمكانيات المتوفرة له.

حين وقف فجأة ليبعد بعض اللوحات «الخام»، البيضاء، المعدّة للرسم، والمستعدة لأن تتكلم لاحقا، انتبهت الى أنها كانت تخفي وراءها بابا يفضي إلى غرفة لم أكن لاحظتها خلال تجوالي في المحترف. «غرفة سرّية»، تحوي الكثير من الأعمال السابقة، والتي يعود بعضها حتى إلى تاريخ دراسته في اسبانيا. أزمنة كثيرة. تجارب عديدة تتنوع بين الزيت والفحم والغواش والمائيات و «السانغين». لم أخف مفاجأتي. كنت أظن أن حسن جوني لم يرسم إلا بالزيت فقط.

وبين ذلك كله، كان لا بدّ أن أبحث عن الشعر. في الصالة لوحة، قال إنها تمثل عصفور «جاك بريفير»: «أقرأ الكثير من الشعر». على حائط آخر، لوحة «تمثل قصيدة لأوكتافيو باث»، سحب كتابا للشاعر المكسيكي ليقرأ جملة بالعربية، طالبا أن أسمع «نبرتها» بالاسبانية، لتأخذه اللغة، إلى أكثر من حنين. حنين استمر خلال هذه الجلسة الصباحية التي امتدت لساعتين، كان فيهما الكثير من النقاشات، الكثير من الأسفار إلى أماكن لا يعرف كنهها، إلا حسن جوني.

(السفير)

السابق
ورقة مبادىء موسكو.. ورسالة العيطة إلى الجعفري
التالي
زوجة الناشط السعودي رائف بدوي تعلن أن صحته بخطر