ما آل اليه فكر الإصلاح العاملي اللبناني بعد قرن؟

ولما وصلني كتاب راغدة نحاس الزين عن سيرة جدها الشيخ أحمد عارف الزين، سررت لما فعلته فقد كان يعتريني بعض الحياء في الكتابة لكي لا يقال كما كان عمي الشيخ علي الزين يقول عن “عنعنات” آل الزين بخصوص بعض الوقائع ولا سيما بعد غزوة الجزار للجنوب وهروب الحاج علي الزين الى الهند حيث يقال انه تزوج اميرة هندية ثم عاد بعد هجمة الإنكليز على الهند دون ان نعرف تحديدا في أي إمارة هندية قد عاش.

وللمفارقة ايضا تذكرت السيد هاني فحص رحمه الله وكان يمازحني حين يراني مذكرا بسيرة عائلة الزين التي يتظافر فيها وراثة الاقطاع الديني والسياسي ولكنه كان في آن واحد محب لشخصيات هذه العائلة ولا سيما جدي الشيخ عبد الكريم فجدتي “تاجة” كانت من أل فحص وجبوب السياد الأكثر وقعا على عقل العامليين من أصحاب العمائم البيضاء او طرابيش الاعيان وان كانت العلاقة اعقد من ذلك في التاريخ العاملي وفقا لتغير الاحكام والازمان.

وكان سيدنا يحب الشعر حبا جما ويود قبل وفاته كتابة تعليق على القصائد التي صورتها له والتي ألقيت ما بين جبشيت والنبطية وكفرمان مدحا أو ذما في مناسبات حفظ منها جدي ثم والدي ما لم ينشر في العرفان لخصوصيتها في مناسبات الافراح والاحتفالات الشعبية. وهو بذلك كان يمون لأنه كان أشبه بأهل البيت بالمعنى المدني للكلمة ومضى قبل ان يتسنى له ذلك ولم أستطع حتى الكتابة عنه. كان موته بمثابة موت الجانب الخاص الذي يعقد لسان سامع خبره ويذكره بما مضى من العمر المهدور او التقلبات الكثيرة التي كتب الجميع عنها من الاصحاب او العارفين لما بذله في الحوار المسيحي الإسلامي او الحوار الشيعي الشيعي مستذكرا عرضا ما كان يقوله الشيخ عارف الزين والكواكبي عن ” طبائع الاستبداد” وهو يومها الاستبداد العثماني الحميدي (نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909)، ونائبه جمال باشا السفاح الذي كان من عناصر جمعية الاتحاد والترقي حينذاك التي ورث اقطابها تركيا فيما بعد وإن عادوا الى اسلام سني يتغطى اليوم بعلمانية عجيبة التوجه في ازمة جيرانها العرب المزمنة منذ ذلك الحين.

فحسنا فعلت راغدة نحاس الزين في كتابها. فقد مضى قرن بكامله وأكثر عن الفترة التأسيسة الأولى للعرفان مما يسمح للتساؤل عما آل ايه الفكر العربي الإصلاحي الذي حمله الشيخ عارف وعما آلت اليه ما سماه السيد هاني فحص بتحولات اعيان الدين والسياسية للعائلة الزينية والاسعدية والعسيرانية والخليلية بعد تناوب الأجيال في أحوالهم التي يقصر ابن خلدون قوتها الى أربعة أجيال ويعزوها الى إختلاف نحلها من المعاش والعمران.

كتاب راغدة لا يدخل عمدا في هذه الأمور السجالية ولكنه يوجز ويلخص منهجا لجد كانت الاخلاق السياسية العربية الإسلامية التي دافع عنها مدارها اصلاح “الامة” ومقاومتها للتتريك. شيخنا لا يحب الغيبة ولا الكذب ولا الوشاية ولا الاستبداد ولا التكبر وربما حملنا تراثه دون ان نجد له في هذه الأيام نماذج يحتذى بها في السياسة التي ارديت في بعض الأحيان الى اسفل درجات السفالة والتعصب الطائفي الذي لم يكن طابع الفترة الاستقلالية الأولى التي لم تكن تسال، كما اليوم، إذا ما كان الكواكبي او محمد عبده أو جمال الدين الافغاني أو الشيخ عارف سنيا أم شيعيا، باستثناء رشيد رضا وغلوه الوهابي الذي اضطر الشيخ عارف للرد عليه في صفحات العرفان نقدا للمنارعام 1908 قبل ازمة المحاكم العرفية التركية التي اقتيد اليها اعيان لبنان وسوريا من كل الطوائف الوافدة على ما سمي بفكر النهضة العربي.

ولكني لا أكتب ترحما على هذا الزمن الجميل لأن جماله كان أيضا مرتبطا بقبح ما كانت علية الأحوال وهذا ما لا تحاول راغدة ان تخفيه بل تذكيه بلطافة قلمها دون حمل السيف على خصوم جدها. راغدة من اهل الحداثة ودقيقة البحث وتسرد مصادرها الموثقة وتعيد العرفان مجلدا مجلدا في ذكر مراجعها. وما سأقوله تعليق صغير على ادانتها لقضية الوشاية بنشاط جدها وعلاقته الحميمة مع جمعية الثورة العربية، تلك الوشاية التي أدت الى اعدام عبد الكريم الخليل مؤسس هذه الجمعية واعتقال الشيخ عارف الزين وجدي الشيخ عبد الكريم الزين عام 1915 والافراج عنهما بعدما عجز عسكر جمال باشا السفاح عن العثور في بيت الشيخ عارف بصيدا على أي دليل يجيز اثبات عضويته في هذه الجمعية. تحيل راغدة القارئ الى مجلد العرفان رقم 29 عام 1939 والى كتاب عمي الشيخ علي الزين الذي يتعرض تفصيليا الى المحاكمات امام المجلس العرفي في عاليه.

حملتني هذه الاحداث الى كتاب عمي “أوراق تاريخية” والى مرحلة الاستقلال الأول وشهدائه والناجين منه ولا سيما الى ما كان والدي قد قص علي في حوادثه الشخصية، حيث كان له من العمر ستة عشرعاما. ولما وصل الخبر الى جبشيت باعتقال جدي وابن عمه يروي والدي انه أخذ جواده العربي من جبشيت وتزود لزيارة احبابه في عاليه ومر على كفرمان حيث كان بيت جدي الاخر الشيخ رضا الزين المجاور الى بيت يوسف بيك الزين. فلما سمع يوسف بيك بمشروع والدي بالذهاب الى عاليه قال له هذا امر خطير وهناك من يتحدث عن وشايات، فالامر في غاية الدقة وكل من يصل هناك سيستجوب على يد الاتراك في حين اتفق الجميع على القول بان الشيخ عارف كان مريضا وان الشيخ عبد الكريم كان يزوره ككل اعيان الجنوب وصيدا لأنسته. فبات والدي حينها في كفرمان وتابع الامر. الطريف فيالقصة هو ان كل الذين نجوا من الشنق كالشيخ عارف والشيخ احمد رضا وجدي شهدوا على نحو لا تتناقض فية اقوالهم. ومن بعض زملائهم من تظاهر بالمرض ايضا أو بالبله كما روي عن بعضهم. وما أنقذهم أيضا هو انه لم يكن اسم أي منهم في الملف الذي وقع بأيدي جمال باشا من القنصلية الفرنسية بعد وشاية احد موظفيها اللبنانيين لجمال باشا التي أدت الى هرب الكثير الى الخارج من بيروت.

التفصيل في كتاب عمي الشيخ علي أكثر تدقيقا في الروايات وهو يقول ان لا صحة لاتهام كامل الاسعد بأنه وراء الوشاية وإن كان يجامل جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تدافع عن السلطان عبد الحميد وإن كان يجاملها من غير ان ينتسب اليها. ألا انه يدين هذه الوشاية ويدقق في الخلافات التي كان قد وصفها قبله الشيخ احمد رضا الذي يذكر ان بعض العائلات المستجدة من الساحل كانت تصور الشهيد عبد الكريم الخليل بأنه سيصبح قائد حزب عرمرم لهدم سلطة “أبناء العشاير” ويوصل هذه المعلومات لبيك أل الصغير عبر محمد التامر.” رحتوا يا عشاير ما بقي لكم حدا”. فالشيخ علي أذا يتطرق الى ذلك بشأن النزاع العاملي ولا يعدوه الى مجرد نزاع اهلي معظم شهوده من الاهل ومنهم والده الشيخ عبد الكريم ولكنه يحاول ان يفهم ما استجد على تاريخ هذا الجبل في حقبة أزمة الخلافة السلطانية وتنظيماتها المستحدثة كادارة غير مركزية تتلاعب بالأعيان دون ان تسمح لهم بتجاوز حد السلطان. وسقط الشهيد عبد الكريم الخليل ثمنا لذلك.
مضى “الشهيد” وتابع الشيخ عارف رسالته وتفاصيلها الثقافية والسياسية كما عرضتها راغدة ومضى كل جيل الإصلاح الشيعي بعد ان عانى منها خلال الفترة التي وصفها شرارة في كتابه بمرحلة “الامة القلقة”. ولكن ما يبقى من كتابة راغدة عن جدها واسترجاعها لإدانة عمي الشيخ علي للوشاية يبقى درسا خلدونيا –نسبة الى ابن خلدون ومفهومه عن ثلاثية عمران السلطة: “العصبية والدعوة والملك” يتجاوزالادانة الأخلاقية ويدين ضمنا عجز الرئاسة العاملية عن القيام بأود التضامن بمنعاه الحديث مقابلة التتريك بعروبة منفتحة بدل الضياع في متاهة الخلافة الفيصلية. لقد نجحت عصبية آل الزين في انقاذ المشايخ الزينيين من الشنق على اختلاف أراءهم وتوصلت العائلات مثل أل عسيران والخليل الى احتلال مواقع في السياسة العاملية لم تكن موجودة بهذه الاستقلالية فيما قبل التنظيمات العثمانية وايام آل الصغير وتجرأ يوسف بيك الزين بعد خلافات وادي الحجير على التقرب من الفرنسيين وتحسين علاقاته مع المسيحين في قضاء جزين ودخل الشيعة الدولة الحديثة ولكن بقي الاجتماع رهينة عادات وتقاليد سرعان ما تمرد عليها أبناء العاملين أو هاجروا.

لكيلا يذهب جهد هؤلاء سدى مع جهد الكتبة الجدد عنهم لا بد من التأمل مليا في امر قبول تعددية الآراء الشيعية والتدقيق في معاني التنابذ والتنافر بين قيم الجماعة وعللها والتعمق في صوغ التحالفات التي من شأنها ان تحمي اندماج الجماعة في دولة وإلا بقيت الطائفة طائفة لا دعوة لها سوى وهمها الأيديولوجي بالانتماء الي امة أوسع في حين ان الظروف التي انتجت فعالية استقلال الأقليات لا تزال تتهاوى امام الجميع وتبشر بعودة الفواجع والوشايا

السابق
رفيق علي أحمد في «وحشة» بيروت وليلها على «مسرح مونو»
التالي
المرأة أمام المحاكم الدينية: تمييز وانتهاك حقوق