السخرية خلاصة الحريات والمجد لشهدائها

لودفيك جاهن، الطالب والمناضل في الشبيبة الشيوعية التشيكية، ألهمه خياله ذات يوم أن يرسل بطاقة معايدة لصديقته يقول لها فيها: «التفاؤل أفيون الجنس البشريّ! وروح القدس تنضدح منه السخافة! عاش تروتسكي!». ما أن تصل هذه البطاقة إلى أيادي المسؤولين في الحزب الشيوعي، قائد تنظيم الشبيبة، حتى يُفصل لودفيك جاهن من عضويته، فتبدأ جلجلته، بعد إقصائه من الحزب، بقيام أحد رفاقه برفع دعوى قضائية ضده، بتخلي بقية أصدقائه عنه، ومنهم صديقته التي تلقت البطاقة، وكشفت عنها للمسؤولين الحزبيين، عن نية حزبية حسنة؛ والأهم من كل ذلك، يُمنع لودفيك جاهن من مواصلة دراسته، ويُضم الى مجموعة تحت إشراف الحزب الشيوعي، يتلقى أفرادها المعادين للنظام العقوبة والتأديب، فيُرغمون على العمل في المناجم بالسخرة. هكذا بين ليلة وضحاها، وبسبب دعابة بريئة، تتحطم حياة لودفيك جاهن.

هذه القصة هي أولى روايات الأديب التشيكي الأصل، ميلان كونديرا، وعنوانها «المزحة» (1967). وهي، كما تبيّن وقائعها، تتكلم عن الموقف المتناهي القساوة الذي تقيمه الأنظمة الديكتاتورية ضد كل ما يمتّ الى الضحك بصلة. تدرك هذه الأنظمة جيداً بأن الضحك هو الخطر الذهني الأكبر على عقول من تحكمهم. تعلم ان الساخرين جنود غير مرئيين، غير مسلحين، غير منظّمين، يهددون لمملكة الصمت التي شيدتها. السخرية أخطر من التشاؤم، والغضب واليأس؛ أخطر من الترقّب والتفلسف والتأمل والحزن والحنين والأسى. وهي، أي الأنظمة التوتاليتارية، تضع السخرية في مرتبة الجريمة القومية، يستحق صاحبها جهنم هذه الأرض. وهي ليست وحدها التي تخاف السخرية: كل شبيهاتها من نازية وفاشية وقومية ودينية تنحو المنحى نفسه، ولا تمانع في قتل الساخرين، رمزياً أو جسدياً أو مهنياً.

لماذا يخاف المستبدون السخرية؟

لأن السخرية تفتح نافذة في العقول المغلقة. بوسعها أن تكشف عن الزيف أو الكذب أو الحيل أو الألاعيب؛ بوسعها أن تعطي اسما للبديهيات المحرومة من الكلمات، وبفرح مختلف، خطير. في السخرية لغة جديدة، صيغة جديدة، أو ملامح منهما. مثل طريق غير الطريق، يشقها الضاحك غير خائف من ظلمتها أو غيومها. كلما تقدم بها، انقشعت شمسها، فكان العالم المختبئ، خلف سياج من الخشب المرصوص. السخرية من عوالم الحرية الداخلية، من بنات المخيلة. وصدّ هذه الحرية يقتل هذه الحرية، أو يلويها، أو يفسدها، أو يرميها للذئاب الجائعة. بوسعك مثلا أن تُخرس الساخر برهة، أو طويلاً. وإذا لم تكسره ارادتك، بقي على تلك الجوهرة الداخلية. بقي على سخريته منك، ومن نفسه خصوصاً… واذا فُكت أغلاله، بوسعه أن يسخّفك بسخريته، أن يجعلك تبدو أبلهاً، جاهلاً، خسيساً، ضئيلاً، رديئاً. وحاجته للضحك مثل حاجته لنسمات الروح. يضحك، يسخر، يداعب… لأنه يريد ان يتحمل كل هذا الذي حوله من دون التفكير بالانتحار. يود أن يخلع عن حياته، ولو لبضع لحظات طابع التراجيديا الذي يلفها. يريد أن يتخفف من الضغوط الهائلة المصاحبة ليومياته، ان يستعيد بعض براءة طفولته، سذاجته المحببة. أن يحمي نفسه من جنون عجزه عن تغيير حياته أو حتى إبقاءها على ما هي، بكل علاتها. يريد ان يضخّ طاقة ايجابية، لا تشبه التفاؤل الا من حيث تلك الانتعاشة العالية للروح. يريد ان لا يغرق في ضجر ورتابة الاستبداد أو الوحشية أو الحروب أو الطقوس المصاحبة لتأكيد هيبة رجال الساعة. فالضحك عدو الضجر، والضجر من أسس الطاعة والخضوع.

في ديارنا، السخرية غائبة، والضحك المكرر، أي المزيف، أو الضحك الانتقائي، فائض عن الحاجة. الثورات العربية فكّت، في بداياتها، عقدة السياسة في الضحك. ولكن مرحلة الارتداد الانتقالي اسكتته، بعسكرييها، الرسميين وغير الرسميين. وأهم رموز هذه المرحلة القصيرة من الثورة كان باسم يوسف، صاحب البرنامج الصاخب الذي أرعب العسكر، فأوقفوه، ولفقوا ضده دعوى قضائية… فعدنا أدراجنا، نرزح تحت وطأة المحرمات الثلاث اياها، الدين والجنس والسياسة، كل حسب نوعية «القيادات» المتحكمة بمصيرنا، والمقرّرة موعد موتنا. ومع خروج «داعش» وملاحقه وتفرعاته «القاعدية» الأصلية، أُقفلت مزيد من الامكانيات والمجالات في الضحك. فوُجدنا امام معضلة حقيقية، قوامها انه بزيادة وتيرة الحروب، واشتداد احساسنا بأن قدرنا يفلت من بين ايدينا، وبزيادة الفراغ القاتل الذي يكتنف بدائل كل القوى المنخرطة فيها، وبالتالي شعورنا التام بالعجز عن فهم الآليات العميقة لهذه الحروب ومخارجها، فإننا لا نحتاج الى شيء قدر حاجتنا الى السخرية على أنفسنا، عل حالنا، على عجزنا… نأخذ بالبحث عن شيء من حولنا يؤازرنا على سخريتنا، فلا نجد في تراثنا القريب غير ما يحبط هذا البحث.

فهذا الارث يضجّ بالسخرية الفاشلة. لدينا ساخرون، ولكنهم إما مؤطرون، أو متراجعون، أو مثبّتون أو محدودو المجالات، خفيضو السقوف. لدينا سخرية جماعية، مثل تلك التي يتمتع بها الشعب المصري؛ وهي بكونها جماعية، تحتمي ببعضها، لا تعرض نفسها لخطر المداهمة، فتأخذ راحتها في الضحك على الرؤساء وتؤلف عليهم النكات، من دون ان تحرم نفسها من تأليههم. ولكنها سخرية قليلة الحيلة، وان بدت قوية. فهي محدودة، بمجالها وسقفها ومحرماتها، التي ليس بوسع أحد أن يخترقها دون التعرض لعقاب المجتمع أو الدولة. وفي هذه الحالة، يكون الاثنان، الدولة والمجتمع، شرطين على السخرية الزائغة عن هذه الطريق.

لدينا أيضا أفراد ساخرون، فنانون ومبدعون. والمشكلة معم انهم في بداية طريقهم، أي في شبابهم، تميزوا بدرجات غير مسبوقة من السخرية. أشعلوا المخيلات كلها، وصاروا أرباب الخشبات كلها. ولكنهم مع العمر، أي مع التسويات والتكريمات والامتيازات، أو مع التأطير السياسي، والالزام بالخط «العريض»، جمدوا عند زمانهم، أي تراجعوا، وصاروا من أصحاب الضحك الخشبي الذي يعشقه الكثيرون، لأنه يطمئنهم على قناعاتهم، فيعزز بذلك واحد او اكثر من السلطات المتحكمة بمصيرهم. ضحك خشبي مكرر، ضحك مضجر، ضحك ميكانيكي ينسف أسس الضحك.

لدينا الضحك الذي ما كاد يشق طريقه حتى اعترضته جموع، وأهالي، فأسكتته؛ فتكرس تحديد سقفه. مثل تلك الهجمات التي حصلت على أحد أحياء بيروت المسيحية اعتراضاً على قيام قناة لبنانية بعرض برنامج ساخر يتناول زعيمها «الديني»، صاحب العصمة المطلقة. فكان التعرض بالضرب المبرح لأهالي الحي المسيحي أعظم إجهاض لمحاولة خرق ألوهية هذا الزعيم.

لدينا ضحكات الزعماء على خفّة ظلهم هم. مهما كانت رتبته أو محليته أو عالميته، الزعيم لا يقبل أن يضحك أحد عليه. لكن عندما يزمع على عقد ضحكة ما، ويعدّ لها بحركة في خصره، كأنه يتلوّى، فيطلق تلك المزحة السمجة، فتنفجر الجماهير إعجابا وضحكاً مضبوطاً، مراقباً، ضحك له بداية ونهاية. ثم يعود الضجر…

ليس في تراثنا الحديث غير القليل القليل من الساخرين. نحن نهجو، نشهّر، نفضح، نندّد، نعزل، نجتثّ، نقطع الألسن، ومعها نقطع الآذان؛ لكي نتعلم أن لا نسمع، أن لا نتكلم، أن لا نرى، فنسمح للتلفزيون وحده بالاستيلاء على الضحك.

فوق هذه البيئة بُني العرش الداعشي. فوق تمارين على ضبط ثقافتنا، تقزيمها وقتل أي برعم من حريتها ومخيلتها. ثقافة مضبوطة جعلت الضحك على المحرمات من الجرائم التي لا تستحق غير الموت. فكانت مجزرة «شارلي إيبدو« النتيجة الطبيعية لها.

نظامنا الثقافي هو الذي سمح لدواعش من بيننا بارتكاب جريمتهم بحق أقلام ساخرة؛ نظامنا الذي يكابر على الضحك بقدر ما يكابر على الخيال، فيحول جحيم آخرتنا وآخرة غيرنا أرحم من جحيم دنيانا ودنيا غيرنا.

http://www.almustaqbal.com/v4/Article.aspx?Type=NP&ArticleID=646530

السابق
ضربة القنيطرة أخطر رسالة إسرائيلية إقليمية
التالي
اقتراح حلّ يتقدّم بشأن إطلاق العسكريين بيان سلام «اللائق» عن البحرين يختصر الموقف