تعقيباً على مقال النهار: العنصرية وأصل الحكاية

لا يمكن حلّ الأزمة اللبنانية - السورية بالاتهامات والألفاظ العنصرية. ولا يمكن التعامل مع معضلة تعود إلى عقود وتتفاقم كأنّها بحاجة إلى حلول سطحية. يجب العودة إلى أصل الحكايتين اللبنانية والسورية ومن بعدها محاولة الخروج من المأزق.

يتعامل بعض اللبنانيين والسلطات اللبنانية تحديداً مع النزوح السوري إلى لبنان على أنّه “الكابوس” والإعصار الّذي هبّ على البلاد لينتزعها عن فراش ورديّ كانت تلتحفه بسعادة وبهجة. وربما بعد أعوامٍ طويلة، نسمع حكايات مختلقة مفادها أنّ لبنان كان جنّة قبل دخول النازحين السوريين إليه. وتمتدّ جذور حكايا الوهم وحالة الإنكار التي يعيشها اللّبناني لأجيالٍ قادمة.

وقد نشر موقع النهار الإلكتروني مقالاً مؤخراً تحت عنوان “الحمرا ما عادت لبنانية… التوسّع السوري غيّر هويّتها”، وأثار المقال حفيظة شريحة كبيرة من القراء الذين اتهموا “النهار” بالعنصرية. لكن الحكاية اللبنانية – السورية لا تتلخص هكذا ولا يمكن أن تكون العنصرية حلا للأزمة.

لنضع أمامنا فرضية بسيطة: اللّبناني يعاني من استبداد في بلاده ويقصف من كل جهة ويهرب من الموت إلى بلدان مجاورة. ولنفترض أن النساء اللبنانيات هن، بدل السوريات، محط استغلال جنسي. لنفترض أن الطلاب اللبنانيين خسروا أعوامهم الدراسية وأن أطفال بلدنا محرومون من التعليم. وهذه التصوّرات تحتاج وجداناً إنسانياً قد يكون غائباً، وبالتالي لا يمكن المحاججة بالأخلاق والرحمة والرأفة.

وسيأتي من يقول إن السوريات وجدن الفرصة “للفلتان الجنسي” وإن الطلاب يأخذون مقاعد لبنانية في المؤسسات التعليمية. نعم السوريون يطمعون بسويسرا الشرق، الاستغلال الجنسي حلم رائع وكذلك محاولة الاندماج في منهج دراسي غريب عنهم. وهم يسعون إلى الخروج من منازلهم طمعاً بـ”كرتونة إعاشة” من الأمم المتّحدة وهم ربما يريدون خيراتنا من النفط المستقبلي.

نعم، هي نظرية المؤامرة وتحميل الخارج مسؤولية “الصغيرة والكبيرة” في لبنان. وربما يمكننا القول الآن، إن أصابنا ألم في الأسنان مثلا أن النازح السوري هو المسؤول. ويمكن تلخيص المأساة اللّبنانية بإظهار السوريين كالوحش الشقيق الذي أتى ليحرم اللبناني المسكين من عمله ويستولي على لقمة عيشه وينقله إلى البؤس.

ويمكن أن نشهد لدى المسؤولين كوزير العمل سجعان قزّي “نزعته الوطنية” ونيته بإغلاق المطاعم السورية إن استمرّت بالتوسّع في شارع الحمرا. وكأنّ هذه المحلّات “هبة” للسوريين وكأنّهم لا يدفعون الإيجارات الباهظة لمالكي هذه المحلات

يأتينا وزير العدل ليقوم بواجباته العنصريّة على أكمل وجه، ولا يخبرنا عن آلاف اللبنانيين الغارقين في البطالة، لا تفسّر لنا وزارته لماذا نحمل، نحن الشباب اللّبناني، هاجس الهجرة وأمل الرحيل عن بلدٍ لم يكن يسعنا يوماً. لم يفسّر لنا حتمية طرق المواطن الراغب والساعي إلى “الوظيفة” أبواب النوّاب والمسؤولين. ولا مثلاً خرج بقانون أو مشروع يفتح فرص العمل لأبناء هذا البلد. وليخبرنا الوزير عينه، إن تقدّم أحدهم للعمل داخل وزارته، ألن يكون في الأمر حسابات حزبية وعنصرية داخلية لبنانية وطائفية؟ وهذا الوزير هو مجرّد نموذج عن غيره من المسؤولين الذين نادراً ما تستيقظ غيرتهم على المواطن من سباتها المقيت.

لا يمكن إنكار وجود أزمة لجوء في لبنان، ولكن لا يمكن تلخيص المشهد عنصرياً. ولا يمكن أن يتسيقظ المسؤولون اللبنانيون فجأة على إجراءات مفاجئة، هم الذين لم يستطيعوا الاتفاق على خطة حكومية موحدة للتعامل مع الأزمة منذ البداية. ولو كانت لنا دولة محترمة، لكانت نظمت مسألة اللجوء منذ البداية.

المشلكة الحقيقية “لبنانية” وهذا ما لا يريد الشعب مواجهته. نحن، أبناء هذا العالم الثالث، لا نريد أن نعيش تحت سطوة القوانين. نجد لذة في رمي القمامة من نوافذ السيارات ونجد فخراً في عبور الصفّ في الدوائر الرسمية لأنّ الموظف مثلاً “ابن عم بابا”. نحن فعلاً لا نحترم مواعيدنا ولا نضع حزام الأمان ولا نحترم إشارات المرور، بل نحيا لنخترقها. نحن من نرفع سماعة الهاتف حين نرى مخالفة على السيارة لنتصل بالظابط فلان أو السؤول علّان. وقد باتت هذه التصرّفات جزءاً من هويّتنا جميعاً

نحن فعلاً، في سلوكنا اليومي، نعتبر أنّنا أفضل من الآخرين ونحيا “بالدين” ونسهر “بالدين” ونتزوّج “بالدين”. فأين كان النازح السوري من نمط العيش هذا من قبل؟ ولهذا التفلت في العيش، والرضوخ للزعامات السياسية ثمن لا بد أن ندفعه وهو عدم تنظيم مسألة اللجوء. فلو كنا في دولة، كنا “متل الشطار مشينا متل الساعة” وهل نريد ذلك فعلاً أم أننا نستمتع بالفوضى

هل بوسعنا التخلّي عن ميّزات وهمية وهل نريد أن نغيّر سلوكنا وحياتنا اليومية. هل يريد التجار أن يصحبوا أهل نخوة ويتوقفوا عن تبديل تواريخ الصلاحية عن منتجاتهم؟ هل نريد أن نفرض رقابة صحية مثلاً على المطاعم؟ هل نريد أن نتعاطى مع المدارس الرسمية كمؤسسات تعليمية من الدرجة الأولى؟ ماذا ينقصها غير تفاني أساتذتها؟ لا تدلّ المؤشرات اللبنانية على ذلك.

نحن لا نريد أن نقف كشعب ونحدّد هوية جديدة لنا أو نصنع التغيير. نريد أن نتذمّر. نريد أن نفرح بإجراءات وضعتها السلطات اللبنانية للاجئين ولا نريد أن نصدق أن الإجراءات الجديدة لن تحلّ الأزمة.

تعود الحكاية اللبنانية – السورية إلى عقود من العلاقة الملتبسة والمتشابكة في ظل غياب تواصل حقيقي بين الشعبين. لقد اعتدنا إمّا أن “نُحكم بالصرماية” أو أن نرى في السوري عامل أجير يعمل في الأشغال التي لا يريد اللبناني أن يعمل فيها.

المسألة ليست حول ردّ الحفاوة للسوريين الذين استقبلوا اللّبنانيين الهاربين خلال حرب تمّوز ولا هي ردّ للجميل. نحن لسنا بصدد استعراض النخوة. هي مسألة حياةٍ أو موت أحياناً بالنسبة للسوري، ومسألة استخفاف باللبناني من قبل حكّامه ومن قبله هو أيضاً ورضوخه ليكون دمية.

لذا لا يمكن حلّ الأمور بالاتهامات والألفاظ العنصرية. ولا يمكن التعامل مع معضلة تعود إلى عقود وتتفاقم كأنّها بحاجة إلى حلول سطحية. يجب العودة إلى أصل الحكايتين اللبنانية والسورية ومن بعدها محاولة الخروج من المأزق.

السابق
توقف حركتي الملاحة والصيد البحري في مرفأ صور
التالي
فيديو كوميدي جديد للشيخ السلفي بلال موّاس