روسيا وإيران تتقدّمان لسدّ الفراغ الديبلوماسي في الملف السوري

روسيا

شهدت الأشهر الأخيرة حركة ديبلوماسية محمومة في النزاع السوري، لكن خلافاً لما كان عليه الحال في الأعوام السابقة، تغيب الولايات المتحدة بطريقة غريبة عن هذه الحركة.

بدلاً من ذلك، تحاول روسيا وإيران، الحليفتان الأساسيتان للرئيس السوري بشار الأسد، الإمساك بزمام المبادرة وتمهيد الطريق للتوصّل إلى اتفاق سياسي جديد.
فسّر البعض هذه الحركة بأنها خطوة دفاعية أو انتهازية، مشيرين إلى أن كلاً من روسيا وإيران يواجه معوّقات اقتصادية جديدة، وربما دفعهما المشهد السياسي المتغيِّر بسرعة في المنطقة إلى تبديل آرائهما. فأسعار النفط تسجّل هبوطاً حاداً، وثمة مؤشرات متزايدة على هشاشة النظام الأسدي، حتى فيما يعيد المجتمع الدولي تركيز اهتمامه على صعود “الدولة الإسلامية”، التنظيم المتطرّف المتفرّع من تنظيم “القاعدة” في سوريا والعراق. ربما دفعت هذه العوامل مجتمعةً – أو هكذا يُعتقَد – موسكو وطهران للبدء بالتفكير في بديل من الأسد. لكن هل هي قراءة صحيحة للأوضاع؟
المبادرة الروسية: قام نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في الآونة الأخيرة بزيارات عدّة إلى دمشق والمنطقة، وكان يُعرّج على بيروت في كل زيارة، وذلك لإجراء مباحثات مع نظام الأسد ومع الشخصيات المعارضة داخل سوريا وخارجها. وكذلك زار وفدان سوريان يقفان على طرفَي نقيض في النزاع السوري، موسكو.
في منتصف تشرين الثاني الماضي، أصبح وزير الخارجية السوري وليد المعلم أول مسؤول سوري يلتقي شخصياً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أكّد من جديد دعمه نظام الأسد. وقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحافي بعد الاجتماع، بأن الصيغة الحالية لمحادثات السلام السورية، بالاستناد إلى بيان جنيف الصادر في 30 حزيران 2012 ومحادثات السلام في مؤتمر جنيف 2 في مطلع عام 2014، قد عفاها الزمن. لقد دعت عملية جنيف إلى “إنشاء هيئة حكومية انتقالية” تتمتع بـ”صلاحيات تنفيذية كاملة”، في إشارة إلى شكل من أشكال العملية الانتقالية بمعزل عن النظام الحالي. وقد حظيت هذه العملية بموافقة دولية واسعة، ولقيت في ذلك الوقت دعماً من روسيا والولايات المتحدة على السواء. لكن لافروف اقترح وجوب استبدال إطار العمل هذا بمبادرة موسكو لتسوية النزاع من طريق الحوار السوري الداخلي.
بعد زيارة المعلم، استقبلت موسكو وفداً آخر يتألف هذه المرة من مجموعة من المعارضين المعتدلين برئاسة الشيخ أحمد معاذ الخطيب، وهو خطيب وداعية سنّي من دمشق كان رئيساً للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يمثّل المعارضة في المنفى، ومعروف بمحاولاته فتح حوار مع النظام. بعد جولته الروسية، تعرّض الخطيب للانتقاد من الشخصيات المعارضة الأكثر تشدداً وشعر بأنه مضطر إلى تبرير خطوته من خلال إصدار مذكرة عامة مسهبة نشرها على صفحته على موقع “فايسبوك” ودعا فيها إلى اعتماد استراتيجية واقعية للمفاوضات ناصحاً مواطنيه إعطاء المقترحات الروسية فرصة، حتى ولو كان الثمن بقاء الأسد في السلطة لبعض الوقت.
لن تستند هذه المبادرة الجديدة، بحسب توصيف الحكومتَين الروسية والسورية، إلى أي إطار عمل مسبق، أي إنها لن تستند لا إلى قرارات الأمم المتحدة ولا إلى بيان جنيف. بل ستكون صيغة جديدة محض “سورية – سورية” من دون أي ضغوط خارجية أو تدخل خارجي، على الرغم من أنه في ذلك تجاهلٌ لواقع أن العملية بأسرها انطلقت من موسكو.
رابط روسي؟: لا تتقدّم الديبلوماسية الروسية في فراغ. فمنذ فترة قصيرة، قدّم مبعوث الأمم المتحدة الجديد في سوريا، ستيفان دو ميستورا، اقتراحاً يتقاطع بطريقة غريبة مع الاقتراح الروسي عند مستويات كثيرة. يهدف الاقتراح الذي قُدِّم بأنه مقاربة “هرمية من الأسفل إلى الأعلى” لوقف الأعمال الحربية، إلى “تجميد” النزاع من خلال ترتيبات وقف النار في المناطق بدءاً من حلب. لا تتضمّن مبادرة دي ميستورا بنوداً واضحة عن التغيير السياسي، بحيث تتجنّب الخوض في المسألة الشائكة المتعلقة بمستقبل الأسد، وتُقدَّم بأنها مجهود إنساني في شكل أساسي ليس لها رابط فعلي بالتسوية النهائية للنزاع.
لكن لدى القراءة بين سطور المقابلات النادرة التي تحدّث فيها مبعوث الأمم المتحدة، يبدو أنه يُراد من اقتراحه لتجميد النزاع في حلب أن يكون خطوة أولى تليها خطوات كثيرة. فعبر إبرام اتفاقات مماثلة في مناطق أخرى وتوسيع نطاق وقف النار شيئاً فشيئاً، من شأن هذه الآلية أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تجميد الحرب السورية، على أن تتبلور الديناميات السياسية في مرحلة لاحقة. لكن ماذا سيحل بالأسد؟ لدى سؤاله عن هذه النقطة في مقابلة مع صحيفة “الحياة”، اكتفى مبعوث الأمم المتحدة بإعطاء جواب مقتضب جداً وقاطع بطريقة لافتة: “لن أعلق أكثر من ذلك”.
تعزّزت الشكوك حول الطبيعة الحقيقية لاقتراح الأمم المتحدة نظراً إلى أن خطة دي ميستورا تشبه إلى حد كبير الأفكار التي طرحها “مركز الحوار الإنساني”، وهي منظمة للتوسط في النزاعات تتخذ من سويسرا مقراً لها وقد اقترح باحثوها أنه بإمكان الأسد البقاء في سدة الرئاسة لسنوات عدة، فيما يتم إبرام اتفاقات لوقف النار، ويُصوَّب السلاح نحو تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتُطبَّق الإصلاحات السياسية بصورة تدريجية. وقد لقي هذا الاقتراح رفضاً شديداً في الدوائر المعارضة.
لقد وفّرت المبادرة الروسية، بتقدّمها إلى الواجهة في تلك اللحظة بالذات، الحلقة السياسية المفقودة التي تحتاج إليها جهود دو ميستورا “التقنية”، فأضفت فحوىً على مقاربته الرسمية واستعادت زمام المبادرة في تسوية المسألة السورية. في الواقع، يشرح دو ميستورا، في المقابلة مع صحيفة “الحياة”، أنه لا يعتبر الاقتراح الروسي منافساً لاقتراحه: “بالعكس، في حال قُدِّمت هذه المبادرة بطريقة مناسبة وحظيت بدعم كل الأطراف، فإنها ستكمل جهودي، لأننا في حاجة الى مبادرة جديدة للحوار السياسي”.
الاعتماد على إيران: تبدو موسكو، في إطلاقها “الحوار السوري الداخلي” وإشرافها عليه، حريصة على إبقاء إيران في الصورة، لا سيما أن الروس يدركون أن نظام الأسد سيستجيب في نهاية المطاف لأوامر طهران أكثر من استجابته لأوامرهم. صحيح أن العلاقة مع روسيا مهمة، إلا أنها ليست عميقة بقدر اعتماد الحكومة السورية على إيران.
لكن يبدو أن السوريين واثقون تماماً من حليفهم الإيراني، وخير دليل على ذلك جدول أسفار المعلم. فبعد مغادرته موسكو، توجّه إلى طهران حيث أعاد مع القيادة الإيرانية تجديد اقتناعهما بأن الحل الوحيد للأزمة السورية هو الحوار بين السوريين من دون تدخل خارجي – إنما، وهنا تكمن المفارقة، بتيسير من روسيا وإيران.
في مقابلة نشرتها صحيفة “الأخبار” اللبنانية في مطلع تشرين الثاني الماضي، أعطى المعلم انطباعاً بأنه واثق للغاية ليس فقط من التزام إيران المستمر الإبقاء على حكم الأسد إنما حتى من هوية الفصيل السياسي الذي سيسيطر على السياسة في طهران في المستقبل.
هل يمكن أن تفوز روسيا وإيران بالتزكية؟: وفقاً للصحافي اللبناني سامي كليب – المعروف بآرائه المؤيّدة لدمشق والذي تعمل زوجته مديرة للمكتب الإعلامي في القصر الرئاسي السوري – عمد كل من إيران وروسيا إلى زيادة مساعداته المادية للنظام السوري إلى حد كبير عبر فتح خط ائتماني مشترك جديد قدره 6,4 مليارات دولار أميركية، مع العلم بأن إيران قدّمت ثلثَي المبلغ. إذا تبيّن أن هذه المعلومة صحيحة، فهي تضاف إلى الدعم الحماسي الذي منحته الدولتان إلى مشروع التجميد الذي أطلقه دو ميستورا وإلى الاقتراح الروسي بإجراء مباحثات سورية-سورية لإعادة إضفاء شرعية على الأسد ونظامه.
يبدو أن الأمم المتحدة تبتعد عن صيغة تسوية النزاع التي تم الاتفاق عليها في بيان جنيف 2012 ومحادثات “جنيف “2 عام 2014، وتفضّل التركيز على تجميد الأعمال الحربية وعلى الحوارات الإنسانية. في غضون ذلك، يبدو أن المبادرة الجديدة المدعومة من موسكو تهدف إلى تجاوز واشنطن شيئاً فشيئاً وجعل محادثات السلام السورية شأناً روسياً – إيرانياً صرفاً.
حتى الآن، يلتزم البيت الأبيض صمتاً مطبقاً حول هذه المسألة. إذا لم يخرج عن صمته قريباً، لا بد من السؤال إذا كانت الخطة الروسية – الإيرانية لإبقاء الأسد في السلطة قد أصبحت تدريجاً الاقتراح الدولي الوحيد المطروح على الطاولة.

http://newspaper.annahar.com/article/203100-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%84%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%BA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A

السابق
اقتراح قانون يمنع الـ«سي آي ايه» من احتجاز معتقلين وتعذيبهم
التالي
الفيزا اللبنانية: انتقام الجبناء!