رحلة البحث عن السيرة الذاتية لنظام دمشق

دمشق
دائماً ما يردد بعض اللبنانيين العبارة التالية: "الجيش السوري عمل مجازر فينا وحكمونا بالصرماية". هم أنفسهم ذهبوا للدفاع عن الصرماية التي دعستهم طيلة ثلاثين سنة.

حاولت الإتصال برئيس الجمهورية العربية السورية بشار الأسد بغية الكتابة عن إنجازاته ونجاحات حزب البعث العربي الإشتراكي أثناء حكم والده الرئيس الراحل حافظ الأسد ولكن الحظ لم يحالفني. حاولت الحصول على نبذة عن حياة سيادته أو سيرته الذاتية فقررت زيارة معمل النفايات في بيروت لجمع الشهادات الحية من مواطنين سوريين يعملون في المصنع ويقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف عامل، لقد باتوا يعرفون في لبنان بإسم “الجيش الأخضر” بالتأكيد التسمية جاءت فقط من أجل رفع معنوياتهم.

داخل غرفة فرز القمامة يوجد رجل ٌ ذو بشرة بيضاء يلبس قميصاً أزرق كالأطباء ويضع يديه في جيبه بهدوء تام. لا يعطس، لا يرمش، لا يتكلم ولا يحس، فقط يصدر الأوامر إلى جيشه من العمال ذوي البشرة السمراء الداكنة. الجميع يدخن “السيدارز” وهي علبة دخان بثمن رخيص جداً وسيجارة طويلة يطلقون عليها أغنية “يا مسهرني” أنظر إليهم وأتأمل سحناتهم المكبوتة الخائفة ثم أبتسم لهم كي أبدد خوفهم أو إعجابهم من قميصي المزركش بالألوان وحذائي الأحمر ووجهي الأبيض. أسأل أحدهم، هل تحب الرئيس؟! لا جواب. فقط إنغماس أكثر في مج الدخان ثم الهروب مرددين: ما خصنا بالسياسة، بدنا بس نعيش بأمان ونربي عيالنا.

في الطريق أشاهد بائع ساعات يجلس وإلى جانبه شنطة سامسونايت صغيرة مليئة بالساعات، يجلس كصنم ثابت دون حياة، لقد فقد ماضيه وحاضره، إنه يبيع الوقت المتبقي من مستقبله. يمر من الجهة المقابلة بائع الكعك على دراجته الهوائية وينادي “كعك كعك كعكعكعك قليطة” والعرق يتصبب منه.

أقابل بائع الجرائد الذي يبيع أخبار بلاده بعد أن باعته، يوزع الصحف المليئة بالعناوين السورية إلا أنه الوحيد المنفصم عن الواقع والذي لا يعرف ماذا حصل كطفل أصابته الدهشة للوهلة الاولى بعد خروجه من رحم أمه.

أرمي قطعةً نقدية من نافذة الباص لطفلٍ يبيع العلكة، تنهمر عليه القطع النقدية من شبان وفتيات من عمره فيرقص ويتشقلب على حافة الطريق كبهلوان في سيرك.

الطقس بارد جداً بينما يمشي طفل حافي القدمين على الرصيف في العراء لم يتجاوز السنتين من عمره. يركض نحوي طفل ٌ أخر “بدك بويا إستاذ؟” ولكنني أنتعل حذاءً أبيض، ألهذه الدرجة فقدت الإحساس بالألوان عزيزي! أقولها في سري.

أصحو على وقع طرق الباب صباحاً في منزلي الكائن في “حي الكرامة”، أفتح لأجد رجلاً في الستينات من العمر يحمل حقيبة بنية مشفرة ثم يقول لي “بدك أسنان إستاذ، في أسنان فضة وفي دهب، بشيلك القديم بركبلك جديد دغري” الملفت أن لا أسنان له سوى أربع أو خمس أسنان مسوسة.

يتصل بي صديقي فرحاً ويقول لي: إحذر شو؟! الصبح طرقت بابي إمرأة محجبة بدها تبصرلي ومحسوبك طلعها على الخيمة على السطح دغري، جمالها بجنن. أغلق السماعة قبل إنهاء المكالمة.

أسمع همسات الناس يقولون “أهل حلب والشام أغنياء، أنظروا إلى سياراتهم الفارهة التي تجوب مدينة بيروت، الفنانون السوريون يجلسون في المقاهي، هؤلاء هم السوريين الحقيقيين مش متل أهل دير الزور والمناطق الريفية”.أتساءل، أليسوا هؤلاء، سكان الأرياف المهملون، مواطنون سوريون أيضاً!؟ ألا يحملون الجنسية السورية ولهم حقوق كغيرهم من الطبقات المترفة!؟

أسافر إلى أوروبا لأبحث عن وجهٍ أخر من إنجازات النظام طيلة أربع عقود من الزمن. أقابل جورج طرابيشي وصادق العظم وبرهان غليون وميشال كيلو وعبد الرزاق عيد وجميع أعضاء “المجلس الوطني لإعلان دمشق” الذي يضم رتل من الفنانين والمثقفين السوريين المنفيين.
أسأل نفسي: ما هو هذا الوطن الذي لا يضم سوى الشحادين والمثقفين والعسكر، كيف يمكن أن يختزل شعب بأكمله بفئة كبيرة من المشردين وفئة صغيرة من المثقفين المنفيين قسراً وفئة كبيرة من المحاربين الأشاوس…ألا يوجد في هذا الوطن إنسان/مواطن عادي طبيعي!؟

ذهبت إلى دمشق لمشاهدة عرض مسرحي وإذ أتفاجأ حين أرى صورة كبيرة للأب الحاكم وإبنه وريث العرش معلقة في خلفية المسرح كديكور والممثلون يؤدون أدوارهم بمهارة وحرفية عالية جداً. يهتز المسرح على وقع الصفيق والصراخ فتقع الصورة. يترك الممثل دوره ويذهب لإعادتها ووضعها في مكانها كما كانت…يا إلهي كم هذا محزن وكم هي كبيرة هذه الإهانة حين يفلت الممثل لاإرادياً من إندماجه في شخصيته من أجل الصورة. هل هو نوع جديد من الفن المسرحي الذي لم أدرسه سابقاً ولم أشاهد له مثيلاً في حياتي! أشاهد مسلسلاً درامياً من إنتاجٍ سوري فأجد نفس الصورة معلقة خلف المكاتب وعلى جدران الغرف وفي الكباريهات والمدارس والجامعات، حتى خطيب المسجد يصلي صلاة الجمعة وأمامه صورة معلقة للأب الروحي الحاكم كأيقونة نفيسة، حتى الخوري حين يقدس كان يقول “بإسم الأب والإبن”.

دائماً ما يردد بعض اللبنانيين العبارة التالية “الجيش السوري عمل مجازر فينا وحكمونا بالصرماية”. هم أنفسهم ذهبوا للدفاع عن الصرماية التي دعستهم طيلة ثلاثين سنة.

في 15 أذار 2015 تدخل الأزمة في سوريا عامها الخامس، إستحق السوريون على إثرها شهادة دبلوم في الثورة والصمود والمعاناة. لن تنجح إلا بعد تحقيق شهادات أعلى وتقديم تضحيات أكبر كنيل الدكتوراه في الدراسات العليا الثورية لشعب أعزل ومشرد في دول الشتات. فعلى قدر إستبداد الديكتاتور وعلى قدر إجرام الإرهاب ينال الشعب السوري شهاداته.

السابق
عون لجعجع: «لا بخاف ولا بخوّف» والمواجهة بصدق تفتح القلوب وتُنجز التفاهمات
التالي
سيلينا غوميز تثير غضب المسلمين