جنبلاط الـ 2015: نسخة جديدة

قضايا كثيرة تقضّ مضجعَ النائب وليد جنبلاط. منها ما يَحمل الطابعَ الوجودي مع الخطر الذي يلوح في الأفق حول المناطق الدرزية في جنوب سوريا وفي البقاع وراشيّا. ومنها ما يَحمل الطابع الواقعي الذي يتمحور حول طريقة إعادة رسم سياسة فاعلة، فيما الرئيس بشّار الأسد باقٍ في السلطة، وكلّ الجسور بين المختارة والنظام السوري كان جنبلاط قد هدَمها «ليجلسَ على ضفاف النهر منتظِراً مرورَ جثة خصمِه».

في واشنطن حِرصٌ على حماية الوجود الدرزي الموزّع ما بين سوريا ولبنان وإسرائيل. من هنا أهمّية العلاقات التي نسجَها بعض المسؤولين الاميركيين مع جنبلاط «الواقعي والعملي»، كما يصفه الديبلوماسيون الاميركيون.

خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 لم يتحرّك السفير الاميركي سوى في اتّجاه المختارة، فيما يُشبه الحماية الاميركية لهذا الموقع وسط أتون الحرب. لكنّ الأمور تبدو اليوم أشدّ تعقيداً وخطورة. ذلك أنّ هامش اللعبة واسع مع وجود تيارات دينية متطرّفة، والصراع يحمل صفة «الوجود» بالنسبة إلى أطراف كثيرة، ما يجعل الخطوط الحمر بلا فائدة.

لذلك مثلاً نصحَت واشنطن جنبلاط دائماً بأمرَين: الأوّل إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع «حزب الله»، والثاني عدم الذهاب بعيداً في العداء ضد الأسد. لكنّ الثقة التي أبداها أمير قطر بقرب سقوط الأسد، دفعَت بجنبلاط إلى انتظار جثته تعبر النهر.

لكنّ الأسوأ كان ما تلقّاه أخيراً عن عزم واشنطن على التفاهم مع إيران وبناء سياسة شرق أوسطية جديدة على هذا الأساس، ما يعني أنّ «حزب الله» ذاهبٌ في اتّجاه خيارات سياسية مفتوحة. إضافةً إلى أنّ الأسد باقٍ في السلطة على الأقلّ خلال المرحلة المقبلة لأسباب عدّة، أبرزُها مصلحة واشنطن في بقاء النظام الأمني والعسكري في سوريا، ولو في إطار جديد للدولة، وأن لا بديل عن الأسد على رأس هذا النظام.

لم يعُد سرّاً أنّ وفوداً من الاستخبارات المركزية الاميركية زارت سوريا عبر لبنان، ولو من دون مهمّة رسمية. لكنّ برنامج العمل واضح، وهو التنسيق مع دوائر النظام السوري في إطار الحرب المعلنة على «داعش»، مع ما يفتح ذلك من مؤشّرات باستعادة التواصل مع دمشق. وجاءت خطوة الكويت لجهة إعادة فتح أبواب السفارة السورية واضحة، وهي ما كانت لتحصل لولا وجود ضوء أخضر اميركي على الأقلّ.

وأمام الواقع الجديد، كان لا بدّ من درس خطوة جنبلاطية جديدة تلائم الوضع. فإصلاح الوضع بين جنبلاط والنظام السوري أصبح مستحيلاً بعدما ذهبَ جنبلاط بعيداً في إظهار عدائه كاشفاً زيفَ خطوته بمصالحةِ دمشق عام 2008.

لكن ومع بداية الحرب في سوريا، حاوَل جنبلاط حشرَ الرئيس السوري معنوياً عندما أعلنَ نهائية قراره بالاستقالة من رئاسة الحزب وإجراء انتخابات حزبية لرئاسة الحزب في مهلةٍ أقصاها سنة واحدة، أي عام 2012. لكنّ ذلك لم يحصل لأنّ الحرب في سوريا كانت لا تزال في أوجِها، وبالتالي لم يعُد من معنى للحديث المخملي عن «ربيع الديموقراطية».

لكنّ الخطوة نفسها قد تبدو مفيدةً اليوم ولو في إطار حسابات وأهداف مختلفة. ويتردّد على نطاق ضيّق جدّاً أنّ جنبلاط استمزجَ قلّة معدودة من الأشخاص، وفي طليعتهم الرئيسان سعد الحريري ونبيه برّي حيال عزمِه الاستقالة من العمل السياسي والحزبي، وبالتالي من موقعِه النيابي فاتحاً البابَ أمام نجله للدخول رسمياً المعترَك السياسي تحت رعايته وإشرافه المباشرين.

وهو بهذه الخطوة يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

الأوّل: تبريد الأجواء مع دمشق وإحداث خَرق في الجدار السميك على أساس أنّ تيمور خيار مختلف عن والده، ولا علاقة له بإرثه السياسي.

الثاني: توظيف هذه الخطوة في إطار تحريك الجمود القاتل الحاصل في اللعبة السياسية نتيجة الفراغ في موقع الرئاسة الأولى وتحويلها حال ضغط لتليين المواقف.

الثالث: الإشراف على «تصفية» الحرَس القديم الذي قد يشكّل حالةً معرقِلة لنجله، وإذا لم يكن واقعاً طاغياً عليه، خصوصاً أنّ الجميع يعلم بأنّ تيمور لم يستسِغ كثيراً اللعبة السياسية في لبنان. وعلى رغم الجهود الكبيرة التي يمارسها جنبلاط، بقيَ دخول تيمور إلى الحلبة السياسية خجولاً وهادئاً.

من هنا يقرأ البعض في خطوة «الأمن الغذائي» التي بدأ بها وزير الصحة العامة وائل ابو فاعور بتشجيع كامل ومفتوح وغير محدود من جنبلاط، خطوةً في اتّجاه تثبيت أقدام ابو فاعور، وهو الذي يُعتبَر أحدَ أقرب الأشخاص لتيمور، والقابل لمعاونته، خصوصاً أنّه جاءَ من رئاسة منظّمة الشباب إلى عالم الوزارة. وكان لافتاً، على سبيل المثال، الانتقاد العنيف الذي أعلنَه ابو فاعور من مطار بيروت، واصفاً الوضع بـ»غرَف الإعدام».

والمعلوم أنّ النائب غازي العريضي كان هو وزيراً للأشغال لسنوات عدّة في الحكومة السابقة، وهذا الهجوم طاوَله في شكلٍ أو في آخر، وهو ما كان ليحصل لولا الضوء الأخضر من جنبلاط. ما يعني باستنتاج أوضَح، أنّ استعادة العريضي لتواصلِه مع جنبلاط لن تعنيَ أبداً استعادة دورِه السياسي وموقعِه الذي كان مميّزاً في السابق، وأنّ على الحرس القديم الانكفاء لصالح الفريق الجديد الذي سيعاون تيمور.

جنبلاط لم يتّخذ قرارَه النهائي بعد، وهو يحاول إشباع خطوته درساً قبل اتّخاذه. والأكيد أنّ آفاق خطوته لا يحصر درسها بالمعطيات الداخلية، بل والأهمّ بمعطيات ونصائح تأتي، أبعد من الحدود.

http://www.aljoumhouria.com/news/index/199480

السابق
خريطة الطريق.. كسلاح سوري مدمِر
التالي
احياء اسبوع الشاعر احمد سعد في بلدة معركة