ما هي مبادرة ما بعد الانتخابات؟

جلس بنيامين نتنياهو على يمين الصف الأول من مقاعد الطائرة. لن تضبطوه هذه الأيام يفكر حتى للحظة بالجانب الأيسر، فهو مشغول بالانتخابات وباستعادة جمهور الناخبين التقليدي. كانت الرحلة لروما قصيرة، جوهرية ومؤلمة. لقد كانت رحلة أعمال بشروط تذكرة سياحية. وهذا ما حصل عليه نتنياهو في رحلته إلى أوروبا، في الطائرة وأيضا في اللقاءات السياسية التي أجراها.

لقد وصل نتنياهو إلى إيطاليا لبضع ساعات. وفهم رئيس الحكومة الإيطالية، ميتاو رانتسي، أنه يلتقي نتنياهو على الطريق، لأن نظيره الإسرائيلي وصل إلى روما للقاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري. من جهة رانتسي وضع تحت تصرف نتنياهو، لعدة ساعات، فيلا مداما، بيت الضيافة المذهل الواقع على تلة تطل على روما. وقد استقبل نتنياهو بفرقة موسيقية ومصافحة، وانتهى الأمر. وتجنب الوقوف إلى جانبه وإطلاق تصريحات مهذبة، كما تجنب إبداء مودة مزيفة كالقائمة بين الزعماء، وبضمنها التربيت على الكتف وأقوال مثل «جيد أن نراك هنا»، و»منذ زمن لم نتقابل، يا صديقي»، وكل الأكاذيب الديبلوماسية التي تشير لعلاقات خارجية قوية.
والسبب واضح ومفهوم: في إسرائيل انتخابات، والإيطاليون لم يرغبوا في الظهور كمن يتدخلون فيها. ولكن إذا وصفت انطباعاتي بدقة، استنادا للرسالة التي تلقاها عدد من الصحافيين الإيطاليين من رئيس حكومتهم، فإنه في الأساس لم يرغب البتة في الظهور كمن يساعد نتنياهو. لقد قام بالحد الأدنى الإلزامي وعقد لقاء طيبا وجوهريا، ولا أكثر من ذلك. هذا بخل سياسي.

ونتنياهو بدا هكذا بالضبط: منقبض اليد، خشبيا ومتشددا، بحيث كان انتزاع أي تنازل منه مهمة مستحيلة. في إسرائيل هذه نقطة تفوق. هاكم الرسالة لناخبيه: أنا أتمسك بمواقفي أمام الجميع ولا أعطي شيئا. في أوروبا هذا معيب، مثير للغضب، ويشكل ذريعة لخطوات مضادة.
كانت الزيارة لرانتسي استجمام خمسة نجوم مقابل ما تلقاه نتنياهو من باقي الدول الأوروبية. لندن لا تنتظره، ميركل لا تصدقه، وفرنسا هي المخرب المناوب في المجال السياسي. والحديث القاسي الذي أجراه قبل أسبوع مع الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، لامس بالضبط شعوره بأن فرنسا تعرض مقترحات شعبوية، رخيصة وغير مبررة، لا هدف لها سوى مكاسب سياسية داخلية. نتنياهو على حق.

ومراجعة العقدين الأخيرين التي أجراها صديقي الصحافي سافي هيندلر، وهو دكتور في تاريخ الفنون في جامعة تل أبيب، تظهر أنه منذ اتفاقيات السلام مع مصر كل الاتفاقيات تنتهي دائما بصوت تنفيس ضعيف. كل اقتراحات ساركوزي، مبادرات هولاند وعمليات غزة بشتى أنواعها انتهت دوما بلا شيء. صفر في العلاقات الخارجية. جهات أميركية، ليست مؤيدة بشدة لنتنياهو، تحفظت أيضا عن النشاط الفرنسي الزائد. عدد منهم زعم أن وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، يعمل الكثير ليخلق لنفسه مكانة أكثر من أي هدف آخر.
ونتنياهو محق في مسألة أخرى: الأوروبيون منافقون. انتبهوا إلى المصادفات البائسة، خلال يوم واحد، لم ينشغلوا إلا بالاحتلال الإسرائيلي. في اجتماع دول معاهدة جنيف إدانة، البرلمان الأوروبي أقر بحق الفلسطينيين في دولة، صحيح كمحصلة للمفاوضات، ولكن من ينتبه للتفاصيل، والمحكمة الأوروبية، بسبب خلل فني، أخرجت حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، رغم أنها ستعاد للقائمة فورا.

في الأسبوع نفسه اختطف لاجئ إيراني رهائن في سيدني، والطالبان قتلت 150 تلميذا في مدرسة باكستانية. أوروبا منعزلة. الأسد يواصل قتل أبناء شعبه، والعالم العربي يتفكك وينجر نحو عنف فتاك، وأوروبا تنشغل بالمشكلة الأصعب أبدا: النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
والمشكلة هي أن الخطابات الصهيونية، حتى من النوع الذي يجند المحرقة كبرهان، لم تثبت نفسها كأداة سياسية ناجعة لتغيير الواقع. الولايات المتحدة تفهم المشكلة. كيري استدعى نتنياهو للقاء بالضبط من أجل أن يسمع منه ما بالوسع فعله. بالمناسبة، كيري مثل رانتسي فعل كل ما بوسعه للتهرب من التغطية الإعلامية. رجال ديوان نتنياهو أرادوا فعلا ترتيب فرصة تصوير مع المراسلين الإسرائيليين. وقالوا ان هناك احتمالا بأن يصل نتنياهو للقاء مباشرة من المطار في موكب وحينها يصل الصحافيون معه. الأميركيون أصغوا بأدب وقالوا: لا. من جانبنا سيبقى الصحافيون في الحافلة. وسمحوا فقط بصورة رسمية قصيرة.
من جهته، كيري لم يرغب في الظهور ودودا أكثر من اللازم، خصوصا قبل اللقاء مع الأوروبيين، الفلسطينيين والعرب، ومن جهة أخرى، لقد خشي من استغلال نتنياهو للقاء إعلاميا. وسبق له أن رأى كيف يخطب نتنياهو أمامه عن روما والقدس، والحق التاريخي المقدس في الأرض، كما فعل لباراك أوباما في البيت الأبيض، مع خطاب خطوط 67. وقال، لا شكرا، أفضل تجنب ذلك.

وعانت الولايات المتحدة من ضائقة أيضا جراء الرسالة المزدوجة لواشنطن. وأقسم مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى أن رجال أوباما أشاروا للفرنسيين غمزا أنهم قد يؤيدون مبادرتهم في مجلس الأمن. مصدر أميركي آخر قال ان هذا ليس صحيحا. أيا تكن الحال، بدلا من التلميح بشكل واضح أن كل مبادرة سياسية في مجلس الأمن هي مناورة سياسية خطيرة درس الأميركيون، أصغوا، وفي النهاية انجروا لهذه اللحظة التي باتوا ملزمين تقريبا فيها باستخدام الفيتو.
هناك من يقول انهم قرروا سلفا كبح الخطوة، لكنهم أرادوا إجهاد نتنياهو. هناك من يقول انهم فعلا أجهدوا أنفسهم، وهم يدفعون ثمنا زائدا على فيتو إضافي على قرار يعبر عن 90 في المئة مما يؤمنون به. ليس لطيفا.
وينبغي فهم المشكلة المركزية للخطوات المناوئة لإسرائيل. ثمة تفهم أكبر للموقف الفلسطيني، بأن لا أمل يرجى من أي خطوة سياسية جدية مع نتنياهو. وأنه لا مفر لديهم. وليس لهم ما يخسرونه، ولذلك ينبغي الضغط على إسرائيل. ويترافق هذا الضغط مع نظرية القسر لدى اليسار الإسرائيلي، وهي أن إسرائيل أبدا لن تختار برضاها نشوء دولة فلسطينية وإخلاء الأراضي والمستوطنات، لذلك يجب إجبارها على فعل ذلك ولمصلحتها.
وقد سمعت شخصا يساريا، هو رئيس تحرير سابق لصجيفة إسرائيلية، يقول ذلك صراحة لأحد صناع السياسة الخارجية الأميركية. يوم الخميس في لقاء مع صحافيين أجانب قال نتنياهو ان السلام ممكن فقط إذا قويت إسرائيل ولم تضعف. وإن الحل يفرض على من هو ضعيف. لكن الانتخابات عقدت الموقف: لأن ما يبدو حاليا إشارة صغيرة إلى حل مفروض، يمكن أن يتحول إلى نوع من استفتاء شعبي في إسرائيل عبر الانتخابات.

ويمكنكم أن تتخيلوا أن مجلس الأمن قبل صيغة ألطف، أو أن الولايات المتحدة، بروح تغيير سياستها الخارجية مع كوبا، ستنشر ما يؤمن به أوباما حقا: صيغة سلام للشرق الأوسط تتضمن: إنشاء دولة فلسطينية على حدود 67، تبادل أراض رمزيا، تقسيم القدس وغور الأردن، لإخلاء كل المستوطنات خلف الجدار الفاصل، عدا الكتل الاستيطانية، وحل مشكلة اللاجئين. نتنياهو سيقول لا، وبينت سيطلب من أوباما الاعتذار، وهرتسوغ وليفني سيتلعثمان إزاء احتمال قبول ذلك كصيغة مقبولة للمفاوضات، وزهافا غالئون ستتبنى الأمر بحماسة. مواطنو إسرائيل سيذهبون للانتخابات واليمين سيتفوق.
والنتيجة هي ان الشعب في إسرائيل رفض مشروع أوباما وأميركا للسلام. هذا سيئ لإسرائيل. هذا سيئ للفلسطينيين. هذا سيئ للاحتمال الضئيل بأن يفعل أوباما شيئا بعد الانتخابات.

إجمالا: الأوروبيون منافقون ومنفصلون عن الواقع، الفلسطينيون رفضيون وعنيدون والأميركيون معقدون وعديمو الخيال. حسنا، هكذا هي الحياة. السؤال الوحيد: ماذا عنا؟ لقد فهمنا ما لا نريد، إذاً ما الذي نريده؟ هذا ما سأله كيري لنتنياهو. هذا ما نسأله لرئيس الحكومة منذ سنوات. الجواب غامض ويبدأ دوما بلا. لا نريد السيطرة عليهم. لا نريد الانسحاب. لا نريد التنازل عن الأمن. ما الذي نريده؟ هذا هو السؤال واجب الطرح أمام المرشحين: ماذا تقترح أن نفعل، ما هو مشروعك لهذا الوضع المركب، للرفض الفلسطيني وللتدهور في المنطقة. ما هي المبادرة التي ستتخذها بعد الانتخابات؟
لأن الانتقادات الصحيحة من جانب كل شركاء نتنياهو السابقين بسيطة: هذا ثمن غياب المبادرة. شارون قال: إما أن تبادر أو تنجر. نتنياهو يلوي أنفه عندما يقولون له ذلك. من ناحيته، خطة الفصل هي البرهان على أن المبادرة مدمرة أحيانا، فتكون مبادرا ومنجرا كالخرقة في أسواق غزة دفعة واحدة. هذا جدال مشروع ويفضل إجراؤه قبل الانتخابات. هذا سيساعد المواطنين في تقرير ما إذا كان يجدر بهم الذهاب إلى صناديق الاقتراع.

السابق
مقتل عشرين عنصراً من «داعش» في محيط مطار دير الزور
التالي
مليارا دولار كلفة ازدحام السير: «هستيريا» النقل والتلوث