شاهد على الإعتدال: «هاني فحص» الظاهرة الإستثنائية

لم يكن هاني فحص سبَّابةً مرفوعة، ينظر إليها قطيعٌ مستنفر كي يذهب يميناً أو شمالاً. كان قيمةً أصيلةً أصليَّةً ومُضافة، يستشعرها كلُّ من اتَّصل به على غيرِ ضغينة، ولكنها لا تُحدِثُ هزَّةَ اصطفافٍ فارقٍ مفارق! محمد حسين شمس الدين يطتب عن الراحل العلامة السيد هاني فحص في مقال ينفرد موقع "جنوبية” بالتعاون مع مركز "تطوير للدراسات" بنشره من ضمن أبرز المواضيع الواردة في التقرير السادس للمركز (حلقة النقاش الخامسة).

رحل عالم الدين المسلم (والشيعي، إذا كان لهذه الصفة من ضرورة) السيد هاني فحص قبل نحو شهرين، عن ثمانية وستين عاماً حفلت عقوده الأخيرة بحضوره النشط في مختلف منتديات الحوار، بدءاً بـ “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” وصولاً إلى الفريق “العربي للحوار الإسلامي المسيحي” و “اللقاء اللبناني للحوار” ، مروراً بمجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمي، فضلاً عن مشاركته الدائمة في مختلف أنشطة التقريب بين المذاهب الإسلامية.

تميزت سيرته بالإعتدال في زمن التطرف، وبالحوار والتواصل مع الجميع وفي كل الإتجاهات في زمن الحواجز وسيادة النزعات الإلغائية. كان بالتأكيد من العلامات الفارقة في هذا الزمن اللبناني المسكون بالخوف واللايقين، أمام تصدّعات وانهيارات متسارعة على كل مستويات الدولة والمجتمع لم يشكّل في حياته، رغم ذلك، نقطة استقطاب بارزة في مشهد التجاذبات الحادة، الطائفية والسياسية، ولكنه عند رحيله نبَّه الجميع إلى أن الإعتدال يمكن أن يشكل رابطة أقوى مما يظن الكثيرون. ظهر ذلك من خلال إجماع استثنائي على هاني فحص القيمة، والظاهرة الاستثنائية التي لا يسعنا إلا التوقف عندها بتفكُّرٍ فَرِح:

1- نتوقّف أولاً أمام مشهد وداعه الأخير ، حيث مشى إليه وطنٌ جميلٌ يشبهه، بكل ألوانه المختلفةِ المؤتلفة، فكان السيّد، بلا جدال، من أولئك الذين مشى إليهمُ الشجرُ في بلادي!

2- نتوقّف ثانياً أمام مبادرةِ الكثيرين، من مواقع ومشاربَ وشَواغِلَ وخياراتٍ متبانية، إلى نعْيهِ فقيداً خاصاً بكل منهم، هو الذي كان للجميع، ومتمايزاً عن الجميع، فأعلنوا بذلك ائتلافهم فيه على اختلافِ ما بينَهم!

3- نتوقّف ثالثاً عند مجالس العزاء التي أقامها الناسُ الطيّبون في منتدياتٍ كثيرة من لبنان وبلاد العرب، حيث تبادلوا عبارات المواساة، قارئين فاتحة كتاب المسلمين أو “الأبانا والسلام” لراحةِ نفس السيد!

4- نتوقّف أيضاً وخصوصاً عند كنيسةِ مارالياس – انطلياس، حيث اجتمع مسلمون ومسيحيون وما بينَ وبين، فاستمعوا من داخل الكنيسة، عند قدمي سيّدها المعلَّقِ على خشبة، والذي علَّق الأرضَ على المياه – استمعوا إلى قرآنٍ رُتّل على إيقاعِ نواقيس، ونواقيسَ قُرعت على ترتيلِ قرآن، ثم رفعوا معاً وجميعاً صلاةً مشتركة كتبَ نصَّها هاني فحص بحبر الوحدة والتوحيد.. فكان ذلك مما لا عينَ رأت!

5- نتوقّف خامساً عندَ الإحتفال – العُرس الذي أُقيم في قصر الأونسكو بمناسبة الأربعين على وفاته، حيث بدأ كم أنَّ هذا الرجل عابرٌ لحواجز الأديان والأقوام والأوطان، وكم أنه في الوقت ذاته متجذرٌ في إيمانٍ وفي قومٍ وفي وطن… كان هديَّتَنا إلى الآخرين، كلِ الآخرين، إنما على شرطِ هاني فحصالآخرُ المختلف يكوّنني مثلما أُكوّنه.. هو جزءٌ من تعريفي لذاتي.. إنه شرطُ وجودي مثلما أنا شرطُ وجوده، في جَدَليةِ كمالِ الوجود”!

6- نتوقّف أخيراً وليس آخراً، وفي سياق الظاهرة ذاتها، عند سيلٍ من المقالات والشهادات في السيد هاني على أثر وفاته، ظهرت على صفحات الإعلام المكتوب وحده. أخبرني صديقٌ قبل أيام أنه جمع حتى تاريخه نحو 400 مقالٍ وشهادة. قال: وهذا غيرُ ما فاتني من الصحافة العربية والأجنبية، وغيرُ ألوف التعليقات والخواطر والتغريدات في مواقع التواصُل الإجتماعي!

تلكم هي بعضُ ملامح الظاهرة الإستثنائية التي أشرتُ إليها. ولكنَّ استثنائيتها لم تأتِ – في تقديري – من اتّساعها وقوة التعبير فيها. فلطالما شهدنا ظاهراتٍ أكثر اتّساعاً وأشدُّ نبرة، عند رحيل كبارٍ من ذوي الجاه والثروة والسلطان والشوكة والنكاية والعصبية… وما كان صاحبُنا ذا جاهٍ أو ثروةٍ أو سلطانٍ أو شوكةٍ أو نكايةٍ أو عصبية .. كلا ولا حتى “مجلس عسكري” لآل فحص:

لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ

فليُسعفِ القولُ إن لم يُسعفِ الحالُ!

والحالُ كذلك، فمن أين أتت إذاً استثنائيةُ الظاهرة  “الهانئية”؟.. لا أدّعي أني أملك جواباً شافياً، وإنما حسبي أجرُ المحاولة؛ وسأحاول في ما يلي:

لم يكن هاني فحص سبَّابةً مرفوعة، ينظر إليها قطيعٌ مستنفر كي يذهب يميناً أو شمالاً. كان قيمةً أصيلةً أصليَّةً ومُضافة، يستشعرها كلُّ من اتَّصل به على غيرِ ضغينة، ولكنها لا تُحدِثُ هزَّةَ اصطفافٍ فارقٍ مفارق!.. لماذا؟

أولاً لشدّة أُلفتها وسلاسةِ حضورها؛ إذ هي رفيقةٌ لمّاحةٌ غيرُ مزعزعة. ثانياً- وهو الأهمّ عملياً – أن الذين ألِفوه إلى حدّ التّماهي لم يُحسْنوا الإئتلافَ فيما بينهم – ولعلهم لم يدركوا تماماً أنَّ فيما بينهمُ ائتلافاً طبيعياً على نهج الإعتدال ومزاجه – فظلّوا أفراداً منفردين على كثرتهم الكاثرة ! “اضطُرَّ” هاني فحص لأن يغيب كي يدلَّهم على أنفسهم، وعلى أن اجتماعَهم ممكن!

أشهدُ أن صاحبي ذهبَ وعلى شفتيه سؤال: هلْ يثبتُ المعتدلونَ في وطني جدارتَهم؟… ولكنه ما كان سؤالَ الحائر المتحيّر.. إذْ إنَّ صاحبي المسكونَ بالسؤال إنما كان من كبار المسكونين بالرجاء، وكان لا يكفُّ عن الكرازة بحكمة الأمل: “مَنْ وثِقَ بماءٍ لا يظمأ!”.

آخرُ كلمات هاني فحص: ” اصبروا أيها المدنيون، اصبروا أيها الوطنيون، اصبروا أيها الديمقراطيون – وأُضيفُ هنا على مسؤوليتي: اصبروا أيها الميثاقيون الدستوريون – المستقبلُ للإعتدال، المستقبلُ للديمقراطية، المستقبلُ للدولة المدنية الحاضنة الجامعة!”.

 

السابق
ماذا يفعل ابن عم الاسد في مصر؟
التالي
مجدداً… الاستيلاء على أراضي لاسا