كفرفيلا بلدة البصل الأبيض

من أول البلدة حتى آخر بيت فيها، تنتشر بسطات البصل الأبيض، إنها بلدة كفرفيلا، ولا بدّ انك سمعت يوما من بائع الخضار “بصل كفرفيلا”، هذه البلدة النائية من قرى إقليم التفاح عند الخط الفاصل مع قرى شرق صيدا، تعلوها بلدة جباع وتنبسط تحتها بلدة كفرملكي، تشتهر منذ القدم بزراعة البصل والتي تعتبر مصدر الرزق الأول لأبنائها.

بعد المساحات المزروعة بأشجار الزيتون، هذه النبتة المقدسة عند أهالي الجنوب والتي يتراجع الإهتمام بها يوما بعد يوما، تأتي زراعة البصل كمساحة أساسية بين المزروعات الأخرى من حشائش وخضروات مع كل ما تختزنه من جهد وتعب، لتصبح ماهي عليه اليوم، جودة لا مثيل لها وشكلا جميلا تستعمله معظم المطاعم الأثرية كنوع من الزينة.

بصل كفرفيلا بصل من نوع آخر، يقول المزارع مصطفى خفاجة. وبكل ثقة يحمل جدلة كبيرة من البصل يفوق وزنها العشرة كيلوغرامات منمقة المظهر، ناصعة ببياضها، خالية من أي أثر للتراب الأحمر الذي يحضنها طيلة ثلاثة إلى أربع أشهر، تخرج كعروس بضفيرة طويلة، أنهكت  بجدلها أصابع المزارعات، وحبكت معها الكثير من الذكريات ممزوجة برائحة التعب وخبز المرقوق وأكلة بلدية تسمى: “بقلة برغل ببندورة”، يجتمعون كل يوم حتى الثالثة ظهرا، يتناولون غداءهم ليعودوا إلى منازلهم بعد نهار شاق، ومع كل سيارة تمر بالقرب من مكان عملها يرحبون بالضيوف “ميلو اشربوا شاي”، همومهم مختلفة عما يدور في هذا الكون من صراعات وحروب، وكل الدماء التي يرونها على شاشة التلفاز لم تستطع تلويث قلوبهم، لا زالوا حتى اليوم كأرضهم خيّرة معطاءة، تعطي أكثر بكثير مما تأخذ، والهدف الأول الأستمرار بحياة كريمة بعيدة عن الديون في بلد أصبح المزارعون فيه نسيا منسيا، لا تعرفهم وزراة زراعة ولا تحصيهم جمعية زراعية، لا رقما ولا شخصا، مع كل ما راكموه من تجارب مع الأرض وخبرة زراعية تدفعهم للقول، وبكل ثقة “بصل كفرفيلا ما في متلو على وجه الكرة الأرضية”، ايضا تضحك الحجة رقية وتقول:”يمكن مبالغة بس البصلات بتعامل معهن متل ابنتي، كل جدلة بجدلة بحط فيها من قلبي”.

كلفة عالية

في المقابل يستريح المزراع محمد اسماعيل، يشعل سيجارة تطفئ لهيب الحر في عز الظهيرة،  الساعة الواحدة لا زال لديهم الكثير من العمل، يستثمر إستراحته بكلام، يبوح بما يعانيه المزارع هذه الأيام يقول: “الزراعة أصبحت مكلفة جدا، يومية الفلاّح تتجاوز المئة الف ليرة، ويومية العامل السوري اربعين الف ليرة، واسعار الكيماوي والمبيدات أرتفعت كثيرا، ولا ننسى الجهد الكبير الذي تحتاجه هذه النبتة، فهي فعليا تحتاج الى ثلاث سنوات حتى تصبح ما هي عليه الآن، في البداية تزرع بذورا صغيرة، وبعدها تصبح بصلات صغيرة جدا نسميها “قنّار” وبعدها نقوم بقلع القنار وتشميسه لنزرعه مجددا في شهر شباط مع متابعة دائمة له من تعشيب وما شابه”.

يضيف المزارع  حسن قاسم: “أن زراعة البصل تفوق زراعة التبغ بالجهد الذي تحتاجه ولأنها تصرف مباشرة من المزارع الى التجار او الى الزبائن وفي أغلب الأحيان من دون وسيط يتحكم بالأسعار، يشعر المزارع أنه “سيّد نفسه” وأنه يستطيع أن يحصّل تعبه بما يرضيه إضافة إلى مشاركة العائلة بكل أفرادها في هذه الزراعة نساء ورجالا وتوزع الأدوار فيما بينهم، ما يجنبهم نفقات إضافية كأجرة اليد العاملة”، حاليا يباع كيلو البصل بثلاثة الالاف ليرة، ياخذ المزارعون بالإعتبار قدرة المواطن الشرائية في هذه المنطقة التي تعتمد على الزراعة إضافة إلى جودة البصل الذي تقدمه بما يميزه من طعمة حلوة وقشرة قاسية وصلاحية تجعله يبقى من العام إلى العام المقبل من دون ان يفسد.

يقصد البلدة كثيرون من كل المناطق اللبنانية، كثيرون يأتون ليأخذوا مونتهم وفي كل صيف، يعتمدون على “البيارتة”، كزبائن اساسيين لتصريف هذا الإنتاج، إضافة إلى بيع جزء كبير من المحصول للحسبة في صيدا،  وعبر البسطات المنتشرة امام كل منزل وكل دكان. تقول ابتسام ابراهيم إبنة البلدة أن هذا البصل صالح للتصدير ومميز عن كل البصل في مناطق اخرى، مؤكدة أن هذه الزراعة لا يعرف تاريخها، وإشتهرت كفرفيلا منذ آلاف السنين بها بحيث توارثتها أجيال المزراعين عاما بعد عام.

 

السابق
تفجير ذخائر في محيط بلدات جنوبية
التالي
الموسوي: منفتحون بإيجابية على الحوار