الحرب قضت على قانون النظافة العامة.. لماذا لا يعود في السلم

إستبقت الدولة اللبنانية الحرب الأهلية في العام 1975، وأصدرت قانوناً للمحافظة على النظافة العامة بهدف حماية البيئة وعيون أهلها من المناظر الملوّثة والروائح الكريهة، ولكنْ من يُمْعن النظر في سطور هذا القانون الصادر بموجب المرسوم رقم 8735 في 23 آب من العام 1974، يجده بالياً ورثّاً، وكأنّ قذارة الحرب محت كلّ فحواه، من ضمن تشويهها لكلّ شيء كان جميلاً في لبنان.
وتكفي نظرة واحدة على مضمون هذا القانون لتعلو الإبتسامة الوجه، ليس سخرية أو استهزاء، وإنّما لعدم التصديق بأنّ هذا القانون موجود في لبنان مقارنة بواقع الحال، وبما آلت إليه الظروف والأحوال بعد ثلاثين عاماً على وضعه قيد التنفيذ، والعمل به فور نشره في الجريدة الرسمية، على ما يقال عادةً في المادة الأخيرة من القوانين الضرورية والحاسمة، وذلك كدلالة على وجود عجلة في تطبيقها، وإلزامية الأخذ بها كواجب وطني أولّاً، وواجب أخلاقي وإنساني ثانياً.

ولو لم تكن النظافة ضرورية في حياة البشرية والمجتمعات، لما سُنّت لها القوانين وأتبعت بالمراسيم والقرارات، ولما وضعت العقوبات لردع المخالفين، وهي عامة تشمل كلّ شيء، وتصدر عن الإنسان لحمايته، فإمّا أن يكون نظيفاً في تصرّفاته، وملابسه وسلوكياته، وتعاطيه مع الناس، وإمّا أن يكون محيطه الوسخ، نسخة طبق الأصل عنه، ولذلك جرى تحريضه على “إيتاء” النظافة في كلّ تحرّكاته وأعماله بوصفها ” من الإيمان”، لعلّه بذلك يدرأ مخاطر الأمراض وتوابعها عن نفسه، وأهله، وأسرته، وبيئته.

في القانون…
يقول القانون المذكور وبعبارة حازمة إنّه يمنع طرح أنقاض المباني وأتربة الحفريات، والحجارة، والنفايات، والفضلات الزراعية، والصناعية، وطرح السيّارات المهملة والمتوقّفة عن السير في الشوارع والطرقات، ولكنّ جولة واحدة في بقعة جغرافية صغيرة ضمن مدينة بيروت، أو ضواحيها كافة، تكفي لنقض هذا القول النابع من حرص شديد على النظافة وأهمّيتها في بناء إنسان خالٍ من الأدران النفسية والجسدية.
فقلما ترى شارعاً، أو طريقاً خالياً من سيّارات ” الأنقاض” المتروكة بمفردها تواجه حركة الطبيعة، وتحتلّ مساحة لا بأس بها من الطرقات المملوكة من الدولة بطبيعة الحال، وليست ملكاً لأصحاب هذه السيّارات، وتراها البلديات برؤسائها، وموظّفيها، وعمّالها، وعناصر شرطتها “بأمّ العين”، ولا تتحرّك على الفور، لرفعها، أو إلزام مالكيها على نقلها إلى أماكن أخرى تكون مخصّصة لها، ولاسيّما أنّ القذارة لا تقتصر على مشهد هذه السيّارات، بل يطاول الأوساخ المتراكمة تحتها وبداخلها، وكأنّها صارت مستوعباً للنفايات.

وكيفما عَبَرَ المرء الأحياء والأزقّة والشوارع، يقع ناظره على أرتال من فضلات المحال التجارية واللحّامين والقصّابين مكوّمة فوق بعضها بعضاً، بدلاً من العمل على رفعها ونقلها، أو وضع براميل وحاويات أمام هذه الدكاكين والتعاونيات والمحلاّت لاستيعابها فوراً، علماً أنّ هناك من يخاف من هذه الطريقة لاعتقاده بأنّ الناس ستحوّلها تدريجياً، إلى مكبّ للنفايات بمختلف أصنافها الصلبة والسائلة، ممّا يعني ضرورة إقامة “حدّ” التوعية، لتشجيع الناس على عدم ارتكاب هذه الموبقات.

حكم الحفر الصحية
ويحثّ القانون المحكى عنه، على منع تفريغ مياه الحفر الصحّية، والمياه المبتذلة خارج المنازل والمحلّات، أو على شاطئ البحر وحَرَم الأنهار والينابيع، غير أنّ الواقع مختلف تماماً، إذ كثيراً ما يضطرّ الإنسان إلى الإبتعاد عن مياه المجارير و”الشَشْمَة” الراكدة على الطرقات كمستنقعات، وإغلاق أنفه لتجنّب الروائح الكريهة الصادرة عنها لمسافات ومسافات، أو تغيير طريقه لما تتركه في النفس من إشمئزاز وانقباض. وكذلك الأمر عن البحر، حيث يجبر المرء على هجران مساحات لا بأس بها منه، لعدم قدرته على الانسجام معها وهو الخارج من منزله للتمويه عن نفسه، ولنسيان تعب الأيّام، وليس لزيادة حالات التشنّج والقرف.
ويمنع القانون، ترك الحفر الصحيّة مكشوفة، ولكنّ عمّال البلديات يتناسونها في بعض الأحيان بعد حفلة تنظيفها السنوية والثانوية، ليبدو عملهم غير مطابق للنظافة المتوّخاة، وذلك لاعتقادهم بأنّ المواطنين سيعاودون الاتصال بهم لإغلاقها، ممّا يعني وجود “إكرامية” إضافية.

…ولصق الصور أيضا
ويوغل القانون في “ممنوعاته”، فيتناول لصق الصور، والكتابة على الجدران، وجذوع الأشجار، والتماثيل، وأعمدة الكهرباء، ولكنْ نادراً جدّاً ما تخلو الأشجار من التفاف الأسلاك الكهربائية حولها، وكأنّها تحاول خنقها أو إعدامها، ونادراً ما لا تغطّيها اليافطات، فتحجب وريقاتها الخضراء والعابقة بالجمال، ونادراً ما ينجو جدار من كتابات زعران “الميليشيات”، و”قوى الأمر الواقع”، وقبضايات الأحياء الذين تخرّجوا من أهمّ صروح الجهل والغباء.

منع رمي أعقاب السجائر
ويمنع القانون رمي أعقاب السجائر، وقشور الفواكه، والعلب الفارغة، على الطرقات، ولكنّ المخالفين كثر، فثمّة نسوة يختزلن الوقت لانشغالهن بترتيب “صُبْحية” مع الجيران، ويرمين أكياس النفايات من الشرفات إلى الطرقات، غير مباليات بتطاير المواد والمحتويات الموضوعة فيها، وانفلاشها على الأرض لتكون مسرحاً للقطط والجرذان التي صارت على موعد يومي مع هذه الوجبات الدسمة، وتنتظرها بجوع قاتل، فتنقضّ عليها وتستبيحها لتتوزّع الأطعمة باختلاف أنواعها، على الأرض وكيفما اتفق.
ومن لا يرمي عقب السيجارة على الأرض هو الإنسان غير المدخّن، وقد بات من الفئة القليلة في لبنان، من دون الحديث عن النراجيل المنتشرة جماعات جماعات، على الطرقات، وفي الساحات، وتغيير “رؤوسها” ومياهها في مكانها، لتكون أثراً يؤكّد “أنّهم مرّوا من هنا”!.

شروط وضع النفايات
ويصرّ القانون على وجوب وضع النفايات في أوعية مُحْكَمَة الإقفال، ولكن هناك أناس يضعونها في أكياس نايلون رقيقة وشفّافة كتلك المستعملة لاحتواء ربطة الخبز، بهدف التوفير المادي، وهو أمر يتنافى والقانون، فبدلاً من شراء علبة سجائر مضرّة بالصحّة والجيب في آن معاً، يمكن ابتياع حزمة أكياس مخصّصة للنفايات تحول دون فتحها وتبعثرها.
ومن مواد هذا القانون غير المنفّذة بحذافيرها، وتبدو صعبة التقبّل وكأنّ طرحها هو مزحة، تلك التي تتحدّث عن نشر الغسيل بشكل ظاهر في الأمكنة من المباني، ولكنْ يستحيل ألاّ ترى غسيلاً لا يتدلّى من شرفة أو نافذة منزل، أو “سطيحة”، أو مصطبة، خصوصاً في ظلّ انعدام أيّ أثر للتنظيم المدني، وفي وجود عشوائية فظّة في تشييد المباني والعمارات والبيوت، ومن دون تقدير لقانون البناء.

كما أنّ البلديات لا تتقيّد بقانون المحافظة على النظافة العامة لجهة إلزام أصحاب المباني بغسلها ودهانها مرّة كلّ خمس سنوات، وهناك مبان كثيرة لم تر فرشاة دهان منذ بنائها، ولا تزال نسبة مقبولة منها، من دون طرش، وتظهر أحجار الخفّان منها كأنّها “شواهد قبور”!.
ومع أنّ لبنان خرج من الحرب الأهلية في العام 1990، إلاّ أنّ آثارها ونتائجها وتداعياتها السلبية لا تزال تعمّ الأرجاء، إذ كيفما استدار المرء، وقع نظره على ما يخدش جماليتها، ويعكّر مزاجه، والسبب عدم اكتمال جهوزية النظام السياسي الموجود لإقامة دولة حقيقية.
لقد انتهت الحرب، وكثرت التقلّبات السياسية والتوتّرات الأمنية في بلد يعيش على مقياس ومزاجية ومصالح دول أكبر منه، ولذلك يستمرّ الطعنّ بالقوانين في لبنان في أوجهه، وكأنّ بيروت لم تكن في يوم من الأيّام، “مدينة الشرائع”.

السابق
رمي هرّة على صديقات العروس يجلب الحظ!
التالي
مياومو «كهرباء لبنان» يعلنون رفع اعتصامهم