كتاب رغدة النحاس عن الشيخ عارف الزين: جاذبية «الزمن الجميل»

أن تكتب حفيدةٌ عن جدّها، حالةٌ قد تفهم فهماً شخصانيّاً، تمجيداً أو حنيناً، في نظام القرابة القائم في مجتمعاتنا؛ لكنْ في حالة رغدة نحّاس الزين*، حفيدة الشيخ أحمد عارف الزين، تكتسب الكتابة في الموضوع أبعاداً تتجاوز حدود الواجب أو الحنين حيال العلاقة بذوي القربى.

الكاتبة، وهي تُعلن هذه العلاقة منذ البداية، وكحافزٍ شجّعها عليه أستاذها المرحوم محمّد يوسف نجم، تبحر في مشروعها مهمومة بأبعاد ثلاثة أو بالأحرى بهواجس ثلاثة هي “أشرعة” سفينة هذا الإبحار في عالم الشيخ أحمد عارف الزين و”عرفانه”.
1) الذاتيّة، وهي هنا على عكس ما يُعتقد من أنّها تنتقص من الموضوعيّة، فإنّها في خضمّ استقراء النصوص التي تجمعها الكاتبة وتحاكيها، تضيف إلى مطلب الموضوعيّة، شحنات من الصدقيّة في القول ومن الحماسة إلى المعرفة، حيث تختلط الذاكرة الشخصيّة والذاكرة الجماعيّة في محطّاتٍ من التاريخ الموضوعيّ والذاتيّ، يحلو للقارئ أن يتوقّف عندها أو أن يستذكر جاذبيّتها وجمالها، جاذبيّة “الزمن الجميل” في صور الذاكرة وفي استحضارها للماضي من خلال النصوص.
2) البُعد الثاني هو الحسّ التاريخيّ بالزمن المتحوّل، وهو حسّ أشبه بالحدس التاريخيّ الذي ينبئ بمرحلة انتقال من زمن إلى زمن، ومن حالٍ إلى حال، ومن فكر إلى فكر، ومن ثقافة إلى ثقافة. خيار البحث في أفكار أحمد عارف الزين في الدين والسياسة والمرأة والديموقراطيّة والعلم والأخلاق وشتّى شؤون التقدّم وموضوعات “الحداثة” آنذاك، يُمثّل في وعي الكاتبة، خياراً تاريخيّاً لبداية زمن نهضويّ عربيّ وإسلاميّ عامّ، زمن انتقال كان الرهان التاريخيّ قائماً عليه لدى النخب العربيّة. وكان الشيخ عارف الزين وعرفانه بحقّ، أحد رموز هذا الرهان ومادّته. وفي الوعي التاريخيّ القلق لدى الكاتبة، أحمد عارف الزين مرآة لمرحلة تاريخيّة عربيّة تخشى أن تنكسر أو تختفي عبر تعاقب الأزمنة التاريخيّة وتحوّلاتها وباتّجاه التردّي وليس الترقّي، المفردة العزيزة على قلب النهضويّين الأوائل.
3) البُعد الثالث، وهو البعد المحليّ، حيث ارتبط اسم أحمد عارف الزين وعرفانه ومطبعته بصيدا وجبل عامل، حيث كانت بواكير النهضة جنينيّة وحيث أنّ آثار التنظيمات العثمانيّة التي بدأت في عواصم الولايات العثمانيّة، كدمشق وبيروت والقدس وبغداد، لم تصل بعد إلى حواضر جبل عامل وبلداته. صحيح أنّ إعلان الدستور العثمانيّ في العام 1908 كان ذا أثر، إذ ليس صدفةً أن تتأسسّ العرفان في العام 1909، كثمرة من ثمرات الفعل الدستوريّ ووقعه في العالم العربيّ، غير أنّ لتكوين الثمرة تاريخاً آخر؛ ذلك أنّ مناخ الحريّات الذي أشاعه الفعل الدستوري لم يكن إلّا فرصة للتعبير عن مكنون وموجود وحاضر في شخصيّة عارف الزين الثقافيّة، كما تلحظ ذلك الكاتبة فتقول: “العرفان وبالصيغة التي كانت تصدر فيها، كانت تعبّر عن تكوين شخصيّة الرجل”، وتضيف “مجلّة رائدة بمعايير الريادة في تلك الحقبة…، لم يكن ذلك صدفة”، فتسأل: كيف تولد مجلّة رائدة على المستوى المشرقيّ والعربيّ من هذه البيئة الفقيرة والتي كانت من أكثر البيئات هامشيّةً ثقافيّاً واجتماعيّاً في الدولة العثمانيّة؟ كيف تولد مجلّة في صيدا وتنتشر إلى أصقاع البلاد السوريّة والعراقيّة، وتكون على اتّصالٍ سجاليّ ومعرفيّ بالنخب المسيحيّة والمسلمة السوريّة واللبنانيّة، وعلى اتّصال فعّال نسبيّاً ببعض النخب المصريّة وتصل تأثيراتها إلى الحواضر الدينيّة في إيران وبعض أفريقيا المسلمة؟”.
تصدر أسئلة الباحثة عن مقاربة لمنهج متقدّم في التاريخ الاجتماعيّ والثقافيّ وتاريخ الأفكار، منهج يقوم على تداخليّة المناهج وتكاملها. فالأسئلة المطروحة هي مفاتيح معرفيّة لاستيعاب “شخصيّة رجل” وفهم أبعادها، ولكنْ مجدولة سيرته الذاتيّة والمحليّة بحبالٍ تتّصل بأوساط ثقافيّة، إقليميّة وعالميّة، بل إنّ المجلّة لا تصل فحسب إلى تلك الأوساط، وإنّما تتفاعل معها قراءةً وكتابة، أي قرّاءً وكتّاباً. تلك هي الكفاءة الكامنة في “شخصيّة الرجل”. وهنا يُثار سؤال “الهامشيّة”، فهل تكون الهامشيّة (هامشيّة المحليّ) عنصراً مساعداً أم عنصراً معيقاً للإبداع. رأيي أنّ الهامشيّة سيف ذو حدّين، فهي معيقة عندما تكون انعزالاً واستغناءً عن الآخر أو إحساساً خادعاً بالاكتفاء الذاتيّ. أمّا عندما تكون زاويةً أو منصّةً للتفكّر في الذات والآخر، في الأنا والغير، أي في الاختلاف والمغايرة، وفي “الهامش والمتن” معاً، عندها تصبح الهامشيّة حافزَ تجاوز. وأحسب أنّ عارف الزين، كغيره من العامليّين الكبار في زمنه، من أدباء وشعراء وعلماء وكتّاب، انطلق من هذا المكوّن لسيكولوجيّة البحث عن المعرفة، وتحقيق الذات في الإبداع الملتزم.
إنّ مجلّة “العرفان” في ليبراليّتها الجنينيّة وانفتاحها وتعدّد الأقلام والاتّجاهات فيها، كانت لحظة تحدٍّ، تحقّقَ فيها محاولةُ تجاوزٍ لواقع، ومحاولةُ إطلاق أفكار لتغيير “حاضر بائس” وبناء “مستقبل واعد”. إنّها محاولة انتقال من “الهامش إلى المتن”، من متلقٍّ للثقافة إلى منتج فيها.
بل اللافت في “العرفان” اختلافها وتميّزها عن أخواتها كـ”المنار” و”المقتطف”، بتنوّع الأبواب وتعدّد الاتجاهات والتوجّهات، فهي ليست مجلّة ذات توجّه إسلاميّ غالب كـ”المنار”، وليست مجلّة علميّة خالصة كـ”المقتطف”. لقد حاولت “العرفان” عبر مؤسّسها أن تجمع وتؤلّف بين الاهتمام بالثقافة العلميّة والاهتمام بالإصلاحيّة الدينيّة، وبينهما حقلٌ واسعٌ من الاهتمامات بالسياسات المدنيّة والمسلكيّات الاجتماعيّة والأخلاقيّة والتربويّة. ناهيك بمروحة الأدب، شِعراً ونثراً وقصّة.
وبعد أن تستعرض الكاتبة مقاطع واسعة من هذه الحقول والأبواب والدعوات الإصلاحيّة المتنوّعة التي تضمّنتها “العرفان” وكتابات عارف الزين ومواقفه، تتساءل في آخر خاتمة بحثها “ونحن في أوائل القرن الواحد والعشرين: ما هو أثر هذا التيّار الإصلاحيّ العامّ الذي انتمى إليه الزين؟ وهل تخطّت الحركة الإصلاحيّة والتحديثيّة العربيّة الإطار الذي رسمه الإصلاحيّون أوائل القرن العشرين من حيث الإشكالات التي طرحوها والحلول التي قدّموها؟”.
سؤال مهمّ، ولكن تشعرك طريقةُ طرحِه، أنّ الكاتبة قلقة، وتُريدُ أن تَطمئنّ على مدى إنجاز الإصلاحيّين العرب الأوائل لمشروعهم النهضويّ، وعلى مصير هذا المشروع، وأين أصبحنا بعد قرن، أي في أوائل القرن الواحد والعشرين. سؤال مبرّرٌ أيضاً، بعد استعراض الكاتبة للصور الجميلة والدعوات النبيلة التي تضمّنتها صفحات “العرفان” ومقالات صاحبها على امتداد نصف قرن (حتّى 1960). لكنّ الإجابة – تبقى في رأيي – رهن تقلّبات التاريخ وانعطافاته وانقطاعاته، وأحياناً رهن “تكرار نفسه” ومراوحته بين “المأساة والمهزلة” حسب إضافة ماركس على هيغل. فتأريخ الأفكار الذي أنجزت رغدة نحّاس الزين بعضاً من صفحاته الجميلة لجدّها عارف الزين، وبصورة لائقة وأسلوب جذّاب، وعقل مُنظّم ومنفتح، ليس تاريخاً غائيّاً أو حتميّاً، يُستشرف لوحةً بعد لوحة. إنّ ما حدث بُعيد إنجاز رسالة رغدة نحّاس “في أوائل القرن الواحد والعشرين”، من انفجاراتٍ كبرى في المجتمعات العربيّة، اختلف الباحثون في توصيفها، بين ثورة أو انتفاضة أو فوضى، بنّاءة أو هدّامة، هو نوع من مؤشّرٍ لمرحلة انتقاليّة في التاريخ العربيّ المعاصر، سواءٌ عايشنا تبعات هذا الانتقال مآسيَ وتوحّشاً في أماكن، أم آمالاً وأحلاماً جميلة في أماكن أخرى. وكلّ هذا يُنبئ أنّ المشروع النهضويّ العربيّ، وفي شقّه الإصلاحيّ على وجه الخصوص، وفي عناوينه الكبرى تحديداً، كالدولة المدنيّة والديموقراطيّة، والإصلاح الدينيّ والمواطنة والحريّة والعدالة الاجتماعيّة والمساواة، وهي شعارات الإصلاحيّة العربيّة دائماً، لا زال (المشروع) مشروع “قرن طويل” عربيّ ذي أزمات لمدد قصيرة، ساخنة أو باردة، أو متفجّرة. أمّا الانتقال إلى مرحلة جديدة يُؤرّخ فيها للتجاوز أو التخطّي المأمول، فمسألة قيد التفاعل والصراع والانتظار.
ما أنجزته الباحثة في هذه الرسالة، جديرٌ بالقراءة “كذاكرة تاريخيّة” وجديرٌ بالتأمّل والتفكّر كمسار، أي كبداية لدراما عربيّة لم تنتهِ.
* تُوقِّع رغدة النحاس كتابها “الشيخ أحمد عارف الزين: رائد إصلاحيّ من جبل عامل 1884 – 1960”. (دار المشرق ) في جناح مكتبة أسطفان- دار المشرق في معرض بيروت للكتاب- البيال، يوم 6 كانون الأول المقبل، الساعة السادسة مساءً.

السابق
مؤسسة أديان: تجربة رائدة في الحوار والاعتراف بالاخر
التالي
تفجير ذخائر في محيط بلدة طير دبا