معركة ضد الفساد! من يصدق؟

نبرة وزير الصحة وائل أبو فاعور عالية. لهجته متحدية. أدلّته بيده. يعلن الأسماء، يحدد المؤسسات المتهمة بالإساءة إلى سلامة الغذاء، يهاجم من يرفع لافتة التشهير… والمعركة مستمرة، ولكن.

الوزراء الصامتون كثر، النواب الصامتون أكثرية ساحقة، الوزيران المعترضان «يتيمان» علناً، محتضنان سراً، يعلكان كلاماً، ويدور لساناهما بلغة مرتجفة. يتراجعان قليلاً بقهر، ويصمتان إلى أن… ولكن.
والناس في لبنان منقسمون. هذا دأبهم. تداولوا الأسماء، تناقلوها عبر وسائل الاتصال، اختلفوا قليلاً، كأهل السياسة، صدّقوا قليلاً، وهم على حق، فقد يُلدغ المؤمن الطيب من جحر واحد أكثر من مرة. الناس تريد أن تصدّق… ولكن.
سبق أن فُتح هذا الملف مراراً. هيئات المجتمع المدني سبقت الجميع. حدث أن وقع في الفخ، في مداهمات نادرة وغير موسمية، عدد من بائعي اللحوم وموزعي المياه ومفسدي الجسد، ثم… حصل ما هو معتاد. إطلاق سراح وبراءة مزورة. الفساد في لبنان، دين، والذين يمارسون طقوسه أكثرية، ومع ذلك، فهذه المرة مختلفة… ولكن.
أسئلة كثيرة أثيرت هذه عينة: هل هذه معركة جدية؟ هذه البداية تفترض نهايات بحجمها، لتأمين سلامة الغذاء، فهل أجهزة الدولة الفاسدة والمفسدة، قادرة على الذهاب إلى النهاية؟ لماذا أهدى الوزير هذا «الفتح» لسيد المختارة واستند فقط الى وزير من «عائلته» الروحية والسياسية والحزبية، وأين كان يوم كان من هم «عظام الرقبة»، أصحاب السيرة الفاسدة في الأعمال الحكومية والإنشائية؟ أين كان وزراء الصحة السابقون، هل كانوا يعلمون ويتغافلون، وهذا هو الظن الغالب؟ هل أغمضوا عيونهم وأرهبتهم الجيوب السياسية المنتفخة بالفساد؟ هذه أسئلة مشروعة من أناس اكتووا مراراً، بمشاريع إصلاحية عظمى ووسطى وصغرى، وتهاوت فاسدة ومفسدة… ولكن.
كي توضع الأمور في نصابها الموضوعي، لا يبدو أن معركة وزير الصحة، هي معركة ضد الفساد. أفضل ما يمكن أن يتوخاه اللبناني، إذا صدقت النيات واستقوت الإرادات بدرء الخطر عن أجساد اللبنانيين فقط، بعدما تلوثت أرواحهم وبيئتهم وأفكارهم ومواقفهم وسياساتهم وولاداتهم الخ… أفضل ما يمكن أن يحصل اللبناني عليه، هو إقامة محميّة صحية، لحماية غذاء اللبنانيين فقط، لا غير، ولمدة محددة، وهذا أمر إيجابي يتيم في بلد يستولد كل يوم كارثة، ولكن.
قد يخيب الظن ولا نحصل على محمية صحية، وقد تتحقق شكوك الصادقين والمنافقين معاً، فتكون هذه الحملة زوبعة في فنجان. لبنان، سيد التسويات، لا يقف مسؤولوه عن ابتكار الفضيحة ثم لملمتها… ولكن.
المسألة في العمق، قد تفسر أسباب الشكوك، برغم تقدير إيجابيات الحملة، ولو بنتائج ضئيلة ومؤقتة، ومحاربة الفساد، لا يستطيعها أحد. هذه الحرب، لسنا لها. لا مؤهلات ثقافية، أخلاقية، سياسية وقيادية لها.
لا يُعرف بدقة إن كان الفساد في لبنان، أصيل أم دخيل. أي هل هو فساد من نتاج البنية الثقافية والطبقية والإقطاعية والسياسية، أم هو استيراد من أنظمة خارجية، عثمانية، فرنسية، وعربية؟ قيل الكثير عن «سلالة الأولاد» (اللبنانيين) الذين ولدوا على عتبات القناصل. قيل، إن القناصل والسفراء، يستعملون الإغراءات لإيجاد من يتعاون معهم، إلا في لبنان، فإن بعض اللبنانيين يتدافعون على أبواب السفارات والقناصل عارضين عمالتهم الخالصة، لقاء حفنة من نفوذ سياسي، يصرف في تأمين أقصى الأرباح من عمليات الفساد. وقيل إن العثمانيين، منحوا الإقطاعات والأملاك والعقارات لمن كان خدماً لهم، وإن الفرنسيين، وهم في الأصل ليسوا أبرياء، قد أفسدهم اللبنانيون، لكثرة ما تهافتوا عليهم لتقديم خدمات من كل نوع، بما فيها الخدمات الجنسية، لقاء منصب سياسي. ومجموع هؤلاء وورثتهم الخلّص، شكلوا على مدى عقود، سلالة عريقة وصلبة، باتت أقوى من الدولة والنظام والشعب والمؤسسات. وخير صورة تنطبق عليهم اليوم، صورة الطبقة السياسية، القائدة لعمليات الفساد، والحامية للفاسدين والمفسدين، والمؤهلة لهم لاستلام مقاليد الإدارات السخية والدسمة.
أعيان لبنان في الزمن العثماني، حكام لبنان ومعاونوهم في الزمن الفرنسي، حكام ما بعد الاستقلال حتى اليوم، سهروا على أن يكون لبنان مزرعة. ولقب المزرعة أطلقه عبد الحميد كرامي، ثاني رئيس حكومة في عهد الاستقلال، عندما اضطرته عصاميته إلى تقديم استقالته لبشارة الخوري، لأن ما يتم بناؤه، ليس دولة، بل مزرعة.
الفساد في لبنان أصيل في الأساس. هو ليس فساداً عابراً، وليس فساداً مؤقتاً، انه، كما كتب ذات مرة غسان سلامة، «فساد يسير متباهياً عالي الرأس». الفساد، قيمة عليا لدى اللبنانيين، باستثناء قلة، مضادة للفساد، تُتهم بالحمرنة. ولأن الفساد أصيل، لا يقال عن النظام إنه فاسد، بل يقال، إن الفساد هو النظام. لبنان، دولة ذات سيادة للفساد عليه. ويكفي للتدليل ما يؤكد عليه الدستور من حقوق وواجبات، وما تكرسه القوانين لا قيمة له. الدستور والقوانين ليسا مرجعيتين. لا مرجعية، في كل صغيرة وكبيرة، إلا المرجعيات السياسية الطائفية المذهبية، حليفة رأس المال الطفيلي الريعي، الذي قتل الإنتاج الزراعي، وخصى الإنتاج الصناعي، ومنع تطوير مكتسبات العلوم في إنتاج علمي تقني ورقمي.
كسب التجار معركة نظام لبنان الاقتصادي. كما كسب الأعيان و«أصحاب لبنان» معركة تسيير لبنان، وفق منطق الصفقة. يقال الكثير عن أسباب عدم إقرار الموازنات منذ ثمانية أعوام، فالإنفاق من خارج الموازنة أكثر ريعاً: الصرف يتم بالتوافق. إن صرف مبلغ لفريق، يلزم أن يصرف مبلغ مقابله لفريق آخر.. 8 و14 آذار متفقان في ذلك ولا حرج.
أما المحيط العربي، الملكي والجمهوري الديكتاتوري، فمدرسة في تعميم الفساد. الديكتاتور يريد أتباعاً، إما بالقهر أو بالمهر (المال). في الزمن السوري نسبت عمليات الفساد للسوريين. خطأ. الشراكة كانت مؤمنة، وقيل في شكل مزاح جدي: «فساد واحد في بلدين». الطبقة السياسية آنذاك تذللت فانذلّت. أما الأنظمة الملكية فهي صاحبة الريادة في تأمين الأرباح الفاحشة في غفلة عين.. اللبنانيون الذين تخرجوا أثرياء في الخليج، كثر جداً، منهم من نال إلى جانب الثراء الحظوة السياسية، فأضحى وزيراً أو نائباً أو رئيساً أو… زعيماً.
معركة وزير الصحة، ليست بشارة لربيع لبناني. هذه معركة صغيرة جداً وخطيرة جداً. زمن المعارك الإصلاحية، بعيد جداً، وهذا أخطر بكثير.
بتفاؤل وشكوك، نتابع معركة وزير الصحة.

http://assafir.com/Article/18/384468

السابق
الدوري الـ55 بكرة القدم: الطقس ارجأ المباراة
التالي
ريفي:الحكم بالاعدام في حق الموقوفين الاسلاميين خفض إلى المؤبد