منح الصلح … البيك الوطني والعروبي الذي سار على نهج التقية

منح الصلح
مقتطف: لم يركب الموجة. بقي كما هو ولم يتغير. عاطفيا وسياسياً لم يكن موافقاً على الانقسام السياسي الحاصل بعد إغتيال الحريري، لكن بأسلوبه المرن كان مراعياً لحزب الله ويعتبر أنّهم يمثّلون شرعية كبيرة، ويحرص في الوقت نفسه على صداقة العلّامة السيد محمد حسن الأمين. بورتريه عن منح الصلح مقال موقع "جنوبية” بالتعاون مع مركز "تطوير”للدراسات بنشره من ضمن أبرز المواضيع الواردة في التقرير الخامس للمركز (حلقة النقاش الرابعة).

“أي مشروع سياسي في لبنان لا يحظى بقبول المسلمين والمسيحيين معاً هو مشروع فتنة”، شعار رفعه المفكّر اللبناني والعربي الراحل منح الصلح وكان بمثابة بوصلته التي لم يحد عنها على مدار 87 عاماً. غير أنّ إيمانه العميق بصيغة الميثاق اللبناني الذي يُعدّ حجر الزاوية في الحفاظ على علاقات الطوائف الدينية المختلفة، ضمن إطار الكيان اللبناني لم يشغله عن قضية فلسطين بشكل خاص والعروبة بشكل عام، اللتين جاهر بالدفاع عنهما بشغف وإصرار في حين أثر تمرير إنتقاداته اللاذعة إلى الطبقة السياسية في لبنان وإلى النظام السوري بعد إتفاق الطائف بكياسة مبطنة، ما جعله أنموذجاً في “التقية”.

لم تحبط الحرب الأهلية اللبنانية التي قسمّت مدينة بيروت إلى منطقة شرقية وغربية منح الصلح الذي كان يجد في الميثاق الوطني الركيزة الأساسية لاستمرار الكيان اللبناني. فلبنان وفق فلسفته لا يقوم الإّ بجناحيه المسيحي والمسلم، فهو لم يوفر جهداً او مناسبة الاّ واعرب فيها عن أهمية وحدة لبنان، واحترام خصوصيته وعروبته. ما بين عام 1985 و1986، تحوّل منزله في بيروت إلى صالون سياسي ضمّ مجموعة من الشخصيات اللبنانية بينها عصام نعمان والشيخ رشيد القاضي، هاني فاخوري، جهاد الخطيب، بهاء عيتاني، جميل ملك، معن زيادة، بشارة مرهج، الشيخ عفيف خضر، والعلامة السيد محمد حسن الأمين.

صالون سياسي كان ينعقد بشكل أسبوعي وأرتاى اعضاؤه أن يطلقوا عليه إسم “اللقاء الوحدوي” للتأكيد على أهمية وحدة لبنان، في وقت كانت بيروت مقسّمة والمتاريس تفصل جسمها الغربي عن الشرقي. أمّا العنوان العريض الذي شكّل سقف هذا اللقاء “أي مشروع سياسي في لبنان غير موقّع من المسلمين والمسيحيين فهو مشروع فتنة”، وهو ما اتخذه الصلح شعاراً وأمن به بقوة. غير أنّه في تلك الفترة لم يكن هناك أي إمكانية للتواصل مع الشطر الآخر في المنطقة الشرقية بفعل الإنقسام السياسي الحاد والمتاريس، إذ أقتصر الأمر على التهاتف مع أعضاء الحركة الثقافية في أنطلياس، ونجح “اللقاء الوحدوي” عام 1988 باستضافة النائب الشيخ بطرس حرب، حيث جرى عرض للافكار. بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989 وفتح المعابر التقى أعضاء”اللقاء الوحدوي” بنظرائهم في الحركة الثقافية في انطلياس وفي طليعتهم عصام خليفة وانطوان سيف في منطقة المتحف. وولدت فكرة إنشاء مؤسسة ثقافية فكانت “دار الندوة”.

وفي حرب الإلغاء التي جرت بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع أطلقت “دار الندوة” شعار “من أطفال الغربية الى أطفال الشرقية”، وتحوّل هذا الصرح الثقافي الى مكان للتبرّع بالدم، وتم تسليم العينات الى المطران ابي نادر والصليب الاحمر اللبناني في حينه. بعد فتح المعابر، بات اللقاء يعرف بإسم “اللقاء اللبناني الوحدوي”، وبدأ ينعقد في حضور شخصيات من المنطقة الشرقية ومن أبرزها الاب انطوان ضو والدكتورة صونيا ضو(الكتلة الوطنية) . لكنّ الحضور كان بصفة شخصية وليس حزبية، فالجميع وضعوا إيديولوجياتهم السياسية خارجاً، بهدف ضمان الحفاظ على الصيغة الميثاقية التي كانت أساس نشأة لبنان.

وعلى رغم الدور الرائد الذي لعبته “دار الندوة” في تعديل المزاج العام، الا انّها لم تتوصل الى ان تكون صاحبة قرار ولم تستطع تغيير اي معادلة سياسية. وبالانتقال إلى القضية الفلسطينية، التي سكنت وجدان منح الصلح، يُسجَّل له دور إستثنائي في حفظ طريقة مقاربتها ولا سيما بعد إتفاق الطائف.كان الصلح يحرص على مسألة الشرعية الفلسطينية، وعلى رغم انّه يعترف بوجود اطراف فلسطينية أخرى ولكنّه كان يرى أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الأساس، ويحرص على دفاعه عنها رغم أن هذه المسألة كانت من المحظورات في تلك الفترة بعد حرب المخيمات. فالشعب الفلسطيني يحتاج ان يكون له قيادة تيّسر شؤونه في لبنان، ومنظمة التحرير كانت ضرورة، أمّا الإسلاميون فيجب تفهمهم، وبالتالي فقد عارض بشدة محاولات سوريا لخلق إطار بديل عن منظمة التحرير، بعد ذهاب الزعيم ياسرعرفات في خيار إتفاق أوسلو ومحاولة الرئيس الراحل حافظ الاسد تطويق أبو عمّار.

ولم يستطع الصلح هضم “الاتفاق الثلاثي” الذي رعته دمشق وأثمر اتفاقاً على انهاء الحرب عام 1985 بين ثلاثة أطراف حزبية هي “القوات اللبنانية” وحركة “امل” والحزب “التقدمي الإشتراكي”.عندما بدأ تسويق الاتفاق الثلاثي وجد صعوبة في امكان السير بهذا المنحى، لانّ هذه الصيغة في نظره لا تعبّر عن مستقبل لبنان، لكنّ النظام السوري قرر المضي فيها. لم يكن هناك استحسان لوجهة نظره. بعد اتفاق الطائف لم يكن له حظ في أن يكون في موقع السلطة، كان يتلقى رسائل تهديد مبطنة ضمن حدود معينة، لكنّه فهم هذه المسألة وعالجها بطريقته الخاصة. عام 1996 رغب في الترشح للنيابة ، كان على وشك تقديم ترشيحه عن الدائرة الثالثة في بيروت.

سمع الرسالة من السوريين: لا مكان لك في البوسطة ، فعزف عن ذلك. كان منح الصلح يعبّر عن آرائه السياسية من خلال كتاباته لكنّه يحرص على البعد عن التفاصيل اللبنانية. كذلك لم يكن في محور الممانعة، فهو لطالما تحدث باستمرار عن دور مصر وريادتها، وكان يكتب افتتاحية الحوادث ويوقعها باسم كاتب عربي على مدار اكثر من 20 سنة، ومن خلال مقالاته كان يعتبر أن مصر هي الاساس، ما كان يؤثر الكثير من الأنظمة العربية. وكان يرى أنّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري محكوم بالشروط التي أتت به إلى الحكم وليس في إمكانه ان يفعل اكثر مما فعل، وبدا أنّه يتفهم وضع الحريري ويراعيه، فهو يعبّر عن رأيه بشيء من “التقية” في نظر الدائرة الضيّقة المقرّبة منه. وعندما يشتد الضغط عليه كان ينقل النقاش إلى مكان أخر. فعلى سبيل المثال، وبعد إغلاق دار الندوة عام 1992، وإعادة افتتاحها قرر الابتعاد قليلاً عن السياسية وحوّل النقاش إلى المسائل الفلسفية.لم يركب الموجة. بقي كما هو ولم يتغير.

عاطفيا وسياسياً لم يكن موافقاً على الانقسام السياسي الحاصل بعد إغتيال الحريري، لكن بأسلوبه المرن كان مراعياً لحزب الله ويعتبر أنّهم يمثّلون شرعية كبيرة، ويحرص في الوقت نفسه على صداقة العلّامة السيد محمد حسن الأمين. فكرة المؤامرة لم يقبضها كثيراً. عندما يريد تجنّب الاحراج كان يأخذ الموضوع على محمل المزاح بأسلوب القفشة الذي عُرف عنه. وعندما تطرح امامه فكرة لا يؤيدها او يعارضها بشدة، يكتفي بداية بالاجابة بأنّها فكرة “كويسة ومفيدة” وقد تصل معه في النهاية الى إلغائها، اذا لم تكن تحمل النفس الوحدوي. الربيع العربي لم يكن بعيداً عن حسابات الصلح، إذ لمس بذوره في بنية الأنظمة العربية التي تعيش على وكالات خارجية ممنوحة لها وليست محصنة من الداخل.

فالثورة السورية وفق ما يستشف منه هي تعبير ورفض للواقع، لكنّه كان يدرك أنّ الامور في سوريا كانت تتجه نحو أزمة طويلة الأمد، طالما أنّ النظام السوري ليس قادراً على الحسم، ولا المعارضة قادرة على ان تستلم الحكم. فالمعارضة بنظره لم تبلور مشروعها. ويبقى الحل في المنطقة العربية بالسير على هدى الإعتدال وليس بالحديد والنار، والمطلوب تفهم أسباب ما يحصل اولاً ومعالجة الامور ليس وفق نظرية المؤامرة. مصطلح التكفيريين لم يستسغه، لأنّه يحمل في ثناياه غايات سياسية، ويرى أنّ مد “الإخوان المسلمين” طبيعي لكن الأقليات لا يحميها الاّ الانخراط في المشروع الوطني العام، وليس بالمعنى العروبي الالغائي.رحل منح الصلح ولم يتسن له ان يبصر براعم عروبة متنوّرة متحرّرة لطالما صدحت حنجرته بها ونظّر لها، رحل “المفكر العروبي” وفلسطين لا تزال جرح العرب النازف، رحل “البيك “عن وطن لا يزال يجترّ أزماته السياسية وعن طبقة سياسية لم يدخل في ناديها لرفضه منطق المساومات والتسويات و”الشطارة اللبنانية”.

السابق
نهايات غريبة جداً لعباقرة العالم !
التالي
أوباما: الفجوة ما زالت كبيرة في المفاوضات النووية مع إيران