مجاهدو الفتاوى وكسرُ ’بيضة الإسلام’

جبهة النصرة

شهد العالم العربي الإسلامي في العقد الأخير ظاهرة انتشار وتفاقم الفتاوى السُنيِّة والشيعية، كمَّاً ونوعاً، حيث طاولت كل تفاصيل حياة المسلمين، الاجتماعية والدينية، وبدت في حدتها خارجة عن كل قيد وحدود، لا سيما بما تكشفه عن علاقة ملتبسة بين الديني والسياسي، يهدد أمة بقوامها وجماعاتها.

في «جدليّات السُلطة والفتوى عشِيَّة ثورات الربيع العربي» (دار الطليعة ـ الطبعة الأولى ـ 2014) يتناول الدكتور خليل أحمد خليل في بحثه بعض أوجه الفتاوى الدينية، من عقائد وإيمانيات وعبادات ومعاملات، من اجتماع وسياسة وأخلاق وثقافة، وحتى التوافه المُستهجنة على هامش حياة الإنسان المسلم. وعلى قدر إيمانه ويقينه بمخاطر فوضى الإفتاء التي سبق للكاتب فؤاد مطر في مؤلَّفه «ألف فتوى وفتوى: مسلمون في مهب فوضى الفتاوى» (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2010) معالجتها في عمل توثيقي وتحليلي استغرق منه أعواماً، لا يخفي خليل توجسه من الانكسارات التي تهدد الإسلام الجامع والحاضن للوعي العروبي الموحِد للمسلمين سُنَّة وشيعة.
يعتبر صاحب «سوسيولوجيا الجنون السياسي والثقافي» أن الإسلام المخطوف من أهله، بعد تعطيل العقل فيه، «عقل القرآن»، تتناوبه «عقلية اختلاطية»، حيث جرى إدغام الفتوى والسلطة معاً، بشكل غير مسبوق تاريخياً، وإحلال أسطورة الفتاوى مكان القوانين بهدف توطيد أو تبرير السلطة القَبَليّة التي يمارسها الحكّام العرب.
ينطلق خليل من فرضية أساسية مؤادها أن العنف الإسلاموي المنسوب خطأً إلى إسلام القرآن والسُنَّة، يصوغه وينشره مُفتون أو فقهاء في حياة العرب الاجتماعية ـ السياسية، يجيزون لأنفسهم إعمال جرعة من «العنف الإسلامجي» يتعدى كثيراً السياق القرآني والعقل الوضعي للقوانين الحديثة، ويستولد حركة انتهاك تستبدل عقل القراءة القرآنية بأسطورة حرب إسلاموية.
يختار صاحب «جدلية القرآن» بعضاً من نماذج الفتاوى الواردة في كتاب فؤاد مطر المذكور أعلاه، محللاً سياقها، غير أن عمله الجديد لا ينحصر في البنية التحليلية للفتوى غُب الطلب، إذ يدرسها من منظار ما يُطلق عليه «فقهُ اللامعقول» الذي شكل خلفية توهيمية، سياسية ـ دينية، منذ الغزالي وابن تيمية لشبكة قراءات، حالت دون نهوض عقلية علمية في عصرنا. وعلى إيقاع «فوضوية المخيال الإسلامجي» تناحر المسلمون المعاصرون بما يهدد هويتهم الدينية، ما أنتج ـ كما يستنتج المؤلف_ مسارين مزدوجين: تفكيك صورة إسلام تاريخي (سياسي)؛ وإعادة تركيب ثقافي لإسلام آخر، شديد التسوُّس. لكن الخلاصة الثانية الأهم التي يخرج بها قوله: «إن مجال الإفتاء الإسلامي ما انفكّ يتطور، يتمدد وينطوي على ما هو خاص وعام في حياة المسلمين» وهو يستند «إلى إسلام شعبوي/ تعبوي أو جهادي تحريضي (قتالي) بحيث يتلابس فقه الأصول مع فقه الأحداث والمسائل الطارئة».
بعد محاولة التعريف والمقارنة بين الفتوى والقانون، يخلص خليل إلى أن المفتين الذين يشكلون «مجموعات ضغط» يستندون بفتاويهم إلى جماهير عديمة الثقافة العلمية أو أُميّة، حيث لم يكن قانون الدولة سوى شأن خاص بجهاز قضائي، أو بهيئة اختصاصيين، وخلافاً لسلطة القوانين، سيقوم عقل الفتوى بخدمة رجال دولة مكتوب عليهم أن يواجهوا الأزمات السياسية الناجمة عن الحروب والنزاعات والهزائم. إزاء هذا المزج الحاد بين الديني والوضعي وغلبة الفتوى على القانون نصبح أمام دستور ديني، ونتيجة تضخم تسيِّس الفتاوى عند السُنَّة والشيعة، يتم التأسيس الرسمي لأمتين مسلمتين: إسلام سُنِّي أكثري وإسلام شيعي أقليّ، بما يتضمنه من عامل أخطر، أي انطواء هذا التأسيس الإفتائي السلطاني، على تكفير ضمني أو علني لكلٍ منهما.
لا تقتصر المقاربات على خطورة التكفير الإفتائي «الإسلامجي» وضفافه وروافده فحسب، بل يتعقب الكاتب الفتاوى المُصنَّعة من كل لون: الليبرالية والمتشددة، المحافظة والحديثة تبعاً لموضوعاتها والحدث السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يفرضها.
تصل فتاوى المفتين إلى «نساء الإسلام» المقهورات والمقموعات تحت وطأة الفقه الذكوري/ الأبوي الذي يستبطن قهراً فقهياً في «الوهْب النسائي» الذي له جذوره وعمقه الديني والمجتمعي والثقافي، بما يبرهن عن حال التضاد بين الأنثوي والقدسي، فيغدو أشد قمعاً كلما تمادى الحراك النسائي في احتلال المجال العام، ما يعزز الإدمان الفقهي على تعنيف المسلمات المستهدفات الخارجات إلى الضوء.
في ظل انشطار خريطة جهادي الفتاوى بين الجُنوسة (Sexualité) وحروب إلغاء الآخرين، يتحدث صاحب «نقد العقل السحري» عن طغيان «الفكر الإيهامي» على المجتمعات العربية الإسلامية بقوة الفتوى الدينية حيناً، والقَبْلَنة العربية، ودَوْلَنة الطغيان حيناً آخر، ما أفضى بسبب «الإفتاء السلطاني» إلى تشكيل سلطات متنازع عليها، يتغالب فيها الدين والدولة، ويُشرعن الاستبداد الشرقي وأنظمته البقائية غير القابلة للإصلاح على حد تعبير الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في حواره المهم مع الباحث الفرنسي فينسان غيسر (راجع: طغاة معفيون من الخدمة: ثأر الشعوب العربية، تعريب خليل أحمد خليل، دار التوفيق، 2012).
يرى الكاتب أن الفتوى التي يدَّعي صاحبها أنه ذو قوة كلامية إلهية، إنما تضطلع بالدور اللفظي لقانون يمكنه أن يشكل في المخيال المسلم دولة سماوية؛ دولة شراكة بين الإنساني والإلهي؛ فالأمة التي يتخيلها المُفتون مجردة من مرجعية سياسية ـ دينية واحدة، أو قابلة للتقريب والتضامن، هي اليوم ضحية وأكثر من أي عصر سابق لهدم بنيوي بلا حدود.
يتساءل صاحب «التراث العربي من التراب الى ناطحات السحاب» ماذا يعني تذرير الإسلام من داخله بقوة الفتاوى المتشددة بدل إرساء ثقافة إنسانية تكافلية، إيلافية واعدة في هذا المدار الكبير من مدارات جغرافيا الحضارات؟ يصل إلى خلاصتين: الأولى، أن ثقافة المسلمين العرب وغير العرب، مُنيت بقصور طوقي شديد ومُصابة بحَصْرٍ عقلي يحيل الثقافي على لفظي، ويخفض الظاهرة الإنسانية إلى بنية مغلقة مضادة للنمط العقلي العالمي؛ الثانية، الفتوى المُسيَّسة، الممولة سلطانياً، تُشوه الثقافات أو المثاقفات العربية والإسلامية، ذات التوجه العلمي العالمي، في مسعى جاد للمشاركة في لعبة العولمات الرامية إلى كسر بيضة الإسلام في عقر دارها.
على وقع «الإسلام القرآني العقلاني» المحاصر بـ«الإسلام الإفتائي الإقصائي» تشتد وتيرة فتاوى التمذهب التي عالجها خليل ضمن رؤية علمية تبين تداعيات الرهان على لعبة المذاهب التي آلت إلى تأطير مجتمعات مذهبية متجددة بقوة الطغيان السياسي؛ فهل لا يزال المسلمون أو «المؤمنون المتمذهبون» ـ كما يسميهم ـ قابلين للوصف سياسياً بأنهم أخوة؟ إن شيطنة المسلم الآخر تعني الترخيص بقتله واغتياله بكل وسائل القتل المتوافرة، وهكذا يجري خفض الأخ المسلم، المؤمن المختلف إلى «أنت قاتل» حسب عبارة المحلِّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (1901 ـ 1981).
في الختام يضعنا خليل أحمد خليل أمام المعادلة الآتية: من الآن فصاعداً، من الضروري أن يُقاس حفظ الإسلام بتطور المسلمين علمياً، لا بفتاوى السلاطين، وأن يُقاس تطور العالم العربي وتقدمه بالمبدأ الأنثروبي، مبدأ الاستمرار الإنساني عبر التطور، خلافاً للعبة التحجر أو التحجير التي تمارسها السلطة والفتوى بوهم «إسلام» ما.
تكمن أهمية هذا البحث بأنه يضع إسلام العرب وغير العرب أمام العواقب المترتبة على معالجة الأزمات السياسية والاجتماعية والمذهبية بكاتم السَّتْر المزدوج السلطاني/ الإفتائي، ما يجعل عالم المسلمين على تعددهم القومي والعرقي في صلب إيديولوجية الهدم التي فارقت بصلابتها «الإسلام القرآني» الذي يدعو إلى القرابة المسلمة كما عبَّرت عنها الآية القرآنية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (سورة الحجرات، الآية 10).

http://www.assafir.com/Article/18/370958

السابق
«السبت الأسود»!
التالي
سياسة القضم التدريجي لأراضي الضفّة الغربية:الضرر الدولي