من يهددّ السلامة العامّة في لبنان؟

لا يفارقك ليل نهار، وإن حصل أن ابتعد عنك للحظات معدودات، تغرق في دوّامة الضياع والعذاب. تعلّقك به وحبّك له يجعلانك تضمّ فرداً آخر إلى عائلتك، فتصبحون ثلاثة تتشاطرون اللحظات السعيدة والحزينة معاً. هو بالنسبة إليك لحاجة ملحّة وضروريّة، هوسك به جعلك تقدّم شبيهه لطفلك، فأدمن بدوره عليه. هو الهاتف الخليوي الذي تستعمله من دون أن تدرك أبعاده و مساوءه ومخاطره على صحّتك!

الهاتف الخليوي ظاهرة؟
بعد خروج لبنان من الحرب الأهليّة، لوحظ أنّ البنى التحتيّة قد أصيبت بدمار شامل. وفي حين لم تكن مبادرات الإصلاح تلوح في الأفق، اقتحم الهاتف الخليوي حياة اللبنانيين عام 1994، وشقّ طريقه إلى النّجاح. فعوضاً من إصلاح الهواتف العامّة المتضررّة من الحرب، زرعت شبكة خليويّة في لبنان لتسهيل عمليّة إجراء المكالمات والتواصل. ففي صبرا وشاتيلا، مثلاً، قام أحد الأفراد بشراء خليوي واحد يتمّ استخدامه من جميع سكّان المخيّم. وفي المناطق اللبنانيّة الأخرى، كان لكلّ منزل جهازه الخليوي الذي يتشاجر أفراد العائلة لاستخدامه. في ظلّ الإقبال الشديد عليه، احتكرت بعض المحال التجاريّة هذه السلعة وتلاعبت بأسعار الوحدات وأسعار الأرقام المبيعة، فظهرت تالياً موضة الـ second hand أو السلع “المستعملة” التي كانت مبيعة خصوصاً في سوق الأحد، حتّى أصبح الهاتف الخليوي في متناول أغلبيّة اللبنانيين. في ذلك الوقت، كان للـ missed calls نكهة خاصّة، وللرسائل المتبادلة في الليل طعم آخر! مع الوقت، أخذ الهاتف الخلوي حيّزاً في حياة المواطنين حتّى أصبح اليوم، بفضل ظهور الهواتف الذكيّة، خير جليس وأنيس! ترى اللبنانيين في المقاهي، أثناء القيادة، والمنزل أيضاً منشغلين بهاتفهم الخليوي: فيعتقد البعض أنّ اللعب بالخليوي، أو مراجعة الرسائل، أو الدردشة على الـ whatsupp في الأماكن العامّة وبرفقة الآخرين قلّة أدب من المستخدم لأنّه يهمّش الآخرين على حساب هاتفه. كما ويعتبر الخليوي وسيلة للكذب، إذ بإمكان المستخدم إخفاء الحقيقة على المحاور والتلاعب به، خصوصاً أنّه عاجز عن رؤية تصرّفاته عند كتابة الخبر. فضلاً عن ذلك، هو وسيلة للتعارف، للمعرفة وللترفيه، تتوافر فيه شبكة الانترنت، الكتب الإلكترونيّة والألعاب، إذ أصبح يُغني عن الكومبيوتر. أمّا بالنسبة إلى الاختصاصيّة في تحليل السلوك الشخصي منى كنج، فهي توضح لـ “النهار”، أنّ سبب تعلّق اللبناني بهاتفه الخليوي يعود إلى أسباب عدّة أهمّها المعطيات، أي الداتا data التي يدخلها المستخدم إلى هاتفه كالصور، أرقام الهواتف، كتبه… و يعتبر الخليوي وسيلة سريعة تساعد اللبناني في حصوله على جميع المعلومات التي يحتاج إليها بنفسه، دون مساعدة أحد، وخلال وقت طويل، ممّا يجعله أكثر استقلاليّة. إلاّ أنّه يعززّ انعزال اللبناني عن المجموعة في المقاهي والأماكن العامّة بسبب التطبيقات المتنوّعة التي يحتوي عليها، والتي تجعل المستخدم مدمناً عليها. والأهمّ من هذا كله، أنّ استخدام الخليوي اليوم لم يعد حاجة، بل أصبح وسيلة للتباهي أمام الآخرين: استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل سريع ومباشر من طريق الهاتف ونشر الصور ومواقع التواجد ومشاركة الـ posts في الفايسبوك والانستغرام، شراء أحدث الهواتف الذكيّة وأجمل مكمّلاتها، جميعها تعبّر عن رغبة اللبناني في تحدّي الآخر، ومنافسته والتباهي بهاتفه. ولكن أيدرك اللبناني أنّ تعلّقه المفرط بالخليوي له آثار جانبيّة على صحّته؟

هل يشكّل الهاتف الخليوي خطراً على صحّة اللبناني؟
يكمّل الطبّ نظريّة علم الاجتماع وعلم النفس، ليأتي ويظهر مخاطر الهاتف الخليوي على صحّة الإنسان. فهو يسبّب آلاماً في الرأس، اضطرابات في التركيز، طنين في الأذن وآثاراً سلبية على الدماغ…هذا ما تؤكّده الدراسات التاليّة:

• يحدث الهاتف النقّال أوراماً سرطانيّة:
أثبتت دراسات عدّة أنّ الهاتف النقال يسببّ أوراماً سرطانيّة. الدراسة الأحدث كانت لجامعة بوردو الفرنسيّة في أيّار 2014، هدفت إلى اكتشاف الرابط الجامع بين التعرّض إلى الهواتف الخليويّة والإصابة بالأورام السرطانيّة في الجهاز العصبي الأساسي (الأورام الدبقة والسحائيّة). استغرقت مدّة الدراسة عامين )2004 إلى 2006 .(تمّ الاستعلام من خلالها عن طريقة استخدام الهاتف الخليوي عبر استطلاع أجاب عنه جميع المشاركين شفهيّاً. و بيّنت النتائج أنّ الاستعمال المفرط للهاتف الخليوي يولّد أوراماً سرطانيّة. جاءت هذه الدراسة لتأكيد نتائج بحوث سابقة من بينها بحث قد نشر في الـ Journal International d’Oncologie في 24 أيلول 2013، وهو يؤكّد أنّ الترددات الراديويّة (الإشعاعية) التي تبعثها الهواتف الخليويّة تساهم في تعزيز تشكّل الأورام السرطانيّة وتطوّرها.

• يؤثّر الهاتف النقّال في نشاط الدماغ:
في 4 أيلول 2013، نشرت دراسة في المجلّة العلميّة neurophysiology clinic تثبت أنّ التعرّض للإشعاع 4G (وشقيقاته) التي تبعثه الهواتف الخليويّة لمدّة نصف ساعة، يضرب حركة الدماغ ونشاطه. لقد تمّ قياس حالة استراحة النشاط الدماغي بواسطة التصوير بالرنين المغنطيسي مرّتين بعد تعرّض المتطوّعين لإشعاع التعرّض اللاسلكي LTE أي الـ 4G، ثمّ مرتيّن بعد التعرّض له بطريقة مجازيّة. وقد أظهرت الدراسة أنّ إشعاع الـ 4G يؤثّر في نشاط جميع الخلايا العصبيّة في الدماغ. فالتعرّض المفرط لهذا الإشعاع يؤدّي إلى أضرار في السائل المنوي للرجل، زيادة كميّة سكّر الجلوكوز في الدماغ، ترققّ العظم، الإجهاد الوراثي، ضعف الجهاز المناعي. كما ويسببّ الإصابة بالألزايمر، سرطان الثدي وسرطان الدماغ.

• الهاتف الخليوي يؤثّر في الذاكرة والمنطقة المخصّصة للمذاكرة في الدماغ:
إنّ الدراسة التي تدعى Brain proteome response following whole body exposure of mice to mobile phone or wireless DECT” base radiation” التي نشرت في Electromagnetic Biology and Medicine عام 2012، توضح أنّ مناطق متخصصّة بالدراسة والذاكرة في الدماغ، كانت قد تأزّمت بسبب الموجات الصغرى التي تصدرها الهواتف الخليويّة. فقد تضرّر 148 بروتيناً في الدماغ خلال ثمانية أشهر جرّاء الاستعمال اليومي للهاتف الخليوي. فتظهر على المستخدم عوارض كوجع الرأس، الدوخة، اضطرابات النوم، الأورام، وقد يصاب المستخدم أيضاً بالألزايمر.
أمّا بالنسبة إلى الدكتور عدنان عواضة، وهو أستاذ محاضر في جامعة القديس يوسف ورئيس قسم الأمراض العصبيّة في مستشفى أوتيل ديو، فيصرّح لـ “النّهار” أنّه حتّى اليوم “لم تصدر عن أي دراسة نتائج موثوقة تؤكّد وتثبت الآثار الجانبيّة للهواتف الخليويّة على الدماغ”، لذلك لا داعي للقلق.

الخوف على الأولاد:
يوضح رئيس قسم الأطفال في مستشفى القديس يوسف ونائب رئيس الجمعية اللبنانيّة لطبّ الأطفال الدكتور برنار جرباقة لـ “النّهار”، أنّ الأولاد يتضرّرون بشكل أكبر عند استعمالهم الخليوي. فالموجات التي تنبثق من الهاتف تخترق بقوّة وبعمق دماغه الصغير الذي لا يزال في طور النمو، فيؤثّر في سمعه ونمو دماغه. إلاّ أنّه ما زالت هناك شبهات حول تأثير الخليوي على نمو الطفل والأضرار الصحيّة التي يسببّها له، لذلك ينصح الدكتور جرباقة الأهل بعدم إعطاء الهاتف الخليوي للأولاد كلعبة لهم، فالهاتف الخليوي حاجة وليست وسيلة للتباهي أو اللعب. ويشرح الدكتور جرباقة أنّ جميع الوسائل الإلكترونيّة تنمّي سرعة البديهة عند الطفل، فضلاً عن الكتب والمجلّات التي تحوّلت إلى نسخ إلكترونيّة، فيصبح الخليوي تالياً وسيلة للتعامل، والتخابر والتعلّم. من هنا على الأهل اختيار الوقت الذي سيعلّمون فيه أولادهم على الاستعمال التدريجي للهاتف، لا للتباهي، إنّما للحاجة فقط، وذلك ما بين العشر والـ15 سنة (بحسب الحاجة). ويضيف إلى ضرورة وضع مكبّر الصوت لإجراء المكالمات الهاتفيّة.

للحماية من خطر الهاتف الخليوي:
لتحمي نفسك من خطر الهاتف الخليوي عليك باتّباع النصائح التاليّة:
• لا تسمح لطفلك باستعمال الهاتف الخليوي قبل اكتمال نموّ جسمه أي عند بلوغه الـ 18 سنة.
• لا تضع الهاتف الخليوي في غرفة الأطفال، وعند الضرورة أبعده عن رأس الرضيع أو الطفل.
• اجعل مسافة بينك وبين الهاتف تبلغ نحو 20 سنتيمتراً.
• لا تضع الهاتف على مقربة من جسمك، أبعده خصوصاً من القلب، الوركين، المناطق التناسليّة والدماغ.
• استخدم لإجراء المكالمات، سمّاعات الأذن أو ضع مكبّر الصوت .
• لا تنم وأنت قرب الهاتف، اجعل مسافة 50 سم بينه وبين رأسك.
• عندما يكون الإرسال ضعيفاً، استخدم الـرسائل القصيرة SMS للتواصل، لأنّه في هذه الحالة يتضاعف الخطر أربع مرّات.
• لا تجرِ إتّصالاتك في السيّارة أو الباص، لأنّ الموجات ستتكدّس وتصبح أكثر خطراً على صحّتك.
في حال استمرّ الأمر على هذا المنوال، فلا شك في أن إدمان الهواتف الخليويّة سيصبح كإدمان المخدرات والكحول، أي مشكلة اجتماعية خطيرة يكون لها انعكاساتها السلبية وآثارها الجانبية في المجتمع، ما يستدعي من المعنيين دق ناقوس الإنذار.

السابق
المشرق… مسيحيين ومسلمين.. أين أجد النبرة الصحيحة؟
التالي
الراعي يدعو الى مبادرات شجاعة وجنبلاط لتسوية تتصدّى لـ’داعش’