صمود غزة يثير جنون إسرائيل

غدا تبلغ حرب «الجرف الصامد» الإسرائيلية على قطاع غزة يومها الخمسين، وفق حسابات العدو، في ظل خيبة وإحباط هائلين تظهر مشاهدهما في كل منحى في إسرائيل.

فسكان مستوطنات غلاف غزة باتوا يرحلون عنها، وبمساعدة رسمية، بعدما ظهر أن خمسين يوماً لم تكن كافية لحسم المعركة مع غزة، إذ اشتدت نيران الصواريخ الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة، رغم استمرار وصولها أيضا إلى تل أبيب والقدس المحتلة. ولم يجد العدو أمامه سوى محاولة تشديد الضغط، بقصف همجي يستهدف المدنيين أساساً، للضغط على المقاومة للقبول بوقف إطلاق نار مريح لإسرائيل.
وبديهي أن الخيبة الإسرائيلية هائلة، إذا أخذنا بالحسبان كلام وزير الدفاع موشي يعلون، بعد أيام قليلة من إعلان حرب «الجرف الصامد» بأن على مستوطني غلاف غزة العض على شفاههم والصبر لعدة أيام. لكن الأيام غدت أسابيع، وليس هناك في الأفق ما يحول دون دخولها في الأشهر، بعدما شارف الشهر الثاني على الاكتمال قريبا.
وهكذا، بعد أسبوعين من طلب القادة الإسرائيليين من سكان غلاف غزة العودة إلى مستوطناتهم، بدأت، في ظل خلافات واسعة، عملية ترحيل منظمة لكل من يرغب منهم في الرحيل. وتعهدت الحكومة، التي طالما كانت تعتبر ذلك في الماضي عملاً غير صهيوني، بتقديم كل أشكال الدعم والتمويل لترحيل مستوطني المناطق المحاذية لقطاع غزة. وبشكل أولي فإن الحديث يدور عن حوالي 40 ألف مستوطن، يعيشون على بعد 4 إلى 6 كيلومترات من الحدود.
واضطر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو للإعلان لمستوطني غلاف غزة: «سنبذل كل ما في وسعنا لمساعدتكم في تمرير هذه الأيام، فلدينا الصبر. وقد أثبتنا أنه لا حصانة لمن يطلق النار على مدن إسرائيل». وقال «إننا مستعدون لاستمرار المعركة بعد موعد بدء العام الدراسي» في الأول من أيلول المقبل، مضيفا ان حكومته أعدت «رزمة استثنائية» لمساعدة هؤلاء المستوطنين. لكن من المعروف أن قسماً من هؤلاء أنشأوا مخيماً احتجاجياً قرب ديوان رئاسة الحكومة في القدس.
وجاءت هذه العملية بعدما كثفت المقاومة في الأيام الأخيرة من إطلاق قذائف الهاون نحو هذه المستوطنات، وألحقت بها أضراراً متزايدة، فضلا عن وقوع قتلى وإصابات. واعتبر معلقون إسرائيليون أن انتقال المقاومة في غزة لإطلاق قذائف الهاون بكثافة جاء جراء نجاعة هذا السلاح مقارنة بإطلاق الصواريخ التي هي أبعد مدى وأقل دقة.
عموما فإن الإسرائيلي الباحث عن علائم انكسار في الجانب الفلسطيني لا يجده. أكثر من 2100 شهيد، وآلاف الجرحى تدفع الفلسطيني في غزة لرفض الضغط الإسرائيلي للتراجع. الثمن الباهظ الذي دفعته غزة حتى اليوم، يدفع أهلها أكثر للإصرار على مطلب فك الحصار كمدخل لأي حل.
ويبدو أن الصورة أشد تعقيداً في نظر الإسرائيلي. فلم تعد المسألة فك الحصار عن غزة، بل أصبحت تتجه نحو فك الحصار عن الدولة الفلسطينية. تشهد على ذلك التطورات الجارية في القاهرة ونيويورك. إذ لم يعد الحديث يقتصر على وقف إطلاق النار وفك الحصار، بل أصبح يدور حول وجوب اعتبار كل خطوة في غزة مدخلا للحل الشامل على أساس دولتين لشعبين، واستنادا إلى حدود العام 1967.
وبديهي أن هذا يعتبر شركاً بالغ الخطورة من وجهة نظر إسرائيلية. فالحكومة اليمينية التي رفضت جوهرياً المساعي الأميركية، وخطة وزير خارجيتها جون كيري، للتوصل إلى حل دائم مع السلطة الفلسطينية، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع مشاريع قرارات في مجلس الأمن الدولي، تنطوي كلها على الربط بين حل غزة والتسوية النهائية.
وثمة من يعتقد أن تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى إحدى القنوات التلفزيونية المصرية، حول الحل الخلاق الذي يفكر فيه، والذي سيشكل مفاجأة، وربما لن تقبل به أميركا، هو وضع هذه العقدة في المنشار. ويعتقد كثر أن المفاجأة تتضمن طلب الانضمام إلى كل المنظمات والمواثيق الدولية والتوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية ومطالبتها بالتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية. وليس مستبعداً أن يطلب عباس حماية دولية للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي نظر الكثيرين، لم تعد المسألة خلافات جزئية هنا وهناك بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني حول الورقة المصرية وبنودها، بل أصبحت حول الحل الشامل. صحيح أن أوروبا طرحت مشروع قرار لمجلس الأمن ينص صراحة على حل مسألة غزة بما يلبي احتياجات إسرائيل الأمنية ويفك الحصار، ويربط ذلك بمفاوضات لقيام الدولة الفلسطينية على أساس حدود 1967. وصحيح أن هناك في مجلس الأمن مداولات حول مشروع قرار أميركي يعدل قليلا في المشروع الأوروبي، لكنه يحتوي على الأسس ذاتها، مع إبراز لآليات جعل القطاع منزوع السلاح. لكن ما لا يقل أهمية عن كل ذلك هو التطورات في المواقف العربية الرسمية التي باتت ترى في صمود غزة مدخلاً للحل السياسي الشامل. ويشير معلقون في إسرائيل إلى أن هذه التطورات زادت الوضع تعقيداً، خصوصا بشأن الورقة المصرية، فالأحاديث عن مشروع قرار في مجلس الأمن لا يأتي بديلاً من الوساطة المصرية، بل مكملاً لها.
ومن الجائز أن صمود المقاومة في غزة كل هذا الوقت والذي ألهب الخلافات داخل المجتمع والحلبة السياسية في إسرائيل هو ما يدفع نتنياهو للتصرف بجنون. فقبل يومين أمر ببدء مرحلة تدمير الأبراج من أساسها، واستهداف برج الظافر في غزة الذي ألحق الضرر الشديد أيضا بعدة أبراج محيطة. ورغم ادعاء الجيش الإسرائيلي أنه مقر قيادة وسيطرة لـ«كتائب القسام»، إلا أن الحقيقة البسيطة هي أن استهداف منطقة الأبراج هذه، وتشريد أكثر من مئة عائلة دمرت أو تضررت بيوتها، سيدفع إلى نوع من الهلع الذي قد يجد ترجمة له في الضغط على قيادة «حماس» للقبول بأي اتفاق لوقف النار. وقد اضطر مسؤولون إسرائيليون للاعتراف بأن نتيجة كهذه لم تتحقق. لكن حكومة، يرأسها نتنياهو، تؤمن بأن ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة.
لذلك لم يكتف نتنياهو بالمنشورات التي يلقيها الجيش الإسرائيلي فوق مناطق في غزة داعياً سكانها إلى الرحيل إلى مناطق أخرى، بل دعا شخصياً المدنيين في غزة إلى الرحيل بعيدا عن «حماس»، منذراً بأن الجيش الإسرائيلي سيدمر ويضرب. وتبع ذلك انطلاق سلسلة تهديدات بالاستعداد لعملية برية واسعة ثانية في غزة، وأحاديث عن استعداد إسرائيلي لمواصلة الحرب رغم قرب بدء العام الدراسي. ووجه ضباط كبار في سلاح الجو الإسرائيلي تهديدات باستهداف المزيد من قادة «حماس» وكأنهم يمتنعون حتى الآن عن فعل ذلك.
وأمس، كشفت القناة العاشرة عن أنه كانت لإسرائيل معلومات حول وصول قائد «القسام» محمد الضيف إلى المنزل الذي استهدفته الطائرات الإسرائيلية، وقتلت فيه زوجته وطفليه وآخرين. وقالت إن المعلومات وصلت عملياً في اليوم الأول للهدنة، لكن إسرائيل لم تنفذ القصف إلى مساء اليوم الثالث، ما يرجح احتمال أنه كان قد غادر المنزل. وقالت القناة إن هذه المسألة ستواكب التحقيقات حول ما جرى في الحرب ومعاني الفشل فيها.
من جهة ثانية، أكد المعلق السياسي الأبرز للقناة العاشرة رافيف دروكر أن إسرائيل، من وجهة الاستخبارات التكتيكية، كانت ناجعة لكنها كانت فاشلة من وجهة الاستخبارات الإستراتيجية، فطوال فترة الحرب كانت التقديرات تتحدث عن توق لدى «حماس» لوقف النار، لكن الأحداث بينت أن الحركة لم تغير موقفها منذ اللحظة الأولى، وظلت تشترط فك الحصار عن غزة كشرط لوقف النار.

(السفير)

السابق
زاسبكين:مساعدة غير مشروطة للجيش اللبناني ولا لتوسيع مهمات اليونيفيل
التالي
الحرس الثوري الايراني: طائرة التجسس انطلقت من أحد البلدان المجاورة