كيف صارت سوريا مرتعاً للجهاديّين؟

 

قبل بدء الثورة السورية، كان يصعب العثور على أي ذكر لسوريا في الكتب عن “القاعدة”. راهنا، اختلف الوضع. صارت سوريا مهد الانبعاث الجديد لتنظيم أسامة بن لادن، ومغناطيساً للجهاديين من أصقاع العالم، وأرضاً خصبة لنشوء جيل جديد من الإرهابيين. فكيف حصل ذلك؟ وما هي الظروف التي وفرت هذه العودة القوية للتنظيم؟.

تعرض الصحافية رانيا أبو زيد في مجلة “بوليتيكو” الاميركية رواية مفصلة عن انبعاث اسلام جهادي من نيران الحرب السورية حوّل مناطق شاسعة من العراق وسوريا معقلاً للجهاديين عابراً للحدود يهدد باعادة رسم خريطة الشرق الاوسط، على الارض ان لم يكن على الورق. وهي رواية جمعتها خلال رحلات عدة الى سوريا بعد مقابلات نادرة مع قادة للجهاديين على الجبهات الامامية.
تقول إن كل شيء بدأ منتصف 2011 مع الاطلاق المشبوه للنظام السوري لمئات الجهاديين من السجن، في خطوة دعمت استراتيجية النظام في تقديم الانتفاضة على أنها مؤامرة من اسلاميين متطرفين. وقد أفاد من هذا الأمر أبو محمد الجولاني أيضاً.
بين الاسلاميين الذين أطلقوا من صيدنايا أبوعثمان، وهو في آخر الثلاثينات من العمر، التقته أبو زيد في كسب منتصف نيسان، إذ كانت البلدة في يد المعارضة. وهذا الرجل الذي كان مسجوناً منذ 2007 بتهمة الانتماء الى جماعة مرتبطة بـ”القاعدة، ويعطي دروسا في الشريعة لأفراد من “جبهة النصرة” ويعمل قاضياً في محاكم الشريعة، يتذكر أجواء سجن صيدنايا في ذلك الربيع 2011 عندما انتشرت الاخبار عن الثورة ومراسيم العفو . ويقول: “طلب منا أخوة لنا يتمتعون بخبرة كبيرة (في الجهاد) وأمضوا وقتاً طويلاً في صيدنايا، الا نقوم بأي تحرك عند اطلاقنا… قالوا اجلسوا وانتظروا”.
أدرك أبو عثمان وآخرون أن النظام السوري عفا عنهم لادراكه أنهم سيحملون السلاح في وجهه، وهو ما سيتيح له أن يقول للعالم: “انظروا الى الارهابيين…”. بيد أن هذا الأمر لم يمنعهم من الاستعداد للقيام بذلك. وكانوا يعملون سراً.
كان سجناء صيدنايا شبكة جاهزة. ويقول أبو عثمان: “عندما اعتقلت كنت أعرف أربعة أو خمسة أو ستة، ولكن عندما أطلقت (في حزيران 2011) كنت أعرف 100 أو 200 أو 300 جهادي… استغرق الامر أسابيع قليلة – اسابيع – لا شهراً، لنبدأ العمل سراً في مجموعات من اثنين أو ثلاثة أشخاص”.
بدأ أبو عثمان الاستعداد للقتال سراً، وعمل في خلية استخبارية جهادية في حلب التي كانت لا تزال معقلاً للنظام. وأقر بأنه “عندما بدأنا كنا نتحرك بلا ارشادات أو أوامر. بدأنا تجميع أنفسنا”. ولم ينس ما قيل لهم في صيدنايا بأن ينتظروا زعيمهم الجديد، ففعلوا.
في ذلك الوقت، تسلل أبو محمد الجولاني وسبعة من رفاقه، بينهم بضعة سوريين وسعودي وأردني، عبر الحدود من العراق الى سوريا في احدى ليالي صيف 2011، وكان في استقبالهم بعض من “خريجي” صيدنايا.
كان الجولاني مبعوثاً من زعيمه أبو بكر البغدادي والقيادة المركزية لـ”القاعدة” لانشاء فرع سوري لـ”القاعدة”. الا أن تلك الرحلة شكلت لاحقاً نقطة تحول في الحرب السورية، وعاملاً أساسياً في تحول نزاع داخلي حريقاً اقليمياً يهدد العراق بعد سوريا والحبل على الجرار.
لم يكن الجولاني في حينه معروفاً على نطاق واسع، ولا تزال أصوله غامضة حتى اليوم. ويقول المقربون منه إنه هادئ وواثق من نفسه ونظامي يصغي باهتمام ويفكر استراتيجياً. ولا يبقى أعزل اطلاقاً… عندما ينام يكون مسدسه تحت مخدته وحزامه الى جانبه” تزوج قبل سنوات في سوريا وله ولد. اسمه الحربي يفترض أنه من مرتفعات الجولان، لكن البعض يقول إنه اشارة الى ضاحية جولاني في الفلوجة العراقية حيث قاتل الاميركيين.
ومع ذلك، يقول المقرب من “النصرة أن الجولاني سوري ونشأ في دمشق. اعتقله الاميركيون في العراق وسجن في معسكر بوكا، على الحدود مع الكويت، وصنف كردياً من الموصل.
مع وصوله الى سوريا، بدأ الجولاني التواصل مع بعض خلايا رجال صيدنايا الذين كانوا ينشطون سراً كما مع آخرين كانوا لا يزالون ينتظرون ظهور تنظيم مرتبط بـ”القاعدة”. وكان العمل الاول غير المعلن للتنظيم الجديد الهجوم على مقر الامن في دمشق في 27 كانون الاول 2011. وبعد ذلك بشهر تقريباً، في 23 كانون الثاني 2003، أعلنت “جبهة النصرة” عن نفسها في شريط صوتي من غير أن تشير الى أي ارتباط بـ”القاعدة”.
كانت تلك خطة الجولاني، وكان أيمن الظواهري قد أعطى ارشادات صارمة بعدم الاشارة الى علاقته بالجبهة.
كان الجولاني واضحاً في أنه لن يفعل ما فعله التنظيم الام في العراق، أي فرض الشريعة على السكان المحليين ومعاداتهم. كان يعتقد أن سوريا ستكون المسرح الذي تظهر عليه “القاعدة” تطورها.
في تموز 2012 غادر الجولاني دمشق وراح يتنقل بين مواقع “النصرة” في ادلب وحلب. وبين الجماعات المسلحة المشتتة التي ظهرت في سوريا، برزت “جبهة النصرة” قوة قتالية منظمة وفاعلة، ونفذت أكثر العمليات قوة ضد النظام، بما فيها عمليات انتحارية. وسبق للجولاني أن صرح بأن نصف تمويل الجبهة يأتي من المنظمة الام “الدولة الاسلامية في العراق”، والنصف الاخر من مانحين خاصين وغنائم الحرب.
بعد سنة من اعلان وجودها في سوريا تقريبا، حققت “النصرة” ما كان أسامة بن لادن حلم به في أبوت أباد: تحولت قوة كبيرة مع دعم شعبي قوي. ومع ذلك، لم تعلن ارتباطها بـ”القاعدة” الا في الثامن من نيسان 2013 عندما أعلن زعيم “الدولة الاسلامية في العراق” أبو بكر بغدادي ذلك في تسجيل صوتي مفاجئ.

خلط اعلان البغدادي الاوراق، إذ لم يكتف باعلان العلاقة بين تنظيمه و”النصرة”، وإنما ذهب الى اعلان دمج المجموعتين في كيان واحد تحت قيادته، وهو ما رفضه الجولاني مبايعا الظواهري وطالبا منه التوسط في الازمة. تأخر خلف أسامة بن لادن شهرين للتدخل. وعندما فعل رفض دمج التنظيمين، فتجاهله البغدادي الامر الذي أدى الى انقسام في “جبهة النصرة”.
بقي بعض مقاتلي الجبهة مع الجولاني، فيما تبع آخرون، وتحديدا الاجانب أو المهاجرون، أوامر البغدادي وانضموا الى “الدولة الاسلامية في العراق”.
وبحسب المقرب من “النصرة” كان أثر الانقسام عميقاً: “جميع النصرة صاروا الدولة وصرنا قلة”.
بدأ تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) انشاء دولته في الاراضي التي يسيطر عليها، وخصوصاً في الرقة. وبحلول 2013 كان “داعش” يسيطر عليها تماماً وجعل هذه المدينة التي تعد 220 الف نسمة عاصمته، وملأ سجونها بكل من عارضه أو مارس عادات غير اسلامية.
وحتى تنظيم “القاعدة” نفسه لم يحتمل ممارسات “داعش”، الامر الذي دفعه الى التبرؤ منه في بيان صادر في الثالث من شباط 2014، فرد عليه “داعش” متهماً “القاعدة” بأنه ضل الطريق الصحيح للجهاد.

تدفق الجهاديين الاجانب
واصل “داعش” تنظيم صفوفه في شمال شرق سوريا وشرقها على الحدود مع العراق. ومع استعادة النظام زخمه انخرط الجهاديون في نزاعات في ما بينهم، ازدادت الحرب السورية وحشية، واستقطبت صور القتلى مزيدا من المقاتلين الاجانب من دول حول العالم. انضم مقاتلو “حزب الله” وعراقيون بأعداد متزايدة الى النظام، فيما التحق ما هب ودب من المقاتلين، بينهم شيشانيون وتونسيون وليبيون ولبنانيون، الى صفوف السوريين الذين يقاتلون النظام.
وتتحدث أبو زيد عن عسكري أميركي سابق اعتنق الاسلام اسمه أبو أسامة يدرب الجهاديين، فيما يدرب أمير لـ”النصرة” خلية من الفلسطينيين والعرب الاسرائيليين.
كانت غالبية المهاجرين تدخل شمال سوريا من تركيا. وأكثرهم كانوا ينضمون الى كتائب مقاتلة غير “الجيش السوري الحر”. حاليا، يسيطر “داعش” على مساحات واسعة من شمال شرق سوريا، من حلب الى حدود العراق، لكنه لم يعد منتشراً في ادلب أو اللاذقية. كما لا يزال منتشراً بكثافة في الرقة.
في غضون ذلك، لا يزال “النصرة” تحت قيادة الجولاني وتقاتل “داعش” علناً، وأحيانا جنبا الى جنب مع كتائب مسلحة أخرى. لقد تحول النزاع بين أعداء النظام حربا أهلية داخل حرب أهلية، تماما كما شاء الاسد.
وفي العاشر من حزيران استولى مئات من “داعش” على الموصل، وواصلوا طريقهم جنوباً في اتجاه بغداد، محتلين بلدات عدة في طريقهم. لكن “داعش” لا يتحرك وحيدا في العراق، إذ انضم اليه سنة كثيرون مستاؤون من حكم رئيس الوزراء نوري المالكي، بينهم مناصرون للرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
لم يكن متوقعا أن يبقى النزاع السوري في سوريا. لقد دفع ملايين اللاجئين الى دول الجوار، وأعاد احياء طريق الجهاد صوب العراق. ولعل ما يحصل راهنا في لبنان يؤكد أن”النصرة” و”داعش” أقامتا خلايا لهما في هذا البلد.

السابق
بالفيديو..كيف سقطت مذيعة «العربية» ارضاً؟
التالي
ماذا يجري في ’النافعة’؟