«تأنيث» الهجرة في لبنان: سقوط المخاوف الاجتماعية أمام الوضع المعيشي

لم تعد الأعذار التقليدية التي كان الأهل يتمسّكون بها تنجح في ردع الفتيات اللبنانيات عن اتخاذ قرار الهجرة إلى بلد آخر بمفردهن ومن دون أن يكون لهن معارف في البلد الذي يهاجرن إليه بعدما ضاقت بهن الدنيا في لبنان. إنهن اليوم تماماً كالشباب الذين يبحثون عن لقمة عيشهم ومستقبلهم بعيداً من الأزمات السياسية والأمنية المتلاحقة في بلدهم. فعذر الحفاظ على السمعة سقط بعدما أصبحت الفتاة اللبنانية المتخرّجة حديثاً تواجه مذلّة كبيرة في بعض الأحيان لتجد وظيفة تؤمّن لها الحدّ الأدنى من الراتب. ومعه سقط أيضاً عذر الخوف من المخاطر التي قد تواجهها في بلد غريب، في وقت تواجه خلاله أصعب التحدّيات في بلد لا يزال التمييز فيه قائماً في التوظيف بين الذكور والإناث. وإذا كانت أقاويل النّاس تزعج بعض الأهل فيحاولون منع بناتهم من السفر، فالأمر الواقع بات أصعب بكثير من أن تحدّه الأقاويل، بعدما وجدت الفتاة نفسها أمام خيارين: إما البقاء في لبنان محاطة بأهلها ولكن غالباً بلا عمل، أو سلوك الطريق الأصعب والهجرة لعلّها تجد مساحة تقدر مواهبها وقدراتها فتكتسب مكانة اجتماعية واقتصادية تطمح إليها. وبخلاف الأسباب التقليدية كالسفر للالتحاق بالبيت الزوجي، باتت الغربة خياراً تتخذه الفتاة أحياناً في بداية مسيرتها المهنية فتغادر بلدها منفردة بحثاً عن وطن بديل تحقق فيه طموحاتها من دون قلق من تمييز وظيفي واجتماعي ضدها.

وبعدما كان الشباب الذكور يرسمون خطوط الهجرة من لبنان، دخلت الفتاة منذ سنوات قليلة إلى المشهد بشكل كبير. فإذا عدنا إلى الأرقام الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي يتبيّن أنّه بين العامين ٢٠٠٤ و٢٠٠٩، بلغت نسبة الهجرة بين الرجال ٧٦.٣ في المئة مقابل ٢٣.٧ في المئة لدى النساء. إلا أنّ الأوضاع الاقتصادية المتأزمة سنة بعد أخرى أدّت إلى رفع هذه النسبة، وبحسب دراسة نشرت في ٢٠١٣ لمركز سياسات الهجرة (MPC – Migration Policy Center) تبيّن أنّ نسبة المهاجرين من الرجال اللبنانيين هي ٥٣.٦ في المئة مقابل ٤٦.٤ في المئة للنساء. وتظهر هذه الأرقام بوضوح التغيّرات الطارئة على وضع المرأة في المجتمع، حيث باتت هي أيضاً تبحث عن بناء حياة مهنية ناجحة بعيداً من الأزمات الأمنية والسياسية والمعيشية المستمرة.

وترى الباحثة الاجتماعية دلال حمّود، أنّ ما يحدث اليوم ديموغرافياً في لبنان خطير جداً من ناحية نزف الأدمغة، وذلك لأنّ نسبة النساء الجامعيات تقارب نسبة الرجال الحاصلين على مستوى تعليمي جامعي. وإذا كان الرجل يجد في الهجرة الوسيلة الأفضل لتحصيل لقمة العيش ومساعدة أسرته، فالفتيات أيضاً يسرن الآن على الطريق نفسه ما يعني أنّ لبنان يفقد تدريجياً دعامته الشبابية على صعيد الإناث والذكور.

وتؤكد حمّود أنّ العوائق التقليدية لم تعد توقف الفتاة اللبنانية عن تحقيق رغبتها بالهجرة، مثل الكلام عن سمعتها أو أنّها ستواجه العنوسة. فهي تحتاج أيضاً إلى تحقيق ذاتها مهنياً، ولو كان ذلك يعني تأخر سنّ الزواج أو حتّى عدم الزواج نهائياً. وتلفت الباحثة إلى أنّ الفتاة يمكن أن تجد نفسها أمام سيناريو آخر أي التعرّف إلى شاب أجنبي والزواج منه والاستقرار في البلد الذي هاجرت إليه، وهذا ما أصبح أيضاً من الظواهر المنتشرة بين الفتيات المغتربات.

حلم وردي؟

وجعل الوضع المعيشي المتأزم في لبنان الغربة تبدو حلماً وردياً بالنسبة إلى الشباب. فهم حين يحصلون على تأشيرة هجرة يحتفلون كأنّهم أمسكوا ورقة يانصيب رابحة. لكن هل هي فعلاً وردية إلى هذا الحدّ؟. تختلف الحالة بحسب الدولة التي تهاجر إليها الشابة ومدى انفتاحها واحترامها لحقوق المرأة سواء كانت مواطنة أم مهاجرة، بالإضافة إلى الراتب ومدى مجاراته لتكلفة المعيشة، وسهولة التواصل مع الآخرين لبناء العلاقات الاجتماعية سواء المهنية أم الشخصية.

داليا حوّاط مثلاً سافرت إلى كندا منذ ثلاث سنوات، وهي ترى أنّ الحياة مقبولة من ناحية المعيشة والاستقرار والابتعاد عن صخب السياسة والمشاكل الأمنية، كما أنّ حقوق الموظّف محمية بالكامل ما يمنحها أماناً واستقراراً وظيفياً. فهنا لا طرد تعسّفياً أو تأخر في دفع الرواتب أو تهرّب المديرين من مسؤولياتهم.

لكن داليا تؤكد شعورها بالوحدة والاغــــتراب وافتــــقــادها الحياة الاجتماعية التي كانت تغني يومياتها في لبنان، في وقت أصبحت حياتها ترتكز على العمل ومساندة الأهل قدر الإمكان عبر التحويلات المالية. وعلى رغم قضاء ثلاث سنوات في الغربة، لم تستطع داليا بعد أن تندمج بشكل كامل في المجتمع الكندي، فالعادات مختلفة وكذلك طريقة التواصل بين النّاس، لذا تحاول إيجاد صديقات من المنطقة العربية تتشارك معهن بعض العادات والتقاليد للتخفيف من وحدتها. ولا تنكر الشابة أنّ فكرة العودة إلى لبنان تراودها يومياً، لكنّها تنتظر تكوين رأسمال صغير تحمله معها لتأسيس مشروعها الخاص، والحصول على الجنسية الكندية خلال الأشهر القليلة المقبلة ما يضمن مستقبلها وعائلتها.

البعد الجغرافي والاجتماعي الذي تعاني منه داليا لا تذكره كارين بدران في حديثها عن هجرتها إلى دبي، حيث تعمل في مجال العلاقات العامة. فهي ترى أنّ هناك الكثير من التقارب بين المجتمعين الإماراتي واللبناني، خصوصاً مع وجود جالية لبنانية كبيرة في دبي ما يسهّل بناء الصداقات وحتّى العلاقات المهنية. إلا أنّ كارين تلفت إلى وجود تحدّيات من نوع آخر، أولها كلفة المعيشة المرتفعة. فعلى رغم أنّ راتبها يبلغ 3 أضعاف ما كان يمكن أن تتقاضاه في لبنان, لكنه الجزء الأكبر منه يقضمه إيجار الشقة. لذا تقرّ كارين بأنّها لا تستطيع إرسال أكثر من 500 دولار لأهلها كلّ شهر لكي تستطيع الادخار، محاولة التقشف في المصروف اليومي، وداحضة الفكرة الشائعة بأنّ «من يسافر إلى الخليج يراكم الثروات» وهو ما يتكرر على مسامعها حين تزور لبنان. وتقول: «نوعية الحياة تتحسّن بالتأكيد، لكن ليس القدرة على جمع الأموال». أمّا قرار العودة بالنسبة إلى كارين فبعيد أو أقلّه مؤجل، لأنّ الرواتب متدنّية جداً في لبنان ولا تليق بالشهادات الجامعية التي يحملها الشباب، فيما هناك فرص عمل عدة متاحة في دبي ومنافسة شديدة على المهارات.

السابق
رئيس لـ ’جمهورية الخوف’!
التالي
انتهاء جلسة مناقشة رسالة سليمان