الكاردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي في القُدس المُحتلَّة.. مُقاربة هادئة

كان قرارُ الكاردينال الرَّاعي زيارة القُدْس المُحتلَّة مُفاجِئاً، ودونَ أيّ تمهيدات، ولا أدْري إنْ كان ثمَّة من كُلِّف بوضع مُقاربة للإشكاليَّات التي قد تُحيط بالقرار بدايةً، ومن ثَمَّ بتنفيذِه.

في أيِّ حال، والكارثةُ قد وَقَعَت لا بُدَّ من مُحاولة فَهم أبعادِ تداعيات هذا القرار في الوجدان المسيحيّ والإسلاميّ المشرقيّ على حدٍّ سواء.

1- بين الرَّعويّ والسِّياسيّ
• ليس موقِعُ البطريرك المارونيّ اللُّبنانيّ والمشرِقيّ عاديَّاً، فهو بالإضافة إلى رعويَّته يحمِلُ سِمَتين:
أ‌- السِّمة الوطنيَّة
ب‌- السِّمة العربيَّة
وفي السِّمة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة انخراطٌ في بَلْوَرَةِ مُعادَلة السِّياسة والتي كانت أبرز تجليّاتها الأخيرة “اتفاق الطَّائف” و “خروج الوصاية السُّوريَّة” ناهيك بالثَّوابت السِّياديَّة، وفي مُقدِّمها رَفضُ الإحتلال كُلِّ احتلال، وإسرائيل دَوْلة عَدُوَّة مُحْتَلَّة، ولبنان يُواجِهُ معها ليس فقط تحدّي تحرير مزارع شِبعا وتِلال كفرشوبا بل تحديداً قضيَّة اللاجئين الفلسطينيين.
وفي السِّمة العربيَّة قُدْرَةٌ للبطريرك الماروني على لَعبِ دورٍ إستثنائي في الدفاع عن القضايا المُحِقَّة، وفي مقدَّمِها قضيَّة “فلسطين” حيثُ السَّلام فيها لا يقوم، وكما قال البطريرك الرَّاعي في كلامٍ مؤخراً لَهُ: “السلام في الشَّرق الأوسط يقوم على الحوار والمُصالحة”، بل أنَّ أَساسس أيِّ سَلام، بالمعنى اللاهوتيّ، يبقى قِوامُه العَدل. وقد تكون المُقاربةُ الفِكريَّةُ في هذا السِّياق تَطول، ولا إمكان للخَوض فيها، إذ هي قائِمةٌ في أساسها على بُنية لاهوتيَّة.

وإنطلاقاً من كل ما سبق لا أَعتقد أنَّ التَّمييز بين السِّياسي والرَّعوي موفَّق سِوى في تقليديَّته. وأمَّا المُشكلة الأكبر فتكمُن في أنَّه لم يَسبق قرار الزيارة أيُّ استراتيجيَّة إعلاميَّة وتَواصُليَّة بل إنَّ الرُّدود على منتقديها من بعض السَّادة المطارنة الأجلاء بَدَت في قِمَّة الإنفعاليَّة حتَّى بدونِ مضمون، ناهيك بعباراتِ ردودٍ استعملها غبطة البطريرك نفسُه تستدعي الكثير من التفكير في قِراءَتِه العميقة لمعاني الزيارة والغائبة على ما يبدو.

2- القُدْس بين إنسانِها ومُقدَّساتِها
“أنا ذاهِبٌ لأُوقِفَ تهويد القُدْس” / “أنا ذاهبٌ لأَقول أنَّ هذه أرضُنا” / “البطريرك يؤكِّد على القُدس مدينة مفتوحة للسَّلام” /
الإشكاليَّة هُنا قائمةٌ في اعتبار البعض انَّ المشكلة مع الإحتلال الإسرائيلي في القُدس تكمُن في أماكن المقدَّسات (الكنائس والجَوامع) فيما أنَّ مُقاربةً لاهوتيَّة حتَّى تستدعي التأكيد على أنَّ “إنسان القُدس” ذاك المخلوق على صُورة اللهِ كمثالِه، هو الأَهَمُّ من أماكن المُقدَّسات التي يُراعي الإحتلال هَيكلها الخارجيّ، فيما يُمعِنُ في تهجير وتدمير إنسانها، وفي هذا السِّياق يبدو جليَّاً أن لا استراتيجيَّة كنسيَّة لحماية “إنسان القُدس” بل تسوية “لأَماكن المُقدَّسات”، ويا لَيْتَ البطريرك الرَّاعي إستبق زيارتَهُ بمواقِف عملانيَّة في معنى الزيارة، وما سيَطرَحُه من استراتيجيَّة مُقاوِمَة للتَّهويد مع الرَّعيَّة.
أمَّا “القُدْسُ مدينة سَلام مفتوحة” فلن تكرِّسها بالفِعل زيارة البطريرك، إذ حتَّى الفاتيكان عاجِزٌ عن ذلك حتَّى الآن، فاقتضى التَّنويه.

3- الوجدان اللُّبناني المسيحيّ – الإسلاميّ
لا أدري إن كان هُنالك مُقاربة في تداعيات هذه الزِّيارة على الوجدان اللُّبناني المسيحيّ- الإسلاميّ القائم في أنَّ لبنان عانى ولم يَزَل الاحتلال الإسرائيلي واختراقُ البطريرك لحُدود ببركة إسرائيليَّة، يعني نعم، وبالمفهوم الإسرائيلي، اعترافاً بمشروعيَّة وتطبيعاً كنسيَّاً مع شرعيَّة غاصِبة، وسيستغِلُّ الإسرائيليُّون كما الكثير من الغَرب الإعلاميّ المتأسرِل هذه الزيارة لتسويق أنْ ها هي الكنيسة المشرقيَّة الأبرز تزور برأسِها القُدْس المُحتلَّة، وتؤَمَّن لها الحمايَة، ولا مشكلة احتلال فالقُدْس “مدينة مفتوحة للسَّلام”، والدَّليل أنَّ البطريرك يزورها دون أيّ تعقيدات.

4- في حِلْفِ الأقليَّات المُفتَرَض
ثمَّة فَلسَفة حقيقيَّة، وليس افتراضيَّة، على ما يبدو، تقوم على التَّسويق المُباشر وغير المُباشر لـ “حلف الأَقليَّات”، وفي هذا السِّياق، وعلى الرَّغم من نَقدٍ لهذه الزّيارة يبدو جليَّاً من فريقٍ ما، لكنْ قد يُفهَمُ منها أيضاً بناءُ مِحْوَرٍ لـ “حلفِ الأقليات” بمعنى شدُّ العصبيَّات بما يخدُم “يهوديَّة إسرائيل” بما يعني التأكيد على هويَّة الجماعات الدّينيَّة أكْثر مِنْهُ مواطَنَتُها، وهنا تدعيمٌ لإندفاعِ البطريرك في الإضاءة على رعويَّة الزيارة مسيحيَّاً ما يعني أنَّ الاهتمام بالمسيحيين هو الأساس، وليس بقضيِّة العَدْل التي يُمثِّلُها إنسان فلسطين وإنسانُ قُدْسِها.

في أنِّ حال لَيْتَ زيارَةً لرام الله وغزَّة أيضاً تواكِبُ الزيارة إلى القُدْس لكُنَّا رُبَّما بغنى عن هذا الارتباك التَّاريخيّ.

السابق
هل تعود فلسطين قضية العرب الأولى؟
التالي
هيئة التنسيق النقابية اصدرت توصية بعدم اجراء الامتحانات الرسمية