بيروت تستثني فقراءها من الحياة

بيروت
يوماً بعد يوم، صارت بيروت ترفع أسعارها لتصبح بعيدة عن متناول الأشخاص العاديين ذوي الدخل المحدود. لا يمكنهم أن يرتادوا مطاعمها أكثر من مرة أو مرتين شهرياً ولا يستطيعون الآن أن يدخلوا إلى مسابحها. صار التملّك في المدينة حلم، فلماذا لا يرحلون؟ هنا سيسأل أولئك القادرين على العيش فيها: إلى أين؟ فقد صارت أشبه بمشعوذة ترمي عليك بلعنتها فتأسرك. تعيش فيها مفتوكاً بك ولكن سعيداً. وربما كجميع المدن الصلبة: هذا ثمن العيش فيها.

عندما انتقلت إلى العيش في بيروت منذ حوالي 4 أعوام، كانت المدينة بشكل أو بآخر حافزاً على الحلم وعلى الحماسة للتغيير. أذكر يومها أنّ أحدهم قال لي إنّ جميع الأماكن متشابهة. لم أقتنع ولا زلت غير مقتنعة بهذه المقولة. أظنّ أنّي لسوء الحظ واكبت العيش في بيروت في أشدّ صورها توحشاً وفي أحوال اقتصادية تشعرك أنّك تعيش في جحيم يلتهمك بلا رحمة.

ولطالما استوقفني هذا التفاوت الكبير بين أحيائها. المسافة مثلاً بين “زقاق البلاط” و”الداونتاون” لا تتجاوز الكيلومتر الواحد لكنّ الفروقات بين الحيّ والآخر شاسعة. تشعر أنّك تخرج من سرداب صغير لتصبح فجأة أمام المباني الحديثة والمرمّمة بعناية.

هذا فارق ربما موجود في كثير من المناطق لكنّ الفارق بين بيروت وغيرها أنّ هذه الأحياء متداخلة نوعاً ما. ليست منقسمة جغرافياً كما في طرابلس مثلاً، المعرض والضم والفرز على جهة وأحياء الفقراء كالتبانة والأسواق الداخلية. ربما يكون هذا التداخل إيجابياً من جهة أنّه يقاوم “كوزموبوليتانية” بيروت ويجبرها على الاعتراف بأنّها أكثر من واجهة جميلة ويجبرها أن تفسح مكاناً لناسها العاديين الذين لا يمكنهم أن يجاروها ترفاً. تبدو بيروت كأنّها تتخبّط، لا تعرف كيف تبتلع فقراءها ولا كيف تعينهم. لا هي قادرة على رفعهم إليها ولا طردهم منها.

إنّها دليل على توحّش الرأسمالية وتدريب على العيش دائماً على حافة الهاوية. عدا عن أغنيائها، معظم سكان بيروت يعيشون بدخل لا يكفي ويستلفون المال ثمّ يسدّدون ديونهم ثمّ يستلفون مرة أخرى. لكنّ المؤسف أنّ الفترة الأخيرة من الأحداث الأمنية والتراجع الاقتصادي كشفت نوعاً ما أنّ المدينة منحازة لمن يدفع لها ولا تستطيع أن تكتفي بأبنائها الذين يحبونها.

يوماً بعد يوم، صارت ترفع أسعارها لتصبح بعيدة عن متناول الأشخاص العاديين ذوي الدخل المحدود. لا يمكنهم أن يرتادوا مطاعمها أكثر من مرة أو مرتين شهرياً ولا يستطيعون الآن أن يدخلوا إلى مسابحها. صار التملّك في المدينة حلم لا يريدون حتّى أن يراودهم وضاقت بهم شوارعها. لماذا لا يرحلون؟ سيسأل أولئك القادرين على العيش في بيروت: إلى أين؟

ألا ينتبه أحد إلى أنّ فرص العمل موجودة في العاصمة فقط وتكاد المشاريع في المناطق الأحرى تكون شبه معدومة. الخريطة اللبنانية والدولة الّتي صبّت كلّ جهودها على العاصمة لم تترك آمالاً في غيرها. صارت بيروت الملاذ والجحيم في الوقت نفسه.

صارت هذه المدينة الساحرة أشبه بمشعوذة ترمي عليك بلعنتها فتأسرك. تعيش فيها مفتوكاً بك ولكن سعيداً. تركض وراءها وتبقى بعيدة. تعمل كثيراً من الصباح حتى المساء وكل الصباحات متكرّرة وحين تحصل على فسحة صغيرة، تنظر إليها وتفهم أنّها تستهلكك وربما كجميع المدن الصلبة: هذا ثمن العيش فيها.

السابق
قبيسي: لا يستطيعون فرض رئيس علينا والقول يجب ان تأتوا للمجلس
التالي
فتحي عينيك وتعرفي على حقوقك بسيداو