جغرافيا سوريا بين مخططات 1920 وتحوّلات المرحلة الحالية

جريدة النهار

ان وجود سوريا على مفترق الطرق بين القارات الثلاث افريقيا وآسيا واوروبا، واطلالها على البحر المتوسط، ونزول الديانات التوحيدية الثلاث على ارضها، ووجودها على ابواب دول النفط (ايران، العراق، دول الخليج) وحتمية مرور انابيب النفط في مجالها الجغرافي للوصول الى المتوسط، لا بل ان وجود الغاز والنفط اخيراً في بعض مياهها الاقليمية ومناطقها الداخلية، كل ذلك جعلها محط صراع القوى الدولية منذ طرح المسألة الشرقية في الدولة العثمانية.

في هذا السياق اذكر ما ورد في تقرير احد الديبلوماسيين الغربيين حيث اعتبر ان دول الغرب متفقة على الاعتراف بأن سوريا، من خلال موقعها الاستراتيجي والجغرافي، هي النقطة الأكثر أهمية في الامبراطورية العثمانية، وان طريق الهند الطويل وطريق آسيا الكبير، هما اللذان سوف يقرران مصير العالم. وفي هذا السياق يمكن ان نفهم قول نابوليون: La Syrie est la clé de l’Asie (سوريا هي مفتاح آسيا).

مشاريع 1920

بعد تراجع الخيار الاصلاحي العثماني (عثمانجلق)، وصعود التيار القومي التركي (توركجليك) في مواجهة الخيار الاسلامي (اسلامجليق)، وبعد دخول الدولة العثمانية طرفاً في الحرب الى جانب المانيا والنمسا، برز الى حيز التنفيذ مشروع تقسيم الدولة العثمانية (وقبل العام 1914 كان هناك اكثر من مئة مخطط لهذا الامر). لا بل يمكن القول ان تقسيم مناطق النفوذ سبق اندلاع الحرب عام 1914. ففي بداية هذا العام عقدت صفقة مالية بين فرنسا والمانيا، كما عقدت صفقة بين فرنسا والباب العالي مؤداهما وضع الشمال السوري بكامله، الواقع بين الاسكندرونة – حلب – دير الزور، ثم بين دير الزور وسنجق حمص واللاذقية، تحت نفوذ المانيا. لقد وضعت اتفاقات بين العثمانيين والفرنسيين والبريطانيين والروس والالمان تحدد بشكل دقيق ومفصل مناطق النفوذ الاقتصادي والسياسي.
ومنذ انطلاق المفاوضات الفرنسية البريطانية حول المشرق عام 1915 تحركت غرف التجارة والجمعيات الكولونيالية والجغرافية للضغط على هذه المفاوضات تطالب بالحفاظ على مصالح فرنسا في كامل سوريا الطبيعية بما فيها فلسطين وجبل لبنان. وكان “الحزب السوري” في فرنسا يتألف بشكل عام من ذوي المصالح الاستعمارية والتجارية والمالية واصحاب المصالح الدينية والثقافية والتعليمية. وقد اعتبر ان اندلاع الحرب يؤمن لهم فرصة السيطرة على المنطقة. كما ان السيطرة على سوريا – وبخاصة على دمشق – تشكل عاملاً ضرورياً لتأمين المواقع الفرنسية في شمال افريقيا الاسلامية.
في المقابل سعت السياسة البريطانية الى خلق كتلة بين البحر المتوسط والخليج العربي – الفارسي تعمل باشرافها وتكون تحت سيطرتها ولا تنازعها فيها دولة كبرى أخرى، وحرصت على ان تبقى خطوط مواصلاتها في المنطقة سليمة ومتصلة. وقد سعت الحركة الصهيونية، التي كانت تخطط لقيام “وطن قومي” لها في فلسطين، الى التأثير على السياسة البريطانية في المشرق من طريق الربط بين مصالح بريطانيا ومخططاتها.
في ضوء ذلك وضعت اتفاقية سايكس بيكو (ايار 1916) واتفاقية سان جان دي مورين (1917) تم فيهما توزيع مناطق النفوذ بين الدول الكبرى، بما فيها روسيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا.
بالنسبة للنخب الداخلية السورية كانت هناك تيارات عدة في التصور لمستقبلها:
– ان هدف فيصل (كما ورد في تقرير للمخابرات البريطانية في 30 كانون الثاني 1919) هو انشاء اتحاد دول عربية، تتولى المسؤولية في كل منها حكومة عربية حقيقية – وليس بالاسم فقط – تستظل جميعها بعلَم واحد وتتعامل بعملة واحدة وجمارك واحدة الخ. وتعالج كل دولة شؤونها الداخلية ولكنها ترتبط بميثاق يحتم عليها جميعاً ان تهب لمساعدة اية دولة من بينها يقع عليها عدوان من دولة غير عربية. اما الهدف النهائي الذي يضعه فيصل نصب عينيه فهو دون شك دمج هذه الدول تدريجاً في دولة عربية واحدة تخضع لحكومة مركزية.
على مستوى مرتكزات الدولة العربية المقترحة كان هناك اتجاهان على الاقل:
– يرى الاول ان تقوم تلك الدولة على اساس القومية وليس على اساس الدين.
– بينما يرى الثاني انه يريد قيام دولة اسلامية مستقلة تحل محل الدولة العثمانية.
على صعيد السياسات الانكليزية والفرنسية لاحظنا، في وزارة الخارجية البريطانية، انه كان هناك تياران على الأقل:
– تيار يميل الى التسوية مع الفرنسيين ويسلم بالنفوذ الفرنسي في سوريا الطبيعية.
– تيار يدعى (انجلو – انديان) يتشدد في المطالبة بنفوذ انكليزي يشارك النفوذ الفرنسي في سوريا الطبيعية، ويرتكز في طرحه على التضحيات التي قدمتها بريطانيا لتحرير المنطقة من الاتراك (ويركز على فلسطين والنفط في الموصل).
ومهما يكن من أمر فان السياسة البريطانية كانت ضد خلق دولة عربية موحدة، ولم توافق حتى على خلق اتحاد كونفيديرالي عربي كما كان يطمح الشريف حسين أو كما كان يتصور العرب من خلال مراسلات ماكماهون – الحسين.
اما في “الكي دورسيه” فكان هناك تيار واسع مع سوريا موحدة على قاعدة فيديرالية وتحت وصاية فرنسية مع اعطاء جبل لبنان استقلالاً ذاتياً. وهذا التوجه مدعوم من القوى الاقتصادية ومن التيار الماسوني. بينما كان هناك تيار آخر مدعوم من القوى العسكرية والكاثوليكية يدعم مطالب البطريركية المارونية والحركات اللبنانية الداعية للبنان الكبير وقيام دويلات في المنطقة على قاعدة الهويات المذهبية او ما يمكن تسميته الاستقلال الذاتي المحلي. وقد جسد ميللران وغورو باجراءاتهما هذا التيار، ومن كبار منظريه الخبير في وزارة الخارجية Robert De Caix.
وبعد التفاهم البريطاني – الفرنسي على حل المسألة السورية في سان ريمو (نيسان 1920)، حسمت السياسة الفرنسية الوضع في المنطقة بالقوة العسكرية من خلال معركة ميسلون (تموز 1920). وعلى اثر ذلك: اعلن قيام دولة لبنان الكبير من جهة (1 ايلول 1920) – كما تم اعلان دولة دمشق (18 آب 1920)، ودولة حلب (1 أيلول 1920)، ودولة العلويين (31 آب 1920) التي سميت في ما بعد (اراضي العلويين المستقلة)، ودولة الدروز (4 آب 1920)، وتمتع سنجق الاسكندرون بإدارة خاصة مرتبطة بدولة حلب.
هذه التجزئة للمجال الجغرافي استمرت مُدارة من خلال المفوضية العليا للمندوب السامي الفرنسي في ما سمي المصالح المشتركة لهذه الدول. كما أوكل ادارة هذه الكيانات الى عسكريين متمرسين في الخدمة في شمال افريقيا.
في المرحلة اللاحقة اضطر الجنرال غورو أن يجمع تحت شكل وحدة كونفيديرالية الدول الثلاث المفروض انها مستقلة او مستقلة ذاتياً (دمشق، وحلب، ودولة العلويين) وذلك في 28 حزيران 1922.
على صعيد النخب الداخلية كانت هناك تيارات ضمن الكيانات الذاتية الناشئة ابرزها واحد يشد في اتجاه الوحدة، وآخر يتمسك بترسيخ الاستقلال الذاتي وتطويره. والأخير تمثل بعرائض شعبية تحفظت عن الوحدة السورية التي تم التوصل الى الاقرار بها في مشروع معاهدة 1936 بين فرنسا وسوريا.

المرحلة الحالية
منذ ثلاث سنوات اندلع الصراع في سوريا وفي المرحلة الحالية يمكننا تسجيل المعطيات التالية:
– 40 % من السوريين فروا من منازلهم، وتم تدمير اكثر من مليوني منزل.
– 10 ملايين مهجّر منهم 6 ملايين في الداخل، و 4 ملايين خارج الوطن، وهذا يعتبر اكبر تجمع للنازحين في العالم.
– ثمة 146 الف قتيل حتى الآن، ويتوقع السيد الابرهيمي الوصول الى 350 الف قتيل العام المقبل.
– وجود اكثر من 300 الف اسير.
– تقارير مخيفة عن اوضاع الاطفال والنساء وعن اساليب التعذيب (11 الفاً قتلوا تحت التعذيب، 16 الف فتاة اغتصبت)
– استعمال القتل الجماعي، وحصارات التجويع للاحياء والمدن والمناطق.
– انهيار واسع في الاقتصاد وتراجع خطير في الصناعة والتجارة والزراعة (مع تسجيل تأثير الجفاف!!)
– تدفق المقاتلين من المرتزقة دعماً للنظام (لواء ابو الفضل العباس و”حزب الله” والحرس الثوري الايراني). وكذلك الدعم للمعارضة (وجود 26 الف مقاتل اسلامي).
– تدمير ونهب معالم الآثار والكثير من المتاحف، وتخريب مساجد وكنائس لها رمزيتها التاريخية (معلولا مثلاً).
– عجز في النظام العربي المتمثل بالجامعة العربية عن ايجاد الحلول المناسبة، وتردد في سياسات الدول الكبرى وربما تواطؤ على نحو يؤدي الى استمرار وتفاقم المأساة، وارتياح في الدولة العبرية، ان لم يكن ثمة دعم لهذه الحرب الاهلية الخطيرة من قبل اسرائيل.
كيف تتوزع القوى حالياً على الخريطة السورية؟
1 – قوات النظام لا تزال تسيطر على الساحل وعلى شريط من الارض يتجه الى دمشق وصولاً الى درعا جنوباً.
2 – تمركز قوات الجيش الحر شمال وشرق حلب وادلب ومن الحدود العراقية مروراً بدير الزور وصولاً الى الرقة.
3 – خضوع المناطق المأهولة بالاكراد في الجزيرة حول قامشلي والحسكة لإدارة كردية ذاتية.
4 – وجود فاعل لقوات اسلامية (“داعش” و”النصرة” وغيرهما) في المنطقة الممتدة من الحسكة الى شرق حلب.
5 – منطقة بادية الشام خارج الصراع.
6 – ثمة مناطق متنازع عليها جنوب وشرق دمشق، وحمص وحلب وجوارها.

السيناريوات الممكنة
السيناريو الأول: ان يقوم النظام وحلفاؤه بالحسم والغاء المعارضة.
السيناريو الثاني: ان تقوم المعارضة هي الأخرى بالحسم والقضاء على النظام.
وهذان الخياران مستبعدان ضمن موازين القوى القائمة على الأرض حالياً.
السيناريو الثالث: واما ان تستمر الحرب الاهلية والنتيجة مزيد من القتلى والدمار والمهجرين والانهيار الاقتصادي والجوع والبؤس الاجتماعي والهجرة والتهجير.
والاحتمال الأخير مرجح لان يستمر رغم انه الأسوأ. واذا كان هذا السيناريو سيستمر فمعنى ذلك ان مخطط برنارد لويس المؤرخ الصهيوني البريطاني الأصل هو الذي يتم وضعه موضع التنفيذ. هذا المخطط يقضي بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والاسلامية جميعاً كلاً على حدة ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وايران وتركيا وافغانستان وباكستان ودول الخليج ودول الشمال الافريقي… وتفتيت كل منها الى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية وقد ارفق بمشروعه المفصّل مجموعة من الخرائط المرسومة تحت اشرافه تشمل جميع الدول العربية والاسلامية المرشحة للتفتيت. هذه الخريطة تقسّم سوريا اقاليم متمايزة عرقياً او دينياً او مذهبياً (4 دويلات). دولة علوية شيعية (على امتداد الشاطئ)، دولة سنية في منطقة حلب، دولة سنية حول دمشق، دولة الدروز في الجولان ولبنان.
وهذا التقسيم يطال ايضاً لبنان حيث يشير الى دويلة سنية في الشمال (عاصمتها طرابلس)، ودويلة مارونية شمالاً (عاصمتها جونيه)، ودويلة شيعية في سهل البقاع (عاصمتها بعلبك)، مع تدويل بيروت وكانتون فلسطيني حول صيدا ودويلة درزية في اجزاء من الاراضي اللبنانية السورية والفلسطينية وكانتون مسيحي تحت النفوذ الاسرائيلي.
السؤال الذي يقلق كل وطني في هذا المشرق العربي: هل ان هذا المخطط قابل للتطبيق، وكيف يمكننا كمثقفين وكشعب ان نواجه هذا المخطط ونوصله الى الفشل والسقوط؟ وهل ستسمح السياسات الدولية بتمرير هذه الجريمة الموصوفة؟
السيناريو الرابع: وصول الاطراف الى تسوية بدعم اقليمي ودولي يضع حداً للحرب، وهذا الاحتمال هو المرجو على نحو يوفق بين بقاء وحدة الدولة السورية ارضاً وشعباً ومؤسسات، وتوافر الحرية والعدالة واحترام التعدد الطائفي والاتني والديموقراطي، واقرار برنامج اصلاح واعمار شامل على مختلف الصعد مدعوم من عرب النفط ومن كل دول العالم القادرة، يحقق العدالة وحقوق الانسان والتنمية المستدامة. وهذا الاحتمال هو المفضل لكل الاطراف في الداخل ولمستقبل الشعب السوري ولكل دول الجوار.
ان لبنان معني وجودياً بما يجري على الارض السورية. وان ترددات الزلزال الحاصل طالت وستطال اكثر الدولة التوأم لبنان.
فهل هناك من يفكر في عدم تقديم شبابنا ليموتوا في اتون هذه الحرب؟ ولماذا لا يستمر الجميع في الالتزام ببيان بعبدا، ولماذا لا نسرع في تقوية الجيش عدة وعدداً؟ وهل حقاً سنتقاعس عن انتخاب رئيس للجمهورية في المهلة الدستورية؟ واين هم اهل السياسة الذين يضعون الخطط الطارئة لمواجهة النزوح الديموغرافي ومفاعيله الخطيرة على الاقتصاد والامن والصحة والسياسة ووجود الدولة اللبنانية اساساً؟

السابق
حاصبيا: إصابات جديدة في الصفيرة
التالي
سقوط خيارَي الاستبداد والدولة الدينية معاً!