«لبنان الطوائف» واستحالة بناء دولة ونظام

لبنان

يصحّ اعتبار كتاب عبدالرؤوف سنو الجديد «لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف – إشكاليات التعايش والسيادة وأدوار الخارج» (المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، 2014) المجلد الثالث من مؤلفه «حرب لبنان 1975-1990 – تفكك الدولة وتصدع المجتمع». فهو يتابع ما بدأه من رصد لأسباب الحرب الأهلية وما أسفرت عنه في مجالات السياسة والاقتصاد والمحاولة التي لم يكتب لها النجاح لبناء دولة على أنقاض دولة 1943-1990.
يبدأ الكتاب بسرد تعريفي للطائفية والفروقات بين صنفيها السياسي والمجتمعي وعملهما بآليات مستقلة بنيوياً، قبل أن ينتقل إلى مناقشة فكرة الدولة الحديثة جازماً بغيابها الكامل عن لبنان وبوقوع التوافق بين الطوائف اللبنانية في خانة الأكاذيب. وينتقل بعد ذلك إلى طرح السؤال المأزق: لماذا لم يتطور النظام السياسي اللبناني وهل تشكل الطائفية الحل لبقاء لبنان؟
الوصول إلى الجواب الذي يقترحه سنو يمرّ مجدداً بعدد من التعريفات تتعلق بالديموقراطية التوافقية التي أطنب السياسيون اللبنانيون في الحديث عنها، مشدداً على أن الديموقراطية تقوم على حكم الأكثرية الأقليةَ سياسياً وليس اجتماعياً. ثم يستعرض الأطوار التي مرت بها الفكرة الكيانية والعلاقة مع المحيط.
الأجواء التمهيدية شبه الأكاديمية تبدو ضرورية للدخول إلى لوحة الحياة السياسية بعد اتفاق الطائف الذي كان من المفترض به أن يضع حداً للحرب، وأن ينقل اللبنانيين إلى صيغة أرقى من العيش المشترك تتيح لهم بناء مجتمع منفتح ومتعدد. ويقدم المؤلف في هذه المرحلة شرحاً للظروف العربية والدولية التي أفضت إلى منح النظام السوري تفويضاً بالإشراف على تطبيق الطائف على النحو الذي يراه مناسباً له، خصوصاً بعد الخسائر الجسيمة التي مُني بها الفريق المسيحي بسبب صراعاته الداخلية في المقام الأول، إضافة إلى انحياز المسلمين إلى جانب السياسة التي اتبعها حافظ الأسد. وبالفعل تعمل الإدارة السورية للبنان على إبقاء الشرخ الطائفي وتعميقه من خلال الاستثمار في المخاوف المسيحية وتضخيمها سواء من ناحية التلويح بإلغاء الطائفية السياسية بطريقة تعني مباشرة نزع المناصب التي اعتبرها المسيحيون ضمانات لهم كرئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، ومن ناحية إصدار مرسوم للتجنيس في 1994 جاء مختلاً اختلالاً شديداً لمصلحة المسلمين واللعب على فكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين وشراء أراضي المسيحيين والتمدد الديموغرافي الإسلامي في المناطق المسيحية. ولا تؤدي مهاترات السياسيين اللبنانيين وضحالة رؤيتهم لبلدهم وتمسكهم بمصالحهم الضيقة، سوى إلى تظهير الحاجة إلى وسيط بين متخاصمين لا يتعبون من اختراع أسباب نزاع تبدو كمشاجرات الأطفال المدللين. غني عن البيان أن الوسيط لم يكن غير النظام السوري وأجهزة أمنه الباسطة نفوذها على كل نواحي الحياة في لبنان.
ويلاحظ سنو أن الأرثوذكس انضووا بعد الحرب الأهلية في السياسة المارونية كلياً بعدما كانوا ينتقدون العسكرة المارونية والمواقف المتشددة تجاه دولة ما بعد الطائف، ويفسر ذلك بتجاوزات السوريين وأتباعهم اللبنانيين وتهميش المسيحيين سياسياً، وهو ما أنتج أجواء الإحباط المسيحي.
أجواء الإحباط المسيحي انتقلت مع انتخاب إميل لحود في 1998 إلى الطائفة السنّية بعد إطلاق لحود سلسلة من الملاحقات الكيدية لأنصار رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري الذي بدأ يفقد مكانته عند السوريين، خصوصاً بسبب استلام ابن الرئيس المريض حافظ الأسد، بشار، الملفَّ اللبناني.
ويستعيد الكتاب تفاصيل تلك المرحلة التي بدلاً من أن تشهد تطويق المرض الطائفي، عاشت تعميق الصدع بين الطوائف والمذاهب عبر رفض قانون الزواج المدني الاختياري في 1998 و2002، وفي تكريس الانقسام في المؤسسات التعليمية والفشل في تبني كتاب تاريخ رسمي موحد وصولاً إلى توزع وسائل الإعلام والأندية الرياضية والنقابات والجامعات على زعماء الطوائف. ويرى سنو أن إلغاء الطائفية السياسية قد يخفف أو يبرّد من الطائفية المجتمعية، لا أن يلغيها. بيد أن الحكومات اللبنانية لم تعمل على تشكيل اللجنة المولج بها إلغاء الطائفية السياسية والتي دعا الطائف إلى إنشائها، بل عملت على تعميق الخلافات والتناقضات الطائفية.
وبعد اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري في 2005، ومحاولات فرض موازين قوى جديدة عبر احتلال بيروت واتفـــاق الدوحة في أيار (مايو) 2008، عاد الحديث عن أزمة النظام اللبناني ووجد البعض أن طرح فكرة المثالثة يشكل مخرجاً مناسباً، بمعنى تقسيم السلطة بين المسيحيين والسنّة والشيعة بدل التقسيم السابق مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. التدقيق في هذه الصيغة أظهر استحالة تطبيقها من دون عنف واستئناف للاقتتال. لكن ذلك لم يحل دون فرض نسخة مخففة منها في ما عُرف بـ «الثلث الضامن» أو «المُعطِّل».
مهما يكن من أمر، فقد أعاد استعصاء بناء دولة حديثة قادرة على التعامل مع مواطنيها بحد أدنى من العدالة والأمن، طرح السؤال عن مستقبل لبنان ككيان مستقل وموحد، فبرزت مجدداً أفكار الفيديرالية وتحسين مركز المسيحيين في السلطة. والحال أن أصنافاً عدة من الفيديرالية غير الإقليمية، أي تلك التي لا تفترض نشوء مناطق صافية طائفياً، طرحت في الآونة الأخيرة على غرار «المشروع الأرثوذكسي» الداعي إلى اختيار كل طائفة نوابها ضمن المناصفة الإسلامية – المسيحية. في الوقت ذاته ترتفع عقبات كبيرة أمام مشروع الدولة المدنية يعيدها سنو إلى تمسك المسلمين بشرعهم، أي بحرصهم على بقاء أحوالهم الشخصية في أيديهم، من جهة، وتخوف المسيحيين من قيام دولة علمانية ملحدة تناهض الكنيسة، من جهة أخرى.
ثم يخصـص الكاتب فصلاً عن الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، مبيّناً جوانبها العسكرية وخلفياتها الديبلوماسية والكلفة البشرية والاقتصادية الهائلة التي دفعها لبنان ثمناً لها، مقابل فشل خطة الحرب الجوية التدميرية التي وضعتها إسرائيل وتصورت أنها قادرة على إلحاق الهزيمة بـ«حزب الله» بواسطتها ومن دون حرب برية مكلفة.
وينتهي الكتاب عند العودة السورية القوية إلى الشأن اللبناني بعد استيعاب الصدمة التي أحدثتها انتخابات 2009، والمصالحة السعودية – السورية، مشيراً إلى أن الدورين السوري والإسرائيلي في لبنان قضيا على ما تبقى من وحدة اللبنانيين وعلى مواطنيتهم وعلى إمكان الاستفادة من اتفاق الطائف للسير نحو المستقبل.

السابق
الجيش السوري وحزب الله دخلا يبرود
التالي
أقمار صناعية روسية تعرضت لهجوم إلكتروني من موقع في غرب أوكرانيا