عندما كانت أميركا صديقة العرب II

عندما اكتُشف البترول العربي في الثلاثينيات من القرن الماضي كانت أميركا قد بدأت باختراق النفوذ البريطاني في دول الخليج العربي، بدايةً بالتبادل الديبلوماسي مع المملكة العربية السعودية سنة 1933، أي بعد سنة واحدة من انشاء المملكة، ومن ثمّ الحصول على امتياز التنقيب في أراضيها واكتشاف أكبر احتياطي من البترول في العالم فيها. وبعد الحرب العالمية الثانية ضعف نفوذ انكلترا في المنطقة الى حد كبير وبدأ دورها ككفيلة لتدفق البترول العربي والإيراني الى أوروبا يتلاشى. إلا أنّ نهاية هذا الدور جاءَت مع انتفاضة رئيس وزراء ايران في حينه محمد مصدق الذي أمم شركة البترول الانكليزية (المسماة البريطانية الإيرانية) سنة 1951. حّركت انكلترا جيشها وأسطولها في المنطقة ولكن ذلك لم يثن مصدق. ولم تستطع انكلترا التخلص منه إلا بعد أن تدخلت إدارة الرئيس أيزنهاور بشخص وزير خارجيتها جون فوستر دالاس الذي وجه وكالة الاستخبارات الأميركية برئاسة شقيقه ألن دالاس لترتيب انقلاب عليه، فاعتُقل ونُفي الى قريته حيث وُضع تحت الإقامة الجبرية الى أن توفي في العام 1967 واستلم رئاسة الوزراء قائد الانقلاب فضل الله زاهدي الذي نصبته وكالة الاستخبارات، فأعاد الأمور الى ما كانت عليه مع شركة البترول الآنفة الذكر. ومنذ ذلك الحين سلّمت أوروبا، وبالتالي دول شرق آسيا، أميركا مهمة حماية تدفق البترول إليها الذي كان قد أصبح ضرورة كبرى لاقتصاداتها.

وضعت أميركا خطاً أحمر لكل من يتلاعب أو يهدد بالتلاعب بتدفق البترول من الخليج نحو أوروبا وأميركا وشرق آسيا. فعندما قام صدام حسين مثلاً بالدوس على الخط الأحمر في غزوته للكويت سنة 1990 حشدت الولايات المتحدة خلال سبعة أشهر ما يقارب الستمئة ألف مقاتل، إضافة الى حوالي 200 ألف جندي من 18 دولة حليفة، فأخرجت صدام من الكويت وظلت تحاصره عسكرياً واقتصادياً الى أن نالت منه.

ثانياً: ألحركة الصهيونية

بدأت الحركة الصهيونية المعاصرة مع المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في ألمانيا سنة 1897 بقيادة ثيودور هرتزل، وتركزت في بدايتها في أوروبا، بخاصة في إنكلترا حيث لقيت، بمعاونة يهود أوروبيين أمثال عائلة روتشايلد، نجاحات ديبلوماسية كبيرة، لربما أهمها رسالة بالفور وزير خارجية إنكلترا الى البارون وولتر روتشايلد سنة 1917، التي أعلن فيها تأييد انكلترا إقامة دولة يهودية في فلسطين. كما قررت عصبة الأمم سنة 1922 وضع فلسطين تحت الانتداب الانكليزي.
أميركا الرسمية والشعبية بغالبيتها لم تكن مؤيدة لهذه التحركات الأوروبية تجاه المنطقة العربية. الرئيس ويلسون أرسل بعثة كينغ – كراين الى الشرق الأوسط سنة 1919 لتقييم الأمور، وعادت بتقرير يحذر الرئيس الأميركي من أنّ إنشاء دولة يهودية في فلسطين سيجر أميركا الى حرب في الشرق الأوسط، وأنه من الضروري أن يُسأل الشعب هناك عن رأيه في هذا الخصوص، مذكراً أنّ الشعور المعادي للصهيونية منتشر بشكل كبير في فلسطين وسوريا، وأنّ اليهود لا يشكلون سوى 10 في المئة من سكان فلسطين.
وفي نهايات الحرب العالمية الثانية ذهب الرئيس فرانكلين روزفلت، مباشرة بعد اجتماع يالطا الشهير الذي جمعه مع تشرشل وستالين، للقاء العاهل السعودي الملك عبد العزيز آل سعود، بداية لاقناعه بإنشاء دولة يهودية في فلسطين بحسب وعد بلفور، ولكن نهاية باقتناعه هو بعدم أحقية إنشاء مثل هذه الدولة، إذ وعد روزفلت العاهل السعودي بأنّ أميركا لن تتخذ أي موقف من دون استشارة العاهل السعودي نفسه وكذلك القيادات العربية الاخرى.
التحول الكبير بدأ في عهد الرئيس هاري ترومان الذي كان أكثر الرؤساء الأميركيين حساسية للخسارة والربح في الأصوات الانتخابية لأي قرار يتخذه، بصرف النظر عن أخلاقيته ونتائجه على أميركا. فعندما احتدم النقاش حول موقف أميركا من إنشاء دولة اسرائيل كانت وزارة الخارجية الأميركية معارضة لإنشائها وكان وزير الخارجية، الجنرال جورج مارشال، الذي يحظى باحترام ترومان، ينبه ترومان بشدة الى أنّ إنشاء دولة اسرائيل سيسبب حروباً تدوم سنين طويلة، ولكن حسابات ترومان الانتخابية، بشكل رئيسي، دفعته الى دعم تقسيم فلسطين. على سبيل المثال، عندما زاره أربعة رؤساء بعثات عربية للأمم المتحدة لشرح عدم أحقية تقسيم فلسطين كان جواب ترومان حرفياً: «أنا آسف أيها السادة، ولكن عليّ أن أستجيب لمئات الألوف المتلهفين لنجاح الصهيونية وليس لديّ مئات الألوف من العرب بين جمهوري من الناخبين».

النهاية
إنشاء إسرائيل سنة 1948 بمساعدة الولايات المتحدة، التي كانت قد أصبحت القوة العالمية الأولى، نقل تركيز الحركة من أوروبا الى أميركا، فأنشأ اليهود الأميركيون مؤسسة اللوبي الإسرائيلي الكبرى «إيباك» سنة 1951 لتصبح، بعد أقل من عقد من الزمن، أحد أقوى اللوبيات العاملة مع الكونغرس والإدارة الأميركية، لدرجة أنه أصبح اليوم من الصعب على الكثير من أعضاء المجلس النيابي الأميركي ومجلس الشيوخ النجاح بالانتخابات من دون المساندة بالمال وبالأصوات الانتخابية التي يوفرها اللوبي الإسرائيلي.
كان لا بد للوبي الإسرائيلي لإكمال مهمته من تغيير الصورة الرومانسية للعرب. ما ساعده على ذلك سيطرة اليهود الاميركيين على الكثير من وسائل الاعلام الكبرى، وخاصة سيطرتهم على إنتاج الافلام في هوليوود. تغيرت خلال الخمسينيات من القرن الماضي صورة العربي في السينما بشكل جذري، فرودولف فالنتينو الوسيم، بعمامته البيضاء وحصانه الابيض، استُبدل بالعربي الشرير معكوف الانف بعباءته السوداء وحصانه الاسود. وعلى سبيل المثال، ففي فيلم «أغنية الصحراء»، الذي عرض سنة 1929، كان العرب فيه أناساً طيبين يساعدون الفرنسيين الطيبين على محاربة الفرنسيين الشريرين، ولكن عندما أعيد إنتاج الفيلم سنة 1953 ظهر العرب أناساً فوضويين وغير مهذبين ومتناحرين وأحدهم مؤيد للنازية. وفي الثمانينيات اصبحت صورة العربي في هوليوود، كما يقول سيدني هاريس، أحد كبار نقاد المسرح والسينما ألاميركيين، «أسطورية كما كانت صورة اليهودي من قبل، إذ أصبح بعباءته وكوفيته شريراً خطيراً متورطاً بشكل أساسي في اختطاف الطائرات وفي تفجير المباني». بالمقابل اصطلح أنف اليهودي المعكوف في أفلام هوليوود ما قبل الخمسينيات وتحول من مُرابٍ يستغل المحتاجين الى بطل يدافع عن وطنه بيد ويحوّل الصحراء الى حدائق باليد الأخرى. وعادت الى الواجهة فكرة المبشرين الطهرانيين الأولين بأنه من الضروري ـ دينياً ـ أن يعود اليهود الى فلسطين وينشئوا دولتهم فيها ليتلقوا عودة السيد المسيح، وترعرعت بالتالي حركة «المسيحيين الصهاينة»، كما يسمون أنفسهم، ما عزز المساندة الشعبية لإسرائيل.
وهكذا انتهى شهر العسل بين العرب وأميركا الرسمية والشعبية الذي دام حوالي القرن ونصف القرن، وأصبحت سياسة أميركا تجاه «المشرق العربي» مبنية على ركيزتين إستراتيجيتين منذ ستينيات القرن الماضي: حماية النفط بتكليف من الدول الاوروبية والشرق أسيوية بشكل خاص، وحماية إسرائيل بإشراف ومراقبة اللوبي الاسرائيلي. الركيزة الاولى تساندها داخلياً شركات النفط ذات النفوذ السياسي الكبير، إضافة الى حاجة أميركا لنفط الخليج، والثانية يدعمها رأي عام أميركي يتغذى بشكل متواصل من أفلام سينمائية وبرامج تلفزيونية مساندة، أي من المصدرين الاساسيين لمعلومات الاميركي العادي عن العالم الخارجي.

السابق
الاخبار عن فيلتمان: ألا يساهم وصول عون للرئاسة بالحفاظ على مسيحيي لبنان
التالي
«الجهاد الإسلامي» تُطلق صواريخ أخرى بعد 30 غارة إسرائيلية على غزة