يساريو لبنان وسوريا: إنتهازيون يخونون طبقتهم

لعل من تابع الأزمة السورية من بدايتها، أي منذ مارس 2011، لاحظ سلميتها، ومطالبها البسيطة التي اقتصرت على الإفراج عن أطفال درعا الذين أشعلت كتاباتهم نار حقد النظام على هذه المحافظة التي كانت تُنعت بـ “خزّان حزب البعث”. إضافة الى مطالب لم ترُق لأجهزة أمن النظام، كمطلب كفّ يدها عن رقابهم وأرزاقهم. من هنا كانت البداية، والحرب مازالت مشتعلة لم تنته بعد، فكيف تعاملت قوى “اليسار” في سوريا ولبنان مع هذه الأزمة؟ وأي موقع اتّخذت؟ ولماذا؟

من المعروف أن قوى “اليسار” الممثّلة بأحزابها “الشيوعية” الثلاثة: (بكداش / يوسف الفيصل / قدري جميل)، تتبنّى أيديولوجية واحدة، وبالتالي لا فروقات في الممارسة السياسية فيما بينها. ثم أن هذه الفصائل الثلاثة متحالفة مع “حزب البعث العربي الإشتراكي” فيما يُعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدّمية”، وتدخل معه بمحاصصة شكلية في السلطة، يتحمّلون فيها معه أوزار موبقاته المتمثّلة بفساد لا يحتاج كثير تحليل لإظهاره.

كان المبرّر الوحيد لهذا التحالف منذ السبعينات إلى اليوم معزوفة “تحرير فلسطين” التي اعترف بها النظام السوري مؤخّراً على أراضي العام 1967، فيما كان قبلها يفاوض العدو الصهيوني، سرّاً وعلناً. في المقابل، تشرذمت قوى “اليسار” اللبناني (وهي متشرذمة أصلاً) بالتحاقها بهذا الإصطفاف أو ذاك، أو بوقوف بعضها “الإيجابي” على الحياد. إضافة لاضمحلال بعض القوى مثل “منظمة العمل الشيوعي” واندماج أخرى بغيرها مثل “اتحاد الشيوعيين” الذي اندمج بـ”الحزب الشيوعي”. هكذا تتوزّع قوى ما يُعرف بالـ “اليسار الرسمي” في الجارين الشقيقين. وما إن بدأت الثورة السورية بالإشتعال، حتى تماثلت مواقف كل هذه القوى، بالوقوف ضدّها، وإعادة التأكيد على التحالف مع النظام السوري، و “حزب الله” بذريعة حماية “المقاومة”، مفترضين أن الثورة قامت ضدّها! فهل انسجم هذا الموقف مع الأيديولوجيا التي تتبناها هذه الأحزاب؟ ماركسياً، أي علمياً، لا فصل بين الصراع الطبقي والصراع الوطني إلا بالوهم. فهذا وجه لذاك، والعكس صحيح، وبالإستناد إلى مهدي عامل مثلاً، فإن الوطنية هي: “مرحلة تاريخية متميّزة من مراحل الصراع الطبقي”. ومن البديهي أنّ قوى اليسار في علاقة تناقض إن مع النظام، أو مع “حزب الله” في الجانب الطبقي. أو حتى في مسألة المقاومة، وفي اختلاف القراءات، والمنطلقات، والمواقع الطبقية بين هذا وذاك، فالإثنان – النظام، والأحزاب الطائفية الداعمة له – وجهان للبرجوازية الكولونيالية الصغيرة ذاتها. الأول يجد في النظام الطائفي التربة الخصبة لسيطرته وفرض سطوته، والثاني يجد في “الفكر القومي” مبتغاه للهدف ذاته. إذاً فإنّ تحالف “اليسار” مع هذا الصنف من البرجوازية كان بهدف حلحلة التناقض في جانبه الوطني. وقد استمرّ هذا التحالف حتى بعدما طغى الجانب الطبقي فيه بثورة شعبية عارمة، اتّهمت من قبل هذا “اليسار” بأنّها قامت ضد “المقاومة”، وفي مرحلة لاحقة اتّهمت بالعنف والتسليح، مع أنّ الماركسية من ألفها إلى يائها لا تتحدّث عن ثورة سلمية، إلا في وهم المتسلّلين لقيادة الأحزاب البروليتارية من أبناء الطبقات البرجوازية الصغيرة.

والملفت أنّ هذه الإتّهامات كانت متطابقة ومتزامنة مع موقف النظام السوري و”حزب الله” ومن لفّ لفّهما، حتّى لكأنّك تشعر أنها بإيعاز منهما. وعلى فرض أن “المقاومة” هي الخطّ الناظم الوحيد للممارسة السياسية لهذه الأحزاب، فهل يعني هذا أن موقف هذه الأحزاب اليسارية منها (من المقاومة) هو هو موقف النظام السوري وحلقائه الطائفيين؟

ثم كيف يُفهم تعدّد هذه الأحزاب باصطفافات هي بالضرورة تعبير عن انقسامات فئوية ضمن الطبقة المسيطرة نفسها؟ وما دور الأحزاب الماركسية في لحظة تاريخية تفجّرت خلالها ثورة شعبية بهذا الحجم؟ وكان من نتيجتها إفقار وتجهيل أكثر من نصف الشعب السوري؟

ثم ما الفارق بين هذه الأحزاب “الماركسية” وبين القوى الطائفية الأخرى من ذوات الصف الثاني التي لا يُسمع صوتها، إلا أنّها موجودة لحماية كيانات الصف الأول إن لزم الأمر (بمعنى احتياط سلطة عند اللزوم وما أكثرها في لبنان)؟ الوطنية هي مرحلة تاريخية متميّزة من مراحل الصراع الطبقي، أي أنّها مرحلة طارئة لا تُبنى عليها استراتيجيات، ويجب ألا تتلازم مع قوانين الطوارئ التي فرضتها الأنظمة العربية بحجّة الصراع مع العدو. بينما كانت في حقيقتها تأبيدا لسلطتها: فهل تمايزت التنظيمات “الماركسية” عن أخصامها الطبقيين في هذا؟ الغريب، أن هذه التنظيمات لم تقُم حتى اليوم بأي عملية نقد لممارساتها، أو ممارسات حلفائها، مع العلم أن ممارسة النقد واحدة من الثوابت الأيديولوجية لهذه الأحزاب. ما يشي بواحدة من اثنتين، إمّا أن هذه الأحزاب راضية تمام الرضا عن ممارسات حلفائها من تنظيمات الطبقة النقيض، أو أن هناك تشوّش ما يمنعها من ممارسة هذا النقد، حتى لا نقول بثالثة مفادها أن هناك مصالح انتهازية ضيّقة تمنعها من ذلك.

وفي الحالتين (أو الثلاثة) انزلقت هذه القوى إلى مهاوي الطرف النقيض، فأصبحت في الموقع المعادي لشعوبها، وللقناعات التي من المفترض أنّها تتبنّاها. لو عدنا الى التاريخ القريب، أي أيلول 1982، لاكتشفنا أنّه فيما كان لبنان يتخبّط في حرب أهلية طائفية طاحنة، استدرجت العدو الذي فرض على البلاد رئيساً للجمهورية، ثم اتفاقاً مذلاً معه… في هذا التاريخ انطلقت قوى اليسار لتأخذ دورها التاريخي في الصراع، متمايزة عن كل ما عداها من أطراف الصراع الداخلي. فكان الموقف صحيحاً، بغض النظر عن النتائج التي اتّضحت فيما بعد بما آلت إليه أحوال البلاد وأحوالهم. لكنها النتائج التي أبقت اليسار طرفاً أساسياً يُحسب حسابه في أي معادلة داخلية، رغم تزامن ذلك مع انهيار “الإتّحاد السوفييتي”. وهو كان الداعم الرئيسي وقتها. في النتيجة: تكلّس أحزاب “اليسار”، وانتهازيتها، وارتكابها الخيانة الطبقية والوطنية، دليل على التباس بين موقعها الطبقي في الصراع وأسماء مضلّلة تحملها من مراحل خلت، وهي ستزول بزوال من تدافع عنهم. فيما يولد من رحم الصراع يسار آخر لم تتّضح معالمه بعد، لكنه آتٍ كضرورة سيفرضها منطق التاريخ في تفلّته من واقعٍ كان يكبته.

السابق
لمى سلام استقبلت سيدات المقاصد
التالي
مصر تمنع دخول 58 ناشطة سياسية بصحبة المناضلة جميلة بوحريد