استئناف الخرافة يحاصر الثورات العربية

الثورات العربية

من يضع الفتاوى التي يصدرها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش»، وتبني الجيش المصري اختراع آلة كشف مرض الإيدز وعلاجه، في إطار النتائج التي أسفرت عنها الثورات العربية، سيخلص إلى الاعتقاد بأن وضع بلادنا زاد سوءاً على سوء.
فتاوى «داعش» وأحكامها الرامية أساساً إلى فرض هيمنتها على المجتمع وآخرها ما سمّته عقد الذمية مع مسيحيي الرقة، وإعلان الجيش المصري أن الجهاز الذي كشف النقاب عنه في مؤتمر صحافي حضره رئيس الدولة الموقت، قادر على تحقيق ما عجز الطب الحديث منذ عقود عن تحقيقه في القضاء على مَرَضَيْ الإيدز والتهاب الكبد الوبائي- سي، يصدران عن أصل واحد ما زال يشكل عنوان تعامل السلطات، كل السلطات، مع المجتمع أو الشعب، وخلاصته قدرة السلطة على استغباء المواطنين العاديين الذين يتعين عليهم تصديق كل ما يصدر عن السلطة لمجرد أنها كذلك.
لا قيمة حقيقية لفتوى عقد الذمة الداعشي من وجهة النظر الفقهية، لمخالفتها ليس فقط الشروط الموضوعية لتلك العقود في أيام الإسلام الأولى، بل لوقوفها ضد كل ما تبنته المدارس الفقهية الإسلامية الكبرى من اعتراف بتبدل الأحكام بتبدل الأحوال. ولا معنى لجدال في صحة وسلامة الاختراع الطبي الذي أعلن عنه أحد الضباط المصريين. فأصغر طبيب في أبعد قرية يعرف كيف يجري اعتماد الأدوات الطبية الجديدة والطرق الطويلة من التجارب والاختبارات التي ينبغي أن تمر بها.
المهم أننا نعيش ما يشبه العودة المظفرة للأسطورة والخرافة إلى صدارة المشهد العام في العالم العربي. أسطورة «العدل» الإسلامي المطبق عنوة على الأقليات بعد مئات الأعوام من تسوية تاريخية أتاحت تعايش هذه المجموعات أو تساكنها، على الأقل، وخرافة المعجزات العلمية التي تناقض مسارات اتفق العلم الحديث عليها.
العودة الخطيرة هذه تقودنا إلى التساؤل عن الدور الذي كان يفترض بالتفكير السياسي أن يؤديه في رفع سوية مجتمعاتنا منذ انطلاق الثورات العربية. والحال أن الدور هذا لم يحرز انتصارات تذكر. فقد زج القسم الأكبر من الكتّاب والباحثين العرب أنفسهم في نوعين من الأعمال: الأول هو العرض الوصفي لموبقات الأنظمة العربية وآثامها مع مقاربة للأبعاد الاجتماعية والطبقية والاقتصادية للسياسات التي اتبعتها وقادت إلى الانتفاضات والثورات. والثاني هو تفنيد ذرائع أنصار الأنظمة المتهالكة الرافضة حتى اليوم للإقرار بانتهاء دورها.
بكلمات ثانية، لا يتسم بقيمة معرفية جدية أي سجال مع أصحاب مقولات الممانعة أو الحاكم القوي العادل. ذلك أن ما يريده هؤلاء، ومن دون تورية، هو تجميد عقارب الساعة في مكانها إذا عجزوا عن إعادتها إلى وراء. الحفاظ على حكم الأقليات العسكرية والطائفية ومنع تغيير آليات توزيع الثروات، وكسر الهيمنة السياسية والثقافية على المجتمع. كل فذلكات من نوع أولوية الاستقرار واستعادة النمو وصولاً إلى مسخرة «الديالكتيك المشرقي»، ليست غير عبارات فارغة من كل معنى، يكفي لدحضها مقال يومي أو حتى تعليق على موقع للتواصل الاجتماعي.
أما الجهد الذي انصب على تحليل مكونات الأنظمة السابقة وكشف علاقاتها الداخلية وطرق عملها، فهو حكماً أكثر أهمية وضرورة. فالدروب التي سلكتها أنظمة حكم استطاعت الإمساك بخناق الشعوب العربية لعشرات السنين، جديرة بالقراءة المتأنية بهدف استخلاص الدروس والتأمل في الخلفيات الواقعية لمجتمعات هذه المنطقة. لكن تجـاوز هذه المهمة واعتبارها مقدمة لما ينبغي النظر فيه ودرسه جزء مؤسس لما يفترض أن يحتل مركز الأهمية في المستقبل.
عليه، قد يكون من الأجدى أخذ الأعمال التي خصصت لدرس أنظمة الحكم العربية في العقود الماضية بوجوهها كافة، السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والانطلاق منها لرسم خريطة طريق لمستقبل عربي أقل قمعاً وأكثر حرية وانفتاحاً واندماجاً بالعالم المعاصر. الشرط الشارط لذلك هو الإقرار بأن حقبة طويلة طُوِيَت صفحتها إلى غير رجعة بكل مفاهيمها وقيمها الزائفة، وأن أقنعة السلطة القديمة سقطت ولن يمكن بحال ترميمها وبعث الروح فيها.
لا يعني ذلك أننا على عتبة عصر ذهبي للحريات والديموقراطية والتنوع في منطقتنا. بل إن المؤشرات المتوافرة اليوم تكاد أن تقول عكس ذلك. فالعصر الذي نوشك على دخوله يحمل من الأخطار والصعوبات ما يبرر حنين بعضهم إلى ماضٍ آمن ومستقر وإن كان فقيراً من النواحي الأخلاقية.
ولعل الصعوبات المقبلة تفوق ما عرفته الشعوب العربية على أيدي أنظمة الحقبة الماضية. فنحن هذه المرة أمام تراكمات العقود المفقودة من التنمية والتعليم وأمام مشكلات تضرب عميقاً في البنى الاجتماعية والثقافية وتشكل جزءاً من هويات أبناء هذه المنطقة، مثل علاقات الجماعات وحقوقها وهواجسها وعقدها. تُضاف إلى ذلك كله المصاعب المرتبطة بالعالم وأزماته الاقتصادية والبيئية والجيو-سياسية.
لكن المسألة التي لا مفر من الاعتراف بها هي أن طريق العودة إلى الماضي مقطوعة، وأن الخيارات أمام العرب ضئيلة وقاسية، ويمكن تلخيصها بضرورة تعويض وجوه النقص الخطيرة التي تعتور مجتمعاتهم وبتبني سياسة مسؤولة حيال الأجيال المقبلة، أو بالاستسلام لأشباه من يصدرون الفتاوى في «داعش» ويروّجون لاختراعات خرافية ضررها أكبر من فائدتها.

السابق
جمهور ‘حزب الله’… جمهور النظام السوري
التالي
مصدر في ‘حزب الله’ لـ ‘الراي’: إسرائيل تُخطّط لتكرار سيناريو ‘جيش لحد’ في سورية