قرار الممرات الإنسانية

ها هم المتفرجون الأبعدون، يقررون مجتمعين، فتح ممرات إنسانية، أشبه بالثغرات، لإنقاذ العربي من العربي، على النحو الذي يُعد سابقة شائنة في تاريخنا القومي. فالنظام السوري، لا يزال يمارس عنفه الهستيري، غير هياب ولا متردد. يحصد الأورح ويهدم العمائر على رؤوس ساكنيها، ومن لا يقتلهم بالنار، يُجهز عليهم بالجوع والخنق.

لكن العالم، بدا اليوم، أعمق إحساساً بالعار الذي يلحق بالاجتماع الإنساني كله، فيما براميل الموت تهطل على اشقائنا السوريين. والمتطرفون المشبوهون، في لبوس المعارضة، بات دورهم تحت التمحيص والتأمل، وسيُعرف لاحقاً، من هم ـ بالضبط ـ الذين تكفلوا بإحضارهم أو أطلقوهم من السجون، وماذا كانوا يريدون. فهؤلاء، من جهتهم، ليسوا أقل استهتاراً بأرواح السوريين، من أولئك الخائضين، أيرانيين كانوا أو لبنانيين أو عراقيين، في محاولتهم اليائسة إنقاذ مشروع أقلوي طائفي انكشفت كل أخاديعه ومساحيقه. فنحن اليوم في زمن مختلف، إن ازداد فيه جفاء الإنسان للإنسان، وازداد نكران الدم؛ فإن الحقائق لا يمكن كتمانها. وليس الأمر مثلما كان في زمن الأسد الأب، الذي لم تكن حاضرة فيه أدوات التواصل ولا حتى شاشات التلفزة القوية الفاضحة!

قرار مجلس الأمن الصادر في الليلة الماضية، والمنقوصة فيه النقاط اللازمة على الحروف؛ جاء متأخراً جداً، على الرغم من اختلاف البيئة الدولية عنها قبل ثلاثين عاماً، عندما كانت أجواء الحرب الباردة تهيمن وتحمي المستبدين وأفاعيلهم وتصعّب إطاحتهم والتخلص منهم بذريعة “السيادة الوطنية”. فقوى الاستكبار، لا تقيم وزناً للسيادات الوطنية، كلما وجدت مصالحها في الانتهاك تحت عناوين الانتصار للعدالة. كان السؤال الكبير، طوال السنوات الثلاث التي جرت فيها المقتلة السورية: هل تتوافر للمتفرجين أسباب وجيهة لانتهازيتهم تفوق في أهميتها كل هذا التجاوز المروّع للقيمة الإنسانية للبشر؟ وأية قيمة نبيلة “ممانعة” أو “مقاومة” لدى من يقتلون؟ وأي حرب على الأصولية باسم الأكثرية، التي يخوضها أصوليون أقلويون أكثر استعداداً للبطش بالناس واختطاف الأوطان والمجتمعات، وأعمق كراهية للديمقراطية، فيما هم يتسمون بأسماء الزاهدين كأبي الفضل العباس وسواه؟ وأية “مقاومة” ذات “وعدٍ بالنصر” هذه، التي تفتش عن عدوها في أزقة البلدات وفي الأرياف السورية، وفي تخوم المدن؟ وأية عدالة تتلطى بالرب، تلك التي تفجر السيارات المفخخة وسط عابري السبيل الأبرياء، سواء في ضاحية بيروت الجنوبية أو في طرابلس أو غيرهما؟!

قرار مجلس الأمن، في الليلة الماضية، لم يبت تفصيلاً في أمر القاتل العربي ولا في أمر أخيه القتيل، بقدر ما اختص بالأحياء الذين أصبحوا ـ بالملايين ـ في حاجة الى الإغاثة، عبر ممرات انسانية، تتوخى فتح الثغرات في طوق يضربه العربي على العربي قاصداً الإجهاز عليه؟ أي عار يلحق بهذه الأمة التي اكتشفت أنها في حاجة الى انفعال لكسمبورغ على قتلاها وجائعيها وجرحاها والمهددين منها بالموت؟!

لم يستفد القتيل السوري، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، من التحولات الدولية والإقليمية، التي يُفترض أنها لمصلحة الشعوب والحرية، مثلما لم يستفد الشهداء الفلسطينيون، ناهيك عن الأحياء، من مقولات ذي العمامة السوداء، عن القدس والأقصى والمقاومة، فيما هو يلعلع بلغة العظماء المتعالين، ويحلق في سماوات لا ترقى اليها مخيلات الفاتحين!

الانسداد الحاصل في موضوع سوريا، وهو ما أفشل المحاولة في “جنيف 2” ليس إلا بسبب استعصاء الفهم على الواهمين ممن يقترفون الفظائع، سواء كانوا من النظام ذي الأسهام الأكبر بكثير في إزهاق الأرواح، أو من المتطرفين الأصوليين الذين قصرت معهم إمكانيات القتل ولا يملكون المروحيات ذات البراميل. فهؤلاء لا يريدون أن يقتنعوا بأن المستقبل لن يستنسخ الماضي، أياً كانت صور هذا المستقبل، على الرغم من إدراك كل الأطراف التي تقتل، أن أي انتصار تَعِدُ نفسها به، سيكون له طعم الهزيمة المريرة، بفعل ما وصل اليه حال سوريا، وبتأثير كل الجراحات والأحزان التي أوقعوها في الناس. ذلك على الرغم من كون الانتصار، شاءت هذه الأطراف أم أبت، لن يكون إلا للشعب العربي السوري، الذي يعي بأن نظام الفظائع طوال تاريخه، والمتطرفين الأصوليين الأوغاد الذين لا يعرفون معنى التقوى؛ لن يكون لهم وجود في مستقبل سوريا.

على الرغم من ضآلة الأهمية، في قرار مجلس الأمن الصادر في الليلة الماضية؛ فإن ما يُقرأ من بين السطور، هو أن العالم لن يصبر طويلاً على إبقاء الكارثة السورية مفتوحة الأفق، نحو المزيد من التردي. بل إن الإقليم والعالم، لن يصبر لمدة أطول، على نظام بات مضرب المثل في العناد وفي الاستئثار السلطوي، ولا يدفعه الى تقديم أي تنازل، كل ما نما وينمو على جنبات نيرانه من أحقاد!

السابق
انفجار سيارة مفخخة قرب مستشفى في أطما على الحدود مع تركيا
التالي
فرنسا تنتج «سيارة طائرة»